عام الرَّمادة زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه
فصل من فصول فن تدبير الأزمات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة :الثالثة والأربعون
تعرَّضت الدَّولة الإِسلاميَّة في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ للابتلاء، وهذه السُّنَّة جاريةٌ في الأمم، والدُّول، والشُّعوب، والمجتمعات، والأمَّة الإِسلاميَّة أمةٌ من الأمم، فسنَّة الله فيها جاريةٌ لا تتبدَّل، ولا تتغيَّر، ومن أعظم الابتلاءات في عهد عمر عام الرَّمادة، وطاعون عمواس، ونترك الصَّفحات لتحدِّثنا عن تعامل عمر مع هذه الأزمات، وكيف دفعها بسنَّة الأخذ بالأسباب، والتَّضرُّع، والدُّعاء إِلى ربِّ العباد، ففي سنة 18 هـ أصاب النَّاس في الجزيرة مجاعةٌ شديدةٌ، وجدبٌ، وقحطٌ، واشتدَّ الجوع حتَّى جعلت الوحوش تأوي إِلى الإِنس، وحتَّى جعل الرجل يذبح الشَّاة فيعافها من قبحها، وماتت المواشي جوعاً، وسمِّي هذا العام عام الرَّمادة؛ لأنَّ الرِّيح كانت تسفي تراباً كالرَّماد، واشتد القحط، وعزَّت اللُّقمة. وهرع الناس من أعماق البادية إِلى المدينة، يقيمون فيها، أو قريباً منها، ويلتمسون لدى أمير المؤمنين حلاًّ، فكان الفاروق أكثر النَّاس إِحساساً بهذا البلاء، وتحمُّلاً لتبعاته، ويمكن للباحث أن يلحظ الخطوات الَّتي سار عليها عمر في التَّعامل مع هذه الأزمة كالاتي:
1ـ ضرب من نفسه للنَّاس قدوةً:
جيء لعمر بن الخطاب في عام الرَّمادة بخبزٍ مفتوت بسمن، فدعا رجلاً بدويّاً ليأكل معه، فجعل البدوي يتبع باللقمة الودك في جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنَّك مقفرٌ من الودك، فقال البدوي: أجل، ما أكلت سمناً، ولا زيتاً، ولا رأيت اكلاً له منذ كذا، وكذا إِلى اليوم، فحلف عمر لا يذوق لحماً، ولا سمناً حتَّى يحيا النَّاس ! ولقد أجمع الرُّواة جميعاً: أنَّ عمر كان صارماً في الوفاء بهذا القسم، ومن ذلك، أنَّه لمَّا قدمت إِلى السُّوق عكةُ سمنٍ، ووطبٌ من لبن، فاشتراها غلامٌ لعمر بأربعين درهماً، ثمَّ أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين ! قد أبرَّ الله يمينك، وعظَّم أجرك، وقدم السُّوق وطبٌ من لبنٍ، وعكَّةٌ من سمنٍ ابتعتهما بأربعين درهماً، فقال عمر: أغليت فتصدَّق بهما، فإِنِّي أكره أن اكل إِسرافًا ! ثمَّ أردف قائلاً: كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسني ما مسَّهم؟! فهذه جملةٌ واحدةٌ في كلماتٍ مضيئة، يوضح فيها الفاروق مبدأً من أروع المبادئ الكبرى الَّتي يمكن أن تعرفها الإِنسانيَّة في فنِّ الحكم «كيف يعنيني شأن الرَّعيَّة إِذا لم يمسَّني ما مسَّهم».
وقد تأثَّر عمر في عام الرَّمادة حتَّى تغيَّر لونه ـ رضي الله عنه ـ فعن عياض بن خليفة، قال: رأيت عمر عام الرَّمادة، وهو أسود اللون، ولقد كان رجلاً عربيّاً يأكل السَّمن، واللَّبن، فلمَّا أمحل النَّاس حرَّمهما، فأكل الزَّيت حتَّى غيَّر لونه، وجاع، فأكثر.
وعن أسلم قال: كنَّا نقول: لو لم يرفع الله تعالى المحل عام الرَّمادة لظننَّا: أنَّ عمر يموت همّاً بأمر المسلمين، وكان ـ رضي الله عنه ـ يصوم الدَّهر، فكان عام الرَّمادة، إِذا أمسى، أتي بخبز قد ثرد بالزَّيت، إِلى أن نحر يوماً من الأيَّام جزوراً، فأطعمها النَّاس، وغرفوا له طيِّبها، فأتي به، فإِذا قدرٌ من سنامٍ، ومن كبدٍ، فقال: أنَّى هذا ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ! من الجزور الَّتي نحرنا اليوم. قال: بخ، بخ بئس الوالي أنا إِن أكلت طيِّبها، وأطعمت النَّاس كراديسها، ارفع هذه الصَّحفة، هات لنا غير هذا الطَّعام، فأتي بخبزٍ، وزيتٍ، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك بالزَّيت، ثمَّ قال: ويحك يا يرفأ! احمل هذه الجفنة حتَّى تأتي بها أهل بيت يثمغ، فإِنِّي لم اتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم.
هذا هو الفاروق وهذا هو فنُّ الحكم في الإِسلام يؤثر الرَّعية على نفسه، فيأكلون خيراً ممَّا يأكل، وهو الَّذي يحمل من أعباء الحكم والحياة أضعاف ما يحملون، ويعاني من ذلك أضعاف ما يعانون، وهو في ذلك لا يضع القيود على نفسه وحدها، بل يسير بها ليقيِّد أفراد أسرته، فهم أيضاً يجب أن يعانوا أكثر ممَّا يعاني النَّاس، وقد نظر ذات يومٍ في عام الرَّمادة، فرأى بطيخة في يد ولدٍ من أولاده، فقال له على الفور: بخٍ، بخٍ يا بن أمير المؤمنين ! تأكل الفاكهة، وأمَّة محمد هزلى ؟ فخرج الصَّبيُّ هارباً يبكي، ولم يسكت عمر إِلا بعد أن سأل عن ذلك، وعلم: أنَّ ابنه اشتراها بكفٍّ من نوى.
لقد كان إِحساسه بمسؤوليَّة الحكم أمام الله عزَّ وجلَّ يملك عليه شعاب نفسه، فلم يترك وسيلةً في الدِّين، والدُّنيا يواجه بها الجدب، وانقطاع المطر إِلا لجأ إِليها، فكان دائم الصَّلاة، دائم الاستغفار، دائم الحرص على توفير الأقوات للمسلمين، يفكِّر في رعيَّته، مَنْ زحف منهم إِلى المدينة، وَمَنْ بقي منهم في البادية، ويواجه العبء كلَّه في كفاءةٍ، واقتدارٍ.. ثمَّ بعد ذلك قسوةٌ على النَّفس ما أروعها من قسوة ! حتَّى قال مَنْ أحاط به في تلك الأزمة: لو لم يرفع الله المحل عام الرَّمادة لظننَّا: أنَّ عمر يموت همّاً بأمر المسلمين.
2ـ معسكرات اللاجئين عام الرَّمادة:
عن أسلم، قال: لمَّا كان عام الرَّمادة جاءت العرب من كلِّ ناحيةٍ، فقدموا المدينة، فكان عمر قد أمر رجالاً يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلةً: أحصوا مَنْ يتعشَّى عندنا. فأحصوهم من القابلة، فوجدوهم سبعة الاف رجلٍ، وأحصوا الرِّجال المرضى، والعيالات فكانوا أربعين ألفاً.
ثمَّ بعد أيامٍ بلغ الرِّجال، والعيال ستِّين ألفاً، فما برحوا حتَّى أرسل الله السَّماء، فلمَّا مطرت؛ رأيت عمر قد وكَّل بهم من يخرجونهم إِلى البادية، ويعطونهم قوتاً وحملاناً إِلى باديتهم، وكان قد وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم، وكانت قدور عمر تقوم إِليها العمَّال من السَّحر يعملون الكركور، ويعملون العصائد، وهنا نرى الفاروق رضي الله عنه يقسِّم وظائف العمل على العاملين، وينشأى مؤسَّسة اللاجئين بحيث يكون كلُّ موظفٍ عالماً بالعمل الَّذي كلَّفه به دون تقصيرٍ فيه، ولا يتجاوز إِلى عملٍ اخر مسندٍ إِلى غيره، فقد عيَّن أمراء على نواحي المدينة لتفقُّد أحوال النَّاس الَّذين اجتمعوا حولها طلباً للرِّزق لشدَّة ما أصابهم من القحط، والجوع، فكانوا يشرفون على تقسيم الطَّعام، والإِدام على النَّاس، وإِذا أمسوا؛ اجتمعوا عنده، فيخبرونه بكلِّ ما كانوا فيه، وهو يوجِّههم.
وكان عمر يطعم الأعراب من دار الدَّقيق، وهي من المؤسَّسات الاقتصاديَّة الَّتي كانت أيام عمر توزِّع على الوافدين على المدينة، الدَّقيق والسَّويق، والتَّمر والزَّبيب من مخزون الدَّار قبل أن يأتي المدد من مصر، والشَّام، والعراق، وقد توسَّعت دار الدَّقيق لتصبح قادرةً على إِطعام عشرات الألوف الَّذين وفدوا على المدينة مدَّة تسعة أشهر قبل أن يحيا النَّاس بالمطر.
وهذا يدلُّ على عقليَّة عمر في تطوير مؤسَّسات الدَّولة سواءٌ كانت ماليَّةً، أو غيرها، وكان رضي الله عنه يعمل بنفسه في تلك المعسكرات. قال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة ! لقد رأيته عام الرَّمادة وإِنَّه ليحمل على ظهره جرابين، وعكَّة زيتٍفي يده، وإِنه ليعتقب (أي يتناوب) هو وأسلم، فلمَّا راني قال: من أين يا أبا هريرة ؟! قلت: قريباً. قال: فأخذت أعقبه (أعاونه) فحملناه؛ حتَّى انتهينا إِلى ضرار فإِذا صِرْم (جماعة) نحو من عشرين بيتًا من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم ؟ قالوا: الجهد. قال: وأخرجوا لنا جلد ميتةٍ مشويَّةٍ كانوا يأكلونها، ورمَّة العظام مسحوقةً كانوا يسفُّونها. قال: فرأيت عمر طرح رداءه، ثم نزل يطبخ لهم، ويطعمهم حتَّى شبعوا، ثمَّ أرسل أسلم إِلى المدينة، فجاء بأبعرة، فحملهم عليها، حتَّى أنزلهم الجبانة، ثمَّ كساهم، ثمَّ لم يزل يختلف إِليهم، وإِلى غيرهم؛ حتَّى رفع الله ذلك.
وكان رضي الله عنه يصلِّي بالنَّاس العشاء ثمَّ يخرج إِلى بيته، فلا يزال يصلِّي حتَّى يكون اخر الليل ثمَّ يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها، وقد ذكر عبد الله بن عمر بأنَّه قال: وإِنِّي لأسمعه ليلةً في السَّحر، وهو يقول: اللَهُمَّ لا تجعل هلاك أمَّةِ محمَّد على يدي ! ويقول: اللَهُمَّ لا تهلكنا بالسِّنين، وارفع عنا البلاء ! يردِّد هذه الكلمات.
وقال مالك بن أوسٍ (من بني نصر): لما كان عام الرَّمادة قدم على عمر قومي وهم مئة بيت فنزلوا الجبَّانة، فكان يطعم النَّاس من جاءه، ومن لم يأت؛ أرسل إِليه الدَّقيق، والتَّمر، والأدم إِلى منزله، فكان يرسل إِلى قومي بما يصلحهم شهراً بشهر؛ وكان يتعهَّد مرضاهم، وأكفان من مات منهم. ولقد رأيت الموت وقع فيهم حتَّى أكلوا الثَّفل، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يأتي بنفسه، فيصلِّي عليهم، لقد رأيته صلَّى على عشرةٍ جميعاً، فلمَّا أحيوا؛ قال: اخرجوا من القرية إِلى ما كنتم اعتدتم من البرِّيَّة، فجعل يحمل الضَّعيف منهم حتَّى لحقوا ببلادهم.
وعن حزم بن هشامٍ عن أبيه، قال: رأيت عمر بن الخطَّاب عام الرَّمادة مرَّ على امرأةٍ، وهي تعصد عصيدةً لها، فقال: ليس هكذا تعصدين. ثمَّ أخذ المسوط (ما يخلط به كالملعقة) فقال: هكذا فأراها، وكان يقول: لا تذرنَّ إِحداكنَّ الدَّقيق حتَّى يسخن الماء بل تذرُّه قليلاً قليلاً، وتسوطه بمسوطها، فإِنَّه أربع له، وأحرى ألا يتفرَّد (أي: يجتمع، ويركب بعضه بعضاً). وحدَّثت بعض نساء عمر ـ رضي الله عنه ـ فقالت: ما قرب عمر امرأةً زمن الرَّمادة حتَّى أحيا النَّاس.
وعن أنسٍ قال: تقرقر بطن عمر بن الخطَّاب عام الرَّمادة، وكان يأكل الزَّيت، وكان قد حرَّم على نفسه السَّمن، فنقر بطنه بأصبعيه، وقال: تقرقر إِنَّه ليس لك عندنا غيره حتَّى يحيا النَّاس.
3ـ الاستعانة بأهل الأمصار:
وأسرع عمر ـ رضي الله عنه ـ فكتب إِلى عمَّاله على البلاد الغنيَّة يستغيثهم، فأرسل إِلى عمرو بن العاص عامله على مصر: من عبد الله عمر بن الخطَّاب أمير المؤمنين إِلى العاصي بن العاص، سلامٌ عليك، أمَّا بعد: أفتراني هالكاً وَمَنْ قِبَلي، وتعيش أنت منعماً وَمَنْ قِبَلَك ؟ فواغوثاه ! واغوثاه ! فكتب إِليه عمرو بن العاص: لعبد الله أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلامٌ عليك، فإِنِّي أحمد الله إِليك الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: أتاك الغوث، فالرَّيث الرَّيث ! لأبعثنَّ بِعِيْرٍ (عير: بكسر العين: قافلة) أوَّلها عندك، واخرها عندي، مع أنِّي أرجو أن أجد سبيلاً أن أحمل في البحر، فبعث في البر بألف بعيرٍ تحمل الدَّقيق، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدَّقيق، والدُّهن، وبعث إِليه بخمسة الاف كساءٍ.
وكتب عمر إِلى كلِّ عاملٍ من عمَّاله على الشَّام: ابعث إِلينا من الطَّعام بما يصلح مَنْ قِبَلنا، فإِنَّهم قد هلكوا، إِلا أن يرحمهم الله. وكتب إِلى عمَّاله على العراق، وفارس بمثل ذلك. فكلُّهم أرسلوا إِليه.
وذكر الطَّبريُّ: أنَّ أوَّل مَنْ قدم عليه أبو عبيدة بن الجرَّاح في أربعة الاف راحلةٍ من طعامٍ، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فلمَّا رجع إِليه؛ أمر له بأربعة الاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين ! إِنَّما أردت الله، وما قِبَلَهُ، فلا تدخل عليَّ الدُّنيا، فقال: خذها، فلا بأس بذلك إِذا لم تطلبه، فأبى، فقال: خذها فإِنِّي قد وليت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، فقال لي مثل ما قلتُ لك، فقلتُ له كما قلتَ لي، فأعطاني. فقبل أبو عبيدة، وانصرف مع عمَّاله، وتتابع النَّاس وبعث معاوية بن أبي سفيان ثلاثة الاف بعيرٍ تحمل طعاماً، ووصلت من العراق ألف بعير تحمل دقيقاً، وشرع عمر في توزيع هذا الزَّاد على أهل المدينة، ومن لاذوا بها من الأعراب، وسير منه إِلى البادية، وأمر بتوزيعه على أحياء العرب جميعاً، قال الزُّبير بن العوَّام: قال لي عمر في عام الرَّمادة ـ وقد حمَّل قافلةً من الإِبل بالدَّقيق والشَّحم والزَّيت لنجدة أهل البادية ـ: اخرج في أوَّل هذه العير، فاستقبلْ بها نجداً، فاحملْ إِليَّ أهل كلِّ بيتٍ ما قدرت أن تحملهم إِليَّ، وَمَنْ لم تستطع حمله، فمر لكلِّ أهل بيتٍ ببعيرٍ بما عليه من المتاع، ومُرهم فليلبسوا كساءين، واحداً للشِّتاء، والاخر للصَّيف، ولينحروا البعير، فليحفظوا شحمه، وليقدِّدوا لحمه.. ثمَّ ليأخذوا شحماً، ودقيقاً، فيطبخوه، ويأكلوا حتَّى يأتيهم الله برزقه، وجعل عمر يرسل إِلى النَّاس مؤونة شهرٍ بشهرٍ، ممَّا يصله من الأمصار من الطَّعام، والكساء.
واستمرَّت القدور العمريَّة الضَّخمة، يقوم عليها عمالٌ مهرةٌ، يطبخون من بعد الفجر، ثمَّ يوزِّعون الطَّعام على النَّاس، وأعلن عمر: إِن يرفع الله الجدب؛ فسأجعل مع أهل كلِّ بيت مثلهم، وسنطعم ما وجدنا أن نطعمهم، فإِن أعوزنا؛ جعلنا مع أهل كلِّ بيتٍ ممَّن يجد عدَّتهم ممَّن لا يجد، إِلى أن يأتي الله بالحيا (المطر) .
وقد جاء في روايةٍ قوله: لو امتدَّت المجاعة؛ لوزعت كلَّ جائعٍ على بيت من بيوت المسلمين، فإِنَّ الناس لا يهلكون على أنصاف بطونهم.
وكان الفاروق يقوم بتوزيع الطَّعام، والزّاد على كثيرٍ من القبائل في أماكنهم من خلال لجانٍ شكَّلها، فعندما وصلت إِبل عمرو بن العاص إِلى أَفواه الشَّام؛ أرسل عمر مَنْ يشرف على توزيعها مع دخولها جزيرة العرب، فعدلوا بها يميناً، وشمالاً ينحرون الجزر، ويطعمون الدَّقيق، ويكسون العباء، وبعث الفاروق رجلاً بالطَّعام الَّذي أرسله عمرو من مصر في البحر، فحمله إِلى أهل تهامة يُطعمونه.
4 ـ الاستغاثة بالله، وصلاة الاستسقاء:
عن سليمان بن يسارٍ، قال: خطب عمر النَّاس في زمان الرَّمادة، فقال: أيُّها الناس ! اتَّقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن النَّاس من أمركم، فقد ابتليت بكم، وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليَّ دونكم، أو عليكم دوني، أو قد عمّتني، وعمَّتكم، فهلمُّوا؛ فلندعُ الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا المَحْلَ، فرئي عمر يومئذٍ رافعاً يديه، يدعو الله، ودعا للنَّاس، وبكى، وبكى النَّاس مليّاً، ثم نزل. وعن أسلم قال: سمعت عمر يقول: أيُّها النَّاس ! إِنِّي أخشى أن تكون سخطةٌ عمَّتنا جميعاً، فأعتبوا ربكم، وانزعوا، وتوبوا إِلى ربِّكم وأحدثوا خيراً.
وعن عبد الله بن ساعدة، قال: رأيت عمر إِذا صلى المغرب؛ نادى أيُّها النَّاس! استغفروا ربكم، ثمَّ توبوا إليه، وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمةٍ، لا سقيا عذاب. فلم يزل كذلك؛ حتّى فرَّج الله ذلك. وعن الشَّعبيِّ: أَنَّ عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ خرج يستسقي فقام على المنبر، فقرأ هذه الآيات {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *} [نوح: 10 ـ 11]، ويقول: استغفروا ربكم، ثمَّ توبوا إِليه. ثمَّ نزل. فقيل له: ما يمنعك من أن تستسقي؟ فقال: طلبت المطر بمجاديح السَّماء الَّتي ينزل بها المطر، ولمّا أجمع عمر على أن يستسقيَ، ويخرجَ بالنَّاس، كتب إِلى عمّاله أن يخرجوا يوم كذا، وأن يتضرّعوا إلى ربِّهم، ويطلبوا أن يرفع هذا المَحْلعنهم، وخرج عمر لذلك اليوم، وعليه بردُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى انتهى إلى المُصَلّى، فخطب النّاس فتضرّع، وجعل النِّساء يلحُّون، فما كان أكثر دعائه إِلا استغفارٌ؛ حتّى إذا قرب أن ينصرف؛ رفع يديه مدّاً، وحوَّل رداءه، فجعل اليمين على اليسار، ثمَّ اليسار على اليمين، ثمَّ مدَّ يديه، وجعل يلحُّ في الدُّعاء، ويبكي بكاءً طويلاً حتّى اخضلت لحيته.
وقد جاء في صحيح البخاريِّ عن أنسٍ: أنَّ عمر بن الخطاب كان إِذا قحطوا؛ استسقى بالعبَّاس بن عبد المطلب فقال: اللَّهُمَّ إِنَّا كنا نتوسل إِليك بنبينا صلى الله عليه وسلم، فتسقينا، وإِنَّا نتوسل إِليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا ! قال: فيُسقون، وروي: أنَّ عمر لمَّا استسقى عام الرَّمادة قال في اخر كلامه: اللَّهُمَّ إِنِّي قد عجزت، وما عندك أوسع لهم ! ثمَّ أخذ بيد العبَّاس، فقال: نتقرَّب إِليك بعمِّ نبيِّك، وبقيَّة ابائه، وكبار رجاله، فإِنَّك تقول، وقولك الحقُّ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] فحفظتهما لصلاح أبيهما؛ فاحفظ اللَّهُمَّ نبيَّك في عمِّه ! فقال العبَّاس؛ وعيناه تنضحان: اللَّهُمَّ إِنَّه لا ينزل بلاءٌ إِلا بذنبٍ، ولا يكشف إِلا بتوبة، وقد توجَّه بي القوم إِليك لمكاني من نبيِّك صلى الله عليه وسلم وهذه أيدينا مبسوطةٌ إِليك بالذُّنوب، ونواصينا بالتَّوبة، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين يا أرحم الراحمين ! اللَّهُمَّ أنت الرَّاعي لا تهمل الضَّالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ، فقد ضرع الصَّغير، وفرق الكبير، وارتفعت الشَّكوى، وأنت تعلم السِّرَّ، وأخفى ! اللَّهُمَّ أغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا، فيهلكوا، فإِنَّه لا ييأس من رَوْحِك إِلا القوم الكافرون! فنشأت طريرةٌ من سحابٍ، فقال الناس: ترون، ثمَّ التأمت، ومشت فيها ريحٌ، ثمَّ هدأت، ودرَّت فوالله ما نزحوا حتى اعتنقوا الجدار، وقلصوا المآزر، فطفق النَّاس بالعبَّاس يقولون: هنيئاً لك يا سقي الحرمين! فقال الفضل بن العبَّاس بن عتبة بن أبي لهب:
بِعَمِّي سَقَى اللهُ الحِجازَ وَأَهْلَهُ عَشِيَّةَ يَسْتَسْقي بِشَيْبَتِهِ عُمَرُ
تَوَجَّهَ بِالْعَبّاسِ في الْجَدْبِ راغِباً إِلَيْهِ فَما رامَ حَتّى أَتى الْمَطَرُ
وَمِنّا رَسُولُ الله فِيْنا تُراثُهُ فَهَلْ فَوْقَ هَذا لِلْمُفاخِرِ مُفْتَخَرُ
وقال حسّان بن ثابتٍ رضي الله عنه:
سَأَلَ الإِمامُ وَقَدْ تَتابَعَ جَدْبُنا فَسُقي الغَمَامَ بِغُرَّةِ العَبَّاسِ
عَمِّ النَّبِيِّ وَصِنْوِ وَالِدِهِ الَّذي وَرِثَ النَّبِيَّ بِذاكَ دُوْنَ النّاسِ
أَحْيا الإِلهُ بِهِ الْبِلادَ فَأَصْبَحَتْ مُخْضَرَّةَ الأَجْنابِ بَعْدَ الْيَاْسِ
وقد جاء في روايةٍ صفة ما دعا به العبّاس في هذه الواقعة: اللَّهُمَّ إِنَّه لم ينزل بلاءٌ إِلا بذنبٍ، ولم يُكشف إِلا بتوبةٍ، وقد توجَّه القوم بي إِليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا بالذُّنوب، ونواصينا إِليك بالتَّوبة فاسقنا الغيث ! فأرخت السَّماء مثل الجبال حتّى أخصبت الأرض، وعاش النَّاس.
5 ـ وَقْفُ إِقامة الحدِّ عام المجاعة:
وقد قام عمر ـ رضي الله عنه ـ بوقف حدِّ السَّرقة في عام الرَّمادة، وهذا ليس تعطيلاً لهذا الحدِّ، كما يكتب البعض، بل لأنَّ شروط تنفيذ الحدِّ لم تكن متوافرةً، فأوقف تنفيذ حدِّ السَّرقة لهذا السَّبب، فالذي يأكل ما يكون ملكاً لغيره بسبب شدَّة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطَّعام يكون غير مختارٍ، فلا يقصد السَّرقة، ولهذا لم يقطع عمر يد الرَّقيق الَّذين أخذوا ناقةً، وذبحوها، وأمر سيِّدهم حاطب بدفع ثمن النَّاقة، وقد قال عمر رضي الله عنه: (لا يُقطع في عَذْقٍ، ولا عام السَّنة .
وقد تأثَّرت المذاهب الفقهيَّة بفقه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد جاء في المغني: قال أحمد: لا قطع في المجاعة، يعني: أنَّ المحتاج إِذا سرق ما يأكله؛ فلا قطع عليه؛ لأنه كالمضطر.
وروى الجوزجانيُّ عن عمر: أنَّه قال: لا قطع في عام السَّنة، وقال: سألت أحمد عنه، فقلت: تقول به ؟ قال: إيْ لعمري ! لا أقطعه إِذا حملته الحاجة والنَّاس في شدَّةٍ، ومجاعةٍ.
وهذا فهمٌ عمريٌّ عميقٌ لمقاصد الشَّريعة، فقد نظر عمر إِلى جوهر الموضوع، ولم يكتب بالظَّواهر، نظر إِلى السَّبب الدَّافع إِلى السَّرقة، فوجد: أنَّه في الحالتين الجوع الَّذي يعتبر من الضَّرورات الَّتي تبيح المحظورات، كما يدلُّ على ذلك قول عمر في قصَّة غلمان حاطب: إِنَّكم تستعملونهم، وتجيعونهم، حتّى إِنَّ أحدهم لو أكل ما حرم عليه؛ حلَّ له.
6 ـ تأخير دفع الزَّكاة في عام الرمادة:
أوقف عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلزام النَّاس بالزَّكاة في عام الرَّمادة، ولما انتهت المجاعة، وخصبت الأرض جمع الزكاة عن عام الرَّمادة، أي اعتبرها ديناً على القادرين حتّى يسدَّ العجز لدى الأفراد المحتاجين، وليبقي في بيت المال رصيداً بعد أن أنفقه كلَّه.
فعن يحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطبٍ: أَنَّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أخَّر الصَّدقة عام الرَّمادة، فلم يبعث السُّعاة، فلمَّا كان قابل، ورفع الله ذلك الجدب؛ أمرهم أن يُخرجوا؛ فأخذوا عِقالين، فأمرهم أن يقسموا عقالاً ويقدموا عليه بعقالٍ، أي: صدقة سنةٍ.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf