الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

الفاروق و سياسة إِنشاء الثُّغور والأمصار...
قواعد عسكرية ومراكز إِشعاعٍ حضاريٍّ

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الحادية والأربعون

مع توسع حركات الفتوحات اهتمَّت الدَّولة الإِسلاميَّة في عهد الفاروق ببناء المدن على الثُّغور، وتسهيل سبل المواصلات، وإِصلاح الأراضي، وكذلك تشجيع الهجرة إِلى مراكز التَّجمُّع الجهاديَّة، والتَّحوُّل إِلى البلدان المفتوحة لنشر الإِسلام، وإِمداد المجاهدين بالرِّجال، والعتاد. وأهم الأمصار الَّتي أنشئتهي: البصرة، والكوفة، والموصل، والفسطاط، والجيزة، وسرت، وقد خطِّطت، ووزِّعت بين الجيوش بحسب قبائلهم وألويتهم، وأنشئت فيها المرافق العامَّة، كالمساجد، والأسواق، وأنشأى لكلِّ مدينةٍ حمى لرعي خيل، وإِبل المجاهدين، وشجَّع النَّاس على استقدام أهليهم، وذراريهم من مدن الحجاز وأطراف الجزيرة العربيَّة للإِقامة في هذه المدن؛ لتكون قواعد عسكرية تنطلق منها تعبئة الجيوش، وإِمدادها للتوغُّل في أرض العدو، ونشر دعوة الإِسلام فيها، وقد أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ قادة الجيوش عند تخطيط هذه المدن أن يكون الطَّريق بينها وبين عاصمة الخلافة سهلاً، وأن لا يحول دونها بحارٌ، أو أنهار؛ لأنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يخشى من جهل العرب حينئذٍ بركوب البحر، ولكن عندما أدرك قدرة الجيش الإِسلامي في مصر على استغلال الطُّرق المائيَّة النَّهرية، سمح لعمرو ابن العاص بشقِّ قناة نهريَّة تصل بين نهر النِّيل، والبحر الأحمر؛ حتَّى تنقل الإِمدادات من الطَّعام إِلى الحجازكما مر معنا.
لقد قام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بتمصير الأمصار، وتجنيد الأجناد مع توسُّع رقعة الدَّولة، وكثرة الفتوحات، وبعد الشُّقة بين المسلمين، فقد احتاج الجند إِلى أماكن يستريحون فيها من عناء السَّفر، فلا بدَّ لهم من منازل يأوون إِليها شتاءً، وإِذا رجعوا من غزوهم، فوُجدت الدَّواعي لبناء المدن، وما دام هدف الفتوحات هو نشر الدَّعوة الإِسلامية، وتبليغها للأمم، والشعوب، والأفراد؛ فكان لا بدَّ من إِقامة حياةٍ إِسلاميَّة تلمسها هذه الأمم، والشُّعوب، ويحسُّ بها الأفراد، فبنيت الأمصار الإسلاميَّة على نمطٍ إِسلاميٍّ تُطبَّق فيها الحياة الإِسلاميَّة كاملةً كنماذج للمجتمع الإسلامي، فالكوفة، والبصرة، والفسطاط، والموصل مدنٌ إِسلاميَّة، توسَّط كلاًّ منها المسجدُ، وانتشرت من حوله البيوت للجنود.
وفي هذه المجتمعات النَّموذجية تمركزت الفكرة الإِسلاميَّة بقوَّتها، ومبادئها، القوَّة ممثَّلةٌ في الجيش كلِّه، والفكرةُ ممثَّلةٌ في كتاب الله، مجتمعاتٌ كاملةٌ تطبِّق أحكام الله على نفسها في كلِّ أمر، وعلى استعدادٍ دائماً لبذل الدِّماء في سبيل الله، ومن هذه المجتمعات انبثق الإِسلام نوراً على البلاد؛ الَّتي افتتحها، فوجَّهت أبناءها، وطبقت العدل في حكمها، وقبلت من أسلم فيها، وهذه أبرع الأساليب في تبليغ الدَّعوة، وعرض الفكرة على الأجانب عنها. وفي الشَّام لم تنشأ فيه أمصار إِسلاميَّة، لأنَّها زخرت بالدُّور الَّتي هجرها أهلها الرُّوم، وجلوا عنها، فاستولى عليها المسلمون، وصارت لهم أخائذ تغنيهم عن بناء دورٍ جديدة، ولكثرة العرب في الشام، حيث كانت كلُّ قبيلةٍ تجد لها أقارب هناك، ولذلك ظهرت الأجناد في الشام.
ومن أهم الأمصار التي مُصِّرت في عهد عمر رضي الله عنه:
ـ مدينة البصرة:
معنى البصرة في اللغة: الأرض الغليظة ذات الحجارة الصُّلبة. وقيل: الأرض ذات الحصى. وقيل: الحجارة الرِّخوة البيضاء. والبصرة مدينة عند ملتقى دجلة، والفرات، ويعرف ملتقاهما بشطِّ العرب، وقد روعي في تمصيرها فكرة عمر بن الخطَّاب في إِنشاء المدن في مراعاة الطَّبيعة العربيَّة، فموقعها قريبٌ من الماء، والمرعى في طرق البرِّ إِلى الرِّيف، وكان سبب نزول المسلمين بها في عهد أبي بكرٍ: أن قطبة بن قتادة الذُّهلي، أو سويد بن قطبة على اختلاف في الرِّواية كان يصاول الفرس في جماعة من قومه في ناحية البصرة، فأبقاه خالد بن الوليد والياً وقائداً في ناحيةٍ. فلمَّا صارت الخلافة إِلى عمر عيَّن عتبة بن غزوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّابقين الأوَّلين والياً، وقائداً لهذه النَّاحية، وقال له: أشغل من هناك من أهل الأهواز، وفارس، وميسان عن إِمداد إِخوانهم. وأمر قطبة، أو سويداً بالانضمام إِليه، فسار إِليه عتبة في أكثر من ثلاثمئة رجلٍ، وانضمَّ إِليه قطبة فيمن معه من بكر بن وائل، وتميم، فنزلها في شهر ربيع الأوَّل، أو الاخر عام 14 هـ.
واستشار عتبة عمر بن الخطَّاب في تمصير البصرة، فأمره أن ينزل موقعاً قريباً من الماء، والمرعى، فوقع اختياره على مكان البصرة، وكتب إِليه: إِنِّي وجدت أرضاً في طرف البرِّ إِلى الريف، ومن دونها مناقع ماء، فيها قصباء، فكتب له: أن انزل فيها. فنزلها، وبنى مسجدها من قصبٍ، وبنى دار إِمارتها دون المسجد، وبنى النَّاس سبع دساكر من قصبٍ أيضاً؛ لكثرته هناك، فكانوا إِذا غزوا؛ نزعوا ذلك القصب، ثمَّ حزموه، ووضعوه حتَّى يعودوا من الغزو، فيعيدوا بناءها كما كان، وأصاب القصب حريقٌ، فاستأذنوا عمر بن الخطَّاب أن يبنوا باللَّبِنِ، فأذن لهم في إِمارة أبي موسى الأشعري بعد وفاة عتبة عام 17 هـ. فبنى أبو موسى المسجد، ودار الإِمارة باللَّبِنِ، والطين، وسقفها بالعشب، ثمَّ بنوها بالحجارة، والاجر، وقد جعلوها خططاً لقبائل أهلها، وجعلوا عرض شارعها الأعظم ـ وهو مربدها ـ ستين ذراعاً، وعرض ما سواه من الشَّوارع عشرين ذراعاً، وعرض كلِّ زقاقٍ سبعة أذرع، وجعلوا وسط كلِّ خطَّةٍ رحبةً فسيحة لمرابط خيولهم، وقبور موتاهم، وتلاصقوا في المنازل.
وأمر عمر أبا موسى الأشعري أن يحتفر لأهل البصرة نهراً، فحفر نهر الأبلَّة، وقاده إِلى البصرة بمسافة ثلاثة فراسخ، وبذلك يكون المسلمون في طليعة من عرف تخطيط المدن، وقد كثر غناء من سكن البصرة من المسلمين بفتح الأبلَّة، ودست، وميسان، فرغبها النَّاس، واتوها، وكانوا طلاب غنىً، كما كان الأوائل طلاب جهاد، فوفدت أخلاطٌ من القبائل، وأخلاط من الطَّامعين، والتُّجار فازداد عدد سكَّانها زيادةً كبيرة.
ومن خلال الرِّوايات التَّاريخية استنتج الباحثون الاعتبارات العسكريَّة، والاقتصاديَّة الَّتي وضعها الفاروق عند إِنشاء المدن:
_ تأسيس هذه المدن على مشارف أرض العرب ممَّا يلي أرض العجم، لتبقى حصوناً منيعةً لا يطمع العدوُّ في تجاوزها.
_ صلاحية مواقع هذه المدن لسكن العرب؛ لأنَّهم كانوا حينئذٍ مادَّة الجهاد في سبيل الله، وهم لا يصلحون إِلا حيث توجد مراعي الإِبل، كما بيَّن الفاروق رضي الله عنه.
_ روعي في اختيار مواقع المدن أن تكون على حدِّ البر من أرض العرب، حتَّى يجد العرب المراعي اللازمة لمواشيهم، كما رُوعي من جهةٍ ثانيةٍ أن تكون على أدنى الرِّيف من أرض العجم لترد إِلى هذه المدن المنتجات الرِّيفيَّة من ألبانٍ، وأصوافٍ، وحبوبٍ، وثمارٍ، فقد قال عمر رضي الله عنه عندما قرأ كتاب عتبة بن غزوان عن أرض البصرة: هذه أرضٌ نضرةٌ قريبةٌ من المشارب، والمراعي، والمحتطب.
وهذا يدلُّ على سلامة السِّياسة الحربيَّة، ودقَّة التَّخطيط العمراني؛ ليلائم ظروف السِّلم، والحرب معاً، فقد ضمنت هذه الخطَّة تأمين مصادر المياه، وقرب خطوط الإِمداد بالمواد الغذائيَّة، ومصادر الطَّاقة اللازمة لحاجة أهل المصر، كالحطب وغيره.
_ التأكُّد من عدم وجود عوائق طبيعيةٍ، كالبحار مثلاً، تمنع وصول الإِمدادات من قاعدة الخلافة إِلى جبهات القتال.
_ كان تنظيم الأمصار يتمُّ طبقاً للتنظيم القبلي للجيش، فكلُّ قبيلةٍ تكون في منازل متجاورة.
ـ مدينة الكوفة:
تُجمع اراء المؤرِّخين على أنَّ سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ يعدُّ هو المؤسس الأول للمدينة، وأنَّه قد اختار موضعها، وأمر بتخطيطها بعد فترةٍ من الانتصارات الَّتي حقَّقها المسلمون في حربهم ضدَّ الفرس في جبهة المدائن، وكما هي الحال تماماً في مسألة اختيار وتمصير مدينة البصرة، فإِنَّ العوامل العسكريَّة لعبت دوراً أساسياً، ومركزيّاً في دفع سعد إِلى التَّفكير في اتِّخاذ موضع، أو مخيَّمٍ للمجاهدين، وقام بتنفيذ ذلك بعد توجيه الفاروق له ـ رضي الله عنهم ـ وقد خضع اختيار سعد للكوفة وفق المعايير الَّتي وضعها الفاروق.
وقد لاحظ الفاروق في وفود القادسيَّة، والمدائن تغيُّراً في وجوههم، فعلم: أنَّ ذلك من وخومة البلاد، فكتب إِلى سعد بن أبي وقَّاص يأمره أن يتَّخذ لهم مكاناً يوافقهم كما يوافق إِبلهم، وأرسل سلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان رائدين، فارتادا حتَّى أتيا موضع الكوفة، وموقعهما بين الحيرة، والفرات، وقد سميت بذلك لأنَّها من رملٍ، وحصباء، كلُّ رملٍ، وحصباء فهو كوفة، فتحوَّل سعد من المدائن إِليها في محرم عام 17 هـ، وكان عمر يريد أن يقيم المسلمون في خيامهم؛ لأن ذلك أجدُّ في حربهم، وأذكى لهم، وأهيب في عين عدوِّهم، وأدعى إِلى إِحجامه عن أمر يهمُّ به، ولمَّا استأذنه أهل الكوفة، والبصرة في بنيان القصب لم يحبَّ أن يخالفهم، فأذن لهم، فابتنى أهلها بالقصب، ثمَّ إِنَّ الحريق الَّذي وقع بالكوفة، والبصرة أتى عليها، فاستأذنوا عمر في البناء باللَّبن، فقال: افعلوا، ولا يزيدنَّ أحدكم على ثلاث أبياتٍ (حجرات) ولا تطاولوا في البنيان. وكتب إِلى عتبة، وأهل البصرة بمثل ذلك، وجعل على تنزيل أهل البصرة، والإشراف على بنائها عاصم بن الدُّلف أبا الجرداء، وعلى تنزيل أهل الكوفة والإِشراف على بنائها أبا الهَيَّاج بن مالكٍ الأسديَّ، فقام أبو الهيَّاج بتخطيط الكوفة بأمر عمر الَّذي أمر بالمناهج أربعين ذراعاً، وما يليها ثلاثين ذراعاً وما بين ذلك عشرين، وبالأزقَّة سبعة أذرع، ليس دون ذلك شيء، وفي القطائع ستِّين ذراعاً، وكان أوَّل شيءٍ خُطَّ فيها مسجدها، ثمَّ قام في وسطه رامٍ شديد النَّزع، فرمى عن يمينه، وشماله، ومن بين يديه، ومن خلفه، ثمَّ أمر بالبناء وراء مواقع السِّهام، وبنى في مقدمة المسجد ظلَّةً ذرعها مئتان على أساطين من رخامٍ كانت للأكاسرة سماؤها كأسمية المساجد
الرُّومية، وبنوا لسعد داراً بحياله بينهما طريقٌ منقب مئتا ذراعٍ، وجعل فيها بيوت الأموال، وقام بالبناء روزبة الفارسي، وسكنها بعد إِنشائها المجاهدون والمسلمون، ثم فرقةٌ فارسية من فرق القائد رستم عدَّتها أربعة الاف، كانت تعرف باسم جند شاهنشاه، فاستأمنوا على أن ينزلوا حيث أحبُّوا، ويحالفوا من أحبُّوا، ويفرض لهم العطاء، فأعطاهم سعد ما سألوه، وكان لهم نقيبٌ يقال له: ديلم، فقيل عنهم: حمراء ديلم، كما نزلها جماعةٌ من يهود نجران، ونصاراها عندما أجلاهم عمر عن شبه الجزيرة، فأقاموا بمحلَّةٍ عُرِفَتْ بالنَّجرانيَّة في الكوفة، وارتفع شأن البصرة، والكوفة بعد تمصيرهما، وعظم أمرهما، وأصبح لهما شهرةٌ عظيمةٌ في قيادة الجيوش، وحَمْل لواء العلم، والأدب في العالم الإِسلامي كلِّه، بل وانتقلت إِليهما القوَّة من الحجاز، فاتَّخذ عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ الكوفة مقرّاً لخلافته بعد أن انتقل مركز الثِّقل الإسلامي إِلى الأمصار على وجه الإِجمال.
إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ وضع تخطيط البصرة، والكوفة على قاعدةٍ صحيحةٍ مُحكمةٍ، فقد وسَّع طرقها، وجعلها على نظامٍ جميلٍ، وهي في شكلها العامِّ تدلُّ على عبقرية الفاروق في المجال العمراني، فقد كانت الكوفة تجمع بين سكن المدن، وهواء البادية، وتربتها، وذلك أدعى لصحَّة الأجسام، وجودة الهواء؛ لأنَّ سعة الطُّرق للبلاد بمثابةِ الرِّئة للجسم، وكان عمر يريد ممَّن نزلوا الكوفة أن يكونوا في خيامهم؛ لأن ذلك أسرع إِذا مسَّت الحاجة، وأهيب في عين عدوِّهم، إِلا أن الأمر تطوَّر بعد ذلك؛ حتَّى بنيت المدن بالطُّوب.
ـ مدينة الفسطاط:
إِذا كان سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ يعدُّ المؤسِّس الأول لمدينة الكوفة، فإِنَّ عمرو بن العاص يعدُّ المؤسِّس لمدينة الفسطاط، فبعد انتهائه من عملية فتح الإِسكندرية أراد الاستقرار فيها، فكتب إِليه عمر بن الخطاب: ألا تجعلوا بيني وبينكم ماءً حتى أقدم إِليكم.. فتحوَّل من الإِسكندرية إِلى الفسطاط، وأوَّل عملٍ عمله فيها هو بناء مسجده الَّذي عرف باسمه فضلاً عن مسجده في الإِسكندرية، ثم بنى داراً لعمر بن الخطَّاب، وربما قصد بها داراً للخلافة، فكتب إِليه عمر بن الخطَّاب، وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين، وبنى عمرو بن العاص لنفسه دارين قريبتين من المسجد كما يخبرنا عنهما ابن عبد الحكم: فاختطَّ عمرو بن العاص داره الَّتي هي اليوم عند باب المسجد بينهما الطَّريق، وداره الأخرى اللاصقة إِلى جنبها. وربما بناها واحدةً له، والأخرى داراً للإِمارة بعد أن أمر عمر بن الخطاب بهدم داره السَّالفة الذِّكر، وكلَّف عمرو بن العاص جماعةً من كبار الصَّحابة من مرافقيه ليفصلوا بين القبائل، فجعلوا لكلِّ قبيلةٍ جهةً لمنازلهم، عرفت بالخطط، وهي أشبه ما تُعرف بالأحياء في وقتنا الحاضر، ولكنَّها لم تكن بهذا الاتِّساع حيث جعل بين القبيلة والأخرى شوارع، وربما لم تكن بمفهوم الشَّوارع اليوم وإِنَّما ممرَّات بين كلِّ حارةٍ، وأخرى. وكانت الجماعة مكونةً من: معاوية بن خديج التَّجيبي، وشريك بن سُمي الغطيفي، وعمرو بن محرم الخولاني، وحويل بن ناشرة المعافري، وكانوا هم الَّذين أنزلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إِحدى وعشرين، وعلى الرغم من أنَّ المجال لا يتسع لذكر جميع الخطط في هذا المجال إِلا أنَّه لا بأس من ذكر بعضٍ منها، مثل: خطَّة أسلم، والليتون، وبني معاذ، وبلي، وبني بحر، ومهرة، ولخم، وغافق، والصَّدف، وحضرموت، وتجيب، وخولان، ومذحج، ومراد، ويافع، ومعافر، ومعهم الأشعريُّون.
ويستدلُّ الباحث من هذه الأسماء على كثرة القبائل العربيَّة وغيرها ممَّن شارك في عملية الفتح، وبالتَّالي كثرة الأحياء المكوَّنة من هذه القبائل، وحبُّ كلِّ قبيلةٍ في أن يكون لها استقلالها الخاص، لتداول شؤونها وما يهمُّ أفرادها، ونستدلُّ أيضاً على دقَّة التَّنظيم الَّذي وافق عليه عمرو بن العاص في هذا التَّقسيم القبليِّ، وقد كانت هذه القبائل تبني في وسطها مساجدها، فقد ذكر ابن ظهيرة في كتابه: الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة نقلاً عن ابن زولاق ما ذكره عن المساجد الأولى في الفسطاط، ذكر في أوَّلها مسجد عمرو بن العاص ثمَّ عدداً من المساجد المنسوبة لأفراد، وقال بعدها: وبمصر من مساجد الصَّحابة سوى ما ذكرنا مساجد بنوها حين الفتح عدَّتها نحو مئتي مسجدٍ، وثلاثةٍ وثلاثين مسجداً، وقد أعدَّ ترتيبها تبعاً لعشائرها.
هذا وقد وفق عمرو بن العاص باختياره المكان؛ إِذ يسهل منه الاتصال بحاضرة الخلافة، فضلاً عن كونه وسطاً بين شمالي البلاد وجنوبها، وقريباً من النِّيل.
ـ مدينة سرت بليبيا:
بعد أن أصبحت برقة قاعدةً للإِسلام غربي مصر، انطلق منها عمرو بن العاص، وجنده إِلى طرابلس، فبدأ بمدينة سرت بين برقة، وطرابلس، فاستولى عليها، واتَّخذها المسلمون قاعدةً للانطلاق إِلى الغرب منذ عام 22 هـ، وبقيت قاعدةً لقوَّات المسلمين، ومركزاً لِعُقبة بن نافع؛ الذي صَرَفَ همَّه لنشر الإسلام في الواحات القريبة من فزَّان، وودَّان، وزويلة، والسُّودان.
ـ الحاميات المقامة في المدن المفتوحة:
أطلق عمر ـ رضي الله عنه ـ اسم الأجناد على الحاميات المقامة في المدن المفتوحة في جميع الجهات من البلاد المفتوحة، وخاصَّةً بلاد الشام، فكان فيها ثكنات لإِقامة الجند، وفي كلِّ معسكرٍ حظيرة للخيل فيها ما لا يقلُّ عن أربعة الاف حصان بكامل معدَّاتها، وتجهيزاتها كلُّها على أهبة الاستعداد، حتى إِذا دعت الحاجة أمكن القيادة أن تدفع إِلى ميادين القتال في وقتٍ قصيرٍ أكثر من 36 ألفاً من الفرسان دفعةً واحدةً في بلاد الشَّام وحدها. وقد خصِّصت مراعٍ واسعةٌ لتلك الخيول في كلِّ الأجناد، وكان كل حصانٍ يوسم على فخذه ميسم: جيش في سبيل الله، تنفيذاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } [الأنفال: 60].
ومن هذه الحاميات في بلاد الشَّام:
ـ جند دمشق: وتولاها في عهد عمر بن الخطَّاب ثلاثةٌ على التَّرتيب، هم: يزيد بن أبي سفيان، فسويد بن كلثوم، فمعاوية بن أبي سفيان.
ـ جند حمص: وقد تولاها أبو عبيدة عامر بن الجراح، فعبادة بن الصَّامت، فعياض بن غنم، فسعيد بن عامر بن حذيم، ثم عمير بن سعد، فعبد الله بن قرط.
ـ جند قنَّسرين: وتولاها خالد بن الوليد، فعمير بن سعد.
ـ جند فلسطين: وتولاها يزيد بن أبي سفيان فعلقمة بن مجزز.
ـ جند الأردن: مركزها طبرية وتولاها شرحبيل بن حسنة، فيزيد بن أبي سفيان، فمعاوية، وقد تولَّى معاوية جند دمشق، والأردن بعدوفاة يزيد في طاعون عمواس. هذا وقد دفعت الرَّغبة في الجهاد ابتغاء مرضاة الله كثيراً من الصَّحابة، وعلماء التَّابعين إِلى الارتحال إِلى هذه المدن الَّتي تُسمَّى الثُّغور، والأمصار، لنشر الدَّعوة، والجهاد في سبيل الله، وتعليمهم القران، وقد أصبحت كلٌّ من المدينة المنوَّرة، والبصرة، والكوفة، ودمشق، والفسطاط، مناطق جذب سكانيَّة تحوَّل النَّاس إِليها طلباً للعلم، والجهاد، أو برغبة التَّسجيل في ديوان الجيش، والحصول على الأعطيات، أو برغبة التجارة، واحتراف المهن الأخرى، ممَّا جعل هذه الأمصار مناراتٍ حضاريةً، ازدهرت فيها شتَّى العلوم، والمعارف، ونمت فيها مختلف الحرف، والصِّناعات.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022