الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

انتشار الطاعون زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ الحلول والتدابير

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الرابعة والأربعون

في العام الثامن عشر من الهجرة وقع شيءٌ فظيعٌ مروِّعٌ، هو ما تذكره المصادر باسم (طاعون عِمَواس) وقد سمِّي بطاعون عِمَواس نسبة إِلى بلدةٍ صغيرة، يقال لها: عِمَواس، وهي: بين القدس، والرَّملة؛ لأنَّها كان أول ما نجم الدَّاء بها، ثمَّ انتشر في الشَّام منها، فنسب إِليها، وأفضل من ذكر صفة هذا الدَّاء على حسب علمي القاصر ابن حجر حيث قال بعد أن ذكر الأقوال في الطاعون: فهذا ما بلغنا من كلام أهل اللُّغة، وأهل الفقه، والأطباء في تعريفه، والحاصل: أنَّ حقيقته ورمٌ ينشأ عن هيجان الدَّم، أو انصباب الدَّم إِلى عضوٍ فيفسده، وأنَّ غير ذلك من الأمراض العامَّة الناشئة عن فساد الهواء يسمّى طاعوناً بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة الموت.
والغرض من هذا التَّفريق بين الوباء والطَّاعون التَّدليل على صحَّة الحديث النَّبويِّ الَّذي يخبر: أنَّ الطاعون لا يدخل المدينة النَّبويَّة، أمَّا الوباء؛ فقد يدخلها، وقد دخلها في القرون الَّتي خلت.
وكان حصول الطَّاعون في ذلك الوقت بعد المعارك الطَّاحنة بين المسلمين، والروم، وكثرة القتلى، وتعفُّن الجو، وفساده بتلك الجثث أمراً طبيعياً، قدَّره الله لحكمةٍ أرادها.

1 ـ رجوع عمر من سَرْغ على حدود الحجاز والشَّام:
ففي سنة 17هـ أراد عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يزور الشَّام للمرَّة الثَّانية، فخرج إِليها، ومعه المهاجرون، والأنصار حتّى نزل بِسَرْغٍ على حدود الحجاز والشَّام، فلقيه أمراء الأجناد، فأخبروه: أنَّ الأرض سقيمةٌ، وكان الطَّاعون بالشَّام، فشاور عمر ـ رضي الله عنه ـ واستقرَّ رأيه على الرُّجوع.
وبعد انصراف عمر ـ رضي الله عنه ـ حصل الطَّاعون الجارف المعروف بطاعون عِمَواس وكانت شدَّته بالشَّام، فهلك به خلقٌ كثيرٌ، منهم: أبو عبيدة بن الجرّاح، وهو أمير النَّاس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وقيل: استشهد باليرموك، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف النَّاس، ولم يرتفع عنهم الوباء إِلا بعد أن وليهم عمرو بن العاص، فخطب النَّاس، وقال لهم: أيُّها الناس ! إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع إِنما يشتعل اشتعال النَّار، فتجنَّبوا منه في الجبال، فخرج، وخرج النّاس، فتفرقوا حتّى رفعه الله عنهم، فبلغ عمر ما فعله عمرو، فما كرهه.
2 ـ وفاة أبي عبيدة رضي الله عنه:
لما فشا الطَّاعون، وبلغ ذلك عمر كتب إِلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: سلامٌ عليك، أمَّا بعد: فإِنَّه قد عرضت إِليَّ حاجة أشافهك فيها، فعزمت عليك إِذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتّى تقبل إليَّ. فعرف أبو عبيدة: أنَّه إِنَّما أراد أن يستخرجه من الوباء إشفاقاً عليه، وضنّاً به، فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين ! ثم كتب إليه: يا أمير المؤمنين ! إني قد عرفت حاجتك إِليَّ، وإني في جندٍ من المسلمين لا أجد بنفسي رغبةً عنهم، فلست أريد فراقهم حتّى يقضي الله فيَّ، وفيهم أمره، وقضاه، فحلِّلني من عزمتك يا أمير المؤمنين ! ودعني في جندي. فلمَّا قرأ عمر الكتاب؛ بكى، فقال النَّاس: يا أمير المؤمنين ! أمات أبو عبيدة؟ قال: وكأن قد قال، ثمَّ كتب إِليه: سلامٌ عليك، أمَّا بعد: فإِنَّك أنزلت النَّاس أرضاً عميقةً فارفعهم إِلى أرضٍ مرتفعةٍ نزهةٍ. فلمَّا أتى كتابه دعا أبا موسى، فقال: يا أبا موسى ! إِنَّ كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى فاخرج، فارْتَدْ للنَّاس منزلاً حتى أتَّبعك بهم. فرجع أبو موسى إِلى منزله، فوجد زوجته قد أصيبت، فرجع إِليه فأخبره الخبر، فأمر ببعيره، فرحِّل له، فلمَّا وضع رجله في غرزه؛ طُعِن، فقال: والله لقد أُصبت.
وعن عروة قال: إِن وجع عِمَواس كان معافى منه أبو عبيدة، وأهله، فقال: الّلهمَّ نصيبك في ال أبي عبيدة ! فخرجت منه بثرةٌ، فجعل ينظر إِليها، فقيل: إِنَّها ليست بشيءٍ، فقال: إِنِّي لأرجو أن يبارك الله فيها. وقد قام قبل أن يصاب في النَّاس خطيباً، فقال: أيها الناس ! إِنَّ هذا الوجع رحمةُ ربِّكم، ودعوة نبيِّكم محمَّد صلى الله عليه وسلم، وموت الصَّالحين قبلكم، وإِنَّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظَّه.
ولمَّا طُعِنَ ـ رحمه الله ـ دعا المسلمين، فدخلوا عليه، فقال لهم: إِنّي موصيكم بوصيةٍ، فإِن قبلتموها؛ لم تزالوا بخيرٍ ما بقيتم، وبعدمها تهلكون: أقيموا الصَّلاة، واتوا الزَّكاة، وصوموا، وتصدَّقوا، وحجُّوا واعتمروا، وتواصلوا وتحابُّوا، واصدقوا أمراءكم، ولا تغشُّوهم، ولا تلهكم الدُّنيا، فإِنَّ أمرأً لو عُمِّر ألف حول ما كان له بدٌّ من أن يصير إِلى مثل مصرعي هذا الَّذي ترون. إِنَّ الله قد كتب الموت على بني ادم، فهم ميِّتون، فأكيسهم أطوعهم لربِّه، وأعملهم لمعاده، ثمَّ قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ ! صلِّ بالنَّاس. فصلَّى معاذ بهم، ومات أبو عبيدة ـ رحمة الله عليه، ومغفرته، ورضوانه ـ فقام معاذ في الناس: يا أيُّها الناس ! توبوا إِلى الله توبةً نصوحاً، فإِنَّ عبداً إِن يلق الله تائباً من ذنبه؛ كان حقّاً على الله أن يغفر له ذنوبه، ومن كان عليه دينٌ فليقضه، فإِنَّ العبد مرتهنٌ بدينه، ومن أصبح منكم مصارماً مسلماً؛ فليلقه، فيصالحه إِذا لقيه، وليصافحه، فإِنَّه لا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام، والذَّنب في ذلك عظيمٌ عند الله، وإِنَّكم أيُّها المسلمون ! قد فجعتم برجلٍ، والله ما أزعم أنِّي رأيت منكم عبداً من عباد الله ـ قطُّ ـ أقلَّ غمراً، ولا أبرأ صدراً، ولا أبعد من الغائلة، ولا أنصح للعامَّة، ولا أشد عليهم تحنُّناً، وشفقةً منه ! فترحَّموا عليه، ثم احضروا الصَّلاة عليه، غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخر، والله لا يلي عليكم مثله أبداً !
فاجتمع النَّاس، وأُخرج أبو عبيدة، فتقدَّم معاذٌ فصلَّى عليه، حتَّى إِذا أُتي به إِلى قبره؛ دخل قبره معاذٌ، وعمرو بن العاص، والضَّحاك بن قيس، فلمَّا سَفَوْا عليه التُّراب؛ قال معاذ: رحمك الله أبا عبيدة ! فوالله لأُثْنِيَنَّ عليك بما علمت ! والله لا أقولها باطلاً، وأخاف أن يلحقني من الله مقت ! كنت والله ما علمت من الذَّاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ومن الذين إِذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ! وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين، ومن الذين يرحمون اليتيم، والمسكين، ويبغضون الجفاة المتكبرين ! ولم يكن أحدٌ من النَّاس أشدَّ جزعاً على فقد أبي عبيدة من معاذٍ، ولا أطول حزناً عليه منه.
وكتب معاذٌ إِلى عمر ـ رضي الله عنهما ـ بوفاة أبي عبيدة، فجاء في الرسالة: أمَّا بعد، فاحتسب امرأً كان لله أميناً، وكان الله في نفسه عظيماً، وكان علينا، وعليك يا أمير المؤمنين عزيزاً أبا عبيدة بن الجرَّاح، غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر، فإِنا لله وإِنا إِليه راجعون، وعند الله نحتسبه، وبالله نثق له. كتبت إِليك وقد فشا الموت، وهذا الوباء في الناس، ولن يخطأى أحداً أجلُه، ومن لم يمت، فسيموت، جعل الله ما عنده خيراً له من الدُّنيا، وإِن أبقانا، أو أهلكنا؛ فجزاك الله عن جماعة المسلمين، وعن خاصَّتنا، وعامَّتنا رحمته، ومغفرته، ورضوانه، وجنَّته، والسَّلام عليك، ورحمة الله، وبركاته.
فلما وصل الكتاب إِلى عمر، فقرأه، بكى بكاءً شديداً، ونعى أبا عبيدة إِلى جلسائه، فبكى القوم، وحزنوا حزناً شديداً مع التَّسليم بالقضاء، والقدر.
3 ـ وفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه:
بعد وفاة أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ صلَّى معاذٌ بالنَّاس أياماً، واشتدَّ الطَّاعون، وكثر الموت في النَّاس، فقام خطيباً، فقال: أيُّها النَّاس ! إِن هذا الوجع رحمة ربِّكم، ودعوة نبيِّكم، وموت الصَّالحين من قبلكم، وإِنَّ معاذاً يسأل الله أن يقسم لال معاذٍ منه حظَّهم. فطعن ابنه عبد الرَّحمن بن معاذ، فلمَّا راه؛ قال ابنه: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *} [البقرة: 147] قال: يا بنيَّ ! {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *} [الصافات: 102] فلم يلبث إِلا قليلاً حتَّى مات ـ يرحمه الله ـ وصلَّى عليه معاذ، ودفنه فلمَّا رجع معاذ إِلى بيته؛ طعن، فاشتدَّ به وجعه، وجعل أصحابه يختلفون إِليه فإِذا أتوه؛ أقبل عليهم، فقال لهم: اعملوا وأنتم في مهلةٍ، وحياةٍ، وفي بقيَّةٍ من اجالكم، من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إِليه سبيلاً، وأنفقوا ممَّا عندكم من قبل أن تهلكوا، وتدعوا ذلك ميراثاً لمن بعدكم، واعلموا أنَّه ليس لكم من أموالكم إِلا ما أكلتم، وشربتم، ولبستم، وأنفقتم، فأعطيتم، فأمضيتم، وما سوى ذلك فللوارثين، فلمَّا اشتد به وجعه؛ جعل يقول: رب اخنقني خنقك، فأشهد أنَّك تعلم أنِّي أحبُّك!
ولما حضرته الوفاة؛ قال: مرحباً بالموت، مرحباً بزائرٍ جاء على فاقةٍ، لا أفلح مَنْ ندم، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أنِّي لم أكن أحبُّ البقاء في الدُّنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكنَّني كنت أحبُّ البقاء لمكابدة اللَّيل الطَّويل، وطول السَّاعات في النَّهار، ولظمأ الهواجر في الحرِّ الشَّديد، ولمزاحمة العلماء بالرُّكب في حِلَقِ الذِّكر!
وكان عمره عند وفاته 38 عاماً، واستخلف بعده عمرو بن العاص، فصلَّى عليه عمرو، ودخل قبره، فوضعه في لحده، ودخل معه رجالٌ من المسلمين، فلمَّا خرج عمرو من قبره، قال: رحمك الله يا معاذ ! فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين، ومن خيارهم، وكنت مؤدِّباً للجاهل، شديداً على الفاجر، رحيماً بالمؤمنين.
وتولَّى قيادة الجيوش بعد موت أبي عبيدة ومعاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما ـ عمرُو بن العاص، فقام في النَّاس خطيباً: أيُّها الناس ! إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع فإِنَّما يشتعل اشتعال النَّار فتجبَّلوا منه في الجبل، ثمَّ خرج، وخرج النَّاس، فتفرَّقوا، ورفعه الله عنهم، وكتب عمرو بن العاص إِلى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنهما ـ فقال له: سلامٌ عليك، فإِنِّي أحمد الله إِليك الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: فإِنَّ معاذ بن جبل ـ رحمه الله ـ مات، وقد فشا الموت في المسلمين، وقد استأذنوني في التَّنحِّي إِلى البرِّ، وقد علمت أنَّ إِقامة المقيم لا تقرِّبه من أجله، وإِنَّ هروب الهارب منه لا يباعده من أجله، ولا يدفع به قدره، والسَّلام عليك، ورحمة الله، وبركاته.
ولما وصل كتاب عمرو بن العاص إِلى أمير المؤمنين يَنْعَى فيه معاذاً، وكانت وفاة معاذ على أثر أبي عبيدة ـ رضي الله عنهم ـ فجزع عليه جزعاً شديداً، وبكى عمر، والمسلمون، وحزنوا عليه حزناً عظيماً، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: رحم الله معاذاً ! والله لقد رفع الله لهلاكه من هذه الأمَّة علماً جمّاً، ولربَّ مشورةٍ له صالحة قد قبلناها منه، ورأيناها أدَّت إِلى خيرٍ وبركةٍ، وربَّ علمٍ أفادناه، وخيرٍ دلَّنا عليه، جزاه الله جزاء الصَّالحين !
وأمَّا ثالث القادة المشهورين الَّذين أصيبوا بالطَّاعون، وكان أفضل بني سفيان، ويقال له: يزيد الخير، فهو يزيد بن أبي سفيان. ومن القادة العظام الَّذين استشهدوا بطاعون عمواس شرحبيل بن حسنة.
4 ـ خروج الفاروق إِلى الشَّام، وترتيبه للأمور:
تأثَّر الفاروق وحزن حزناً عظيماً لموت قادته العظام، وجنوده البواسل بسبب الطَّاعون في الشَّام، وجاءته رسائل الأمراء من الشَّام تتساءل عن الميراث الَّذي تركه الأموات خلفهم، وعن أمورٍ عديدةٍ، فجمع النَّاس، واستشارهم فيما جدَّ من أمورٍ، وعزم على أن يطوف على المسلمين في بلدانهم، لينظِّم لهم أمورهم، واستقرَّ رأي عمر بعد تبادل وجهات النَّظر مع مجلس الشُّورى أن يبدأ بالشَّام، فقد قال: إِنَّ مواريث أهل الشَّام قد ضاعت، فأبدأ بالشام فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثمَّ أرجع فأتقلَّب في البلاد، وأبدي لهم أمري، فسار عن المدينة واستخلف عليَّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنهـ فلمَّا قدم الشَّام، قسم الأرزاق، وسمَّى الشَّواتي، والصَّوائف، وسدَّ فروج الشَّام، ومسالحها، وولَّى الولاة، فعين عبد الله بن قيس على السَّواحل من كلِّ كورة، واستعمل معاوية على دمشق، ورتَّب أمور الجند، والقادة والنَّاس، وورَّث الأحياء من الأموات، ولمَّا حضرت الصَّلاة قال له الناس: لو أمرت بلالاً فأذَّن ! فأمره، فأذَّن فما بقي أحدٌ أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وبلالٌ يؤذِّن إِلا وبكى، حتَّى بلَّ لحيته، وعمر أشدُّهم بكاءً، وبكى من لم يدركه ببكائهم، ولذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن يرجع إِلى المدينة خطب في النَّاس: ألا وإِنِّي قد وَلَّيْتُ عليكم، وقضيت الَّذي عليَّ في الَّذي ولاني الله من أمركم إِن شاء الله، فبسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم، ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجنَّدنا لكم الجنود، وهيَّأنا لكم الفروج، وبوَّأنا لكم، ووسَّعنا عليكم ما بلغ فيئكم، وما قلتم عليه من شامكم، وسمَّينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم، ومغانمكم، فمن علم شيئاً ينبغي العمل به، فليعلمنا؛ نعمل به إِن شاء الله، ولا قوة إِلا بالله. وكانت هذه الخطبة قبل الصَّلاة المذكورة.
لقد كان طاعون عمواس عظيم الخطر على المسلمين وأفنى منهم أكثر من عشرين ألفاً، وهو عددٌ يوازي نصفهم بالشَّام وربما تخوَّف من ذلك المسلمون يومئذٍ، واستشعروا الخطر من قبل الرُّوم، وفي الحقيقة لو تنبَّه الرُّوم لهذا النَّقص الَّذي أصاب جيش المسلمين بالشَّام يومئذٍ، وهاجموا البلاد؛ لصعب على الجيوش المرابطة دفعهم، ولكن ربما كان اليأس تمكَّن من نفوس الرُّوم، فأقعدهم عن مهاجمة المسلمين خصوصاً إِذا كان أهل البلاد راضين بسلطة المسلمين مرتاحي القلوب إِلى سلطانهم العادل، وسيرتهم الطَّيبة الحسنة، وبدون الاستعانة بهم لا يتيسَّر للرُّوم مهاجمة الشَّام لا سيَّما إِذا أضفنا إِلى هذا مَلَلَ القوم من الحرب، وإِخلادهم إِلى الرَّاحة من عناء المقاومة لقوم أصبح النَّصر حليفهم في كلِّ مكانٍ، ودبَّ الرُّعب من سطوتهم في قلب كلِّ إِنسان.
5 ـ حكم الدُّخول، والخروج في الأرض الَّتي نزل بها الطَّاعون:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه »، وقد اختلف الصَّحابة في مفهوم النَّهي عن الخروج، والدُّخول، فمنهم من عمل به على ظاهره، ومنهم من تأوَّله، والَّذين تأوَّلوا النَّهي أباحوا خروج من وقع في أرضه الطَّاعون، وقد مرَّ علينا حرص الفاروق على إِخراج أبي عبيدة من الأرض الَّتي وقع فيها الطَّاعون إِلا أنَّ أبا عبيدة اعتذر ـ رضي الله عنه ـ كما أنَّ الفاروق طلب من أبي عبيدة أن يرتحل بالمسلمين من الأرض الغمقة الَّتي تكثر فيها المياه، والمستنقعات إِلى أرضٍ نزهةٍ عالية، ففعل أبو عبيدة، وكانت كتابة عمر إِلى أبي عبيدة بعد أن التقيا في سَرْغٍ، وسمعا حديث عبد الرَّحمن بن عوف بالنَّهي عن الخروج، والقدوم إِلى أرض الوباء، ورجع عمر إِلى المدينة، ويظهر: أنَّ الوباء كان في بدايته، ولم يكن قد استشرى، واشتعل لهيبه، فلمَّا رجع عمر إِلى المدينة؛ وصلته أخبارٌ بكثرة الموت في هذا الطَّاعون.
ومفهوم عمر ـ رضي الله عنه ـ بجواز الخروج من أرض الطَّاعون نُقل أيضاً عن بعض الصَّحابة؛ الَّذين عاصروا أبا عبيدة في الشَّام، وعاشوا محنة المرض، كعمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعريِّ ـ رضي الله عنهم ـ والخلاف جارٍ في مسألة الخروج من أرض الطَّاعون، لا في الدُّخول إِلى أرض الطَّاعون. فبعضهم أباح الخروج على ألا يكون الخروج فراراً من قدر الله، والاعتقاد بأنَّ فراره هو الَّذي سلَّمه من الموت، أمَّا مَنْ خرج لحاجةٍ متمحِّضَةٍ، فهو جائزٌ، ومن خرج للتَّداوي فهو جائزٌ، فإِنَّ تَرْكَ الأرض الوبئة، والرَّحيل إِلى الأرض النَّزهة مندوبٌ إِليه، ومطلوبٌ.
وأمَّا تعليل أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ بقاءه واعتذاره للفاروق عن الخروج، فراجعٌ إِلى أسبابٍ صحِّيَّةٍ، واجتماعيَّةٍ، وسياسيَّةٍ، وقياديَّةٍ ينظمها الدِّين في نظامه، وتعدُّ مثلاً أعلى للقيادة الأمينة، وأبو عبيدة أمين هذه الأمَّة، حيث قال معلِّلاً سبب ثباته: إِنِّي في جند المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عنهم. وقد أصاب بعض العلماء المفصل عندما ذكر في حكمة النَّهي عن الخروج فراراً من الطاعون: أنَّ النَّاس لو تواردوا على الخروج، لصار مَنْ عجز عنه ـ بالمرض المذكور أو غيره ـ ضائع المصلحة، لفقد من يتعهَّده حيّاً وميتاً، ولو أنَّه شُرع الخروج، فخرج الأقوياء؛ لكان في ذلك كسر قلوب الضُّعفاء. وقد قالوا: إِنَّ حكمة الوعيد من الفرار من الزَّحف؛ لما فيه من كسر قلب مَنْ لم يفرَّ، وإدخال الرُّعب فيه بخذلانه.
والخلاصة: أنَّ البقاء رخصةٌ، والخروج رخصةٌ، فمن كان في الوباء، وأصيب، فلا فائدة من خروجه، وهو بخروجه ينقل المرض إِلى النَّاس الأصحَّاء، ومن لم يُصَبْ فإِنَّه يرخَّص له في الخروج من باب التَّداوي على ألا يخرج النَّاس جميعاً، فلا بدَّ أن يبقى من يعتني بالمرضى.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022