نزعة النَّقد الأدبيِّ عند عمر رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة التاسعة و الثلاثون
كان عمر بن الخطَّاب من أشدِّ النَّاس تأثُّراً برسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى في نظرته إِلى الأدب، وفي حكمه على الشِّعر، والشُّعراء، وقد أُثرت عنه اراء، وأحكام نقديَّةٌ لنصوص أدبيَّةٍ كثيرةٍ، ومعظم هذا المرويِّ نقل عنه وهو خليفة؛ أي: في السَّنوات العشر الأخيرة من حياته، وهي اثارٌ تُصوِّر في جملتها مدى تقديره للأثر الأدبيِّ عندما تكتمل له (نظرية الكمال) الَّتي يراها عمر، والَّتي هي لديه نتاج ثقافة العمر في تلك المرحلة النَّاضجة، لذا ينبغي أن نحيط بالرَّوافد الَّتي أصقلت حسَّه النَّقدي، ونمَّت ملكة النَّقد عنده واضعين في الاعتبار حياته بشطريها الجاهلي، والإِسلاميِّ على هذا النَّحو:
ـ كان عمر في جاهليته واحداً من المسؤولين عن صيانة القيم الجاهليَّة، وكانت له مكانته في قريشٍ، وقريشٌ آنذاك محطُّ أنظار العرب، وملتقى أفئدتهم، وكان كذلك في الإِسلام في عصر الخلافة.
ـ كان عمر خبيراً بالشِّعر العربيِّ جاهليِّه، وإِسلاميِّه، مستوعباً لما قاله المشركون، والمرتدُّون، وأعداء الإِسلام من شعرٍ ضدَّ هذا الدِّين الحنيف.
ـ كان عمر عليماً بأحوال العرب في الجاهليَّة، والإِسلام ـ عقيدةً، وتاريخاً، وأنساباً، وسلوكاً، وعلماً، وقد أنار له علمه بهذه الأشياء طريق نقد الكلام وإِبداء الرَّأي فيه.
ـ حرص عمر منذ نشأته على غشيان المجالس الأدبيَّة الَّتي لم تخل من المسامرة، وإِنشاد الشِّعر ومطارحة الأدب، وتذوُّقه وإِبداء الرَّأي فيه، حتَّى إِذا أسلم عمر؛ أصبح يعتبر مجالسة الرِّجال الَّذين ينتقون أطايب الحديث، كما ينتقي أطايب الثَّمر إِحدى ثلاثٍ ترغِّبه في الدُّنيا بعد الصَّلاة، والجهاد في سبيل الله، كما كان عمر واحداً من سمَّار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد أقام وهو خليفةٌ رحبةً في ناحية المسجد سمِّيت البطحاء، كان يرتادها محبُّو الشِّعر، وطلابه.
ـ كان لعمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم القِدْح المعلَّى، والنَّظر الثَّاقب، والألمعيَّة الهادفة، والذَّكاء الخارق المصحوب بالإِلهام، والشَّفافية المبصرة، ممَّا يجعله يصيب المعنى فلا يكاد يخطئه، وهو بجانب ذلك موفور الإِحساس بما يقرأ، أو يسمع، شديد التذوُّق للنصِّ الأدبيِّ، وما احتوى عليه من قيمٍ جماليَّةٍ، أو شعوريَّة، وذلك لفرط إِحساسه به، وإِدراك كنهه، وغاياته، فقد كان رضي الله عنه تأخذ المعاني الهادفة بمجامع قلبه، فترضى بها نفسه، ويفصح عن إِعجابه بها، وتقديره، فقد روي: أنَّ متمِّماً بن نويرة رثى أخاه مالكاً، الَّذي لقي حتفه على يدي جنود خالد بن الوليد في حروب الردَّة، فلما انتهى متمِّمٌ إِلى قوله:
لاَ يُمْسِكُ الفَحْشَاءَ تَحْتَ ثِيَابِهِ حُلْوٌ شَمَائِلُهُ عَفِيْفُ المِئْزَرِ
قام إِليه عمر، فقال: لوددت أنِّي رثيت أخي زيد بن الخطَّاب بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك ! فقال له: يا أبا حفص ! والله لو علمت: أنَّ أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيتُه.
فقال عمر: ما عزَّاني أحدٌ بمثل تعزيتك!
ومن هذا المنطق في فهم النَّصِّ وتقدير حيويَّته، كان عمر يرتفع بقيمة النَّصِّ الأدبيِّ البليغ، ويسمو به إِلى منزلةٍ لا تدانيها قيمة كنوز الدُّنيا الفانية. روي عنه ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه قال لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيُحسن ! فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّا كنَّا نعطيه فنُجزِل، فقال عمر: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.
هذه هي الروافد الَّتي غذَّت ذوق عمر النَّقدي، وصقلت ملكتَه النَّاقدة، وجعلته يتبوَّأ هذه المكانة الأدبيَّة في عصر الإِسلام.
وأمَّا المقاييس الَّتي أخذها عمر في إِيثاره نصّاً على نصٍّ، أو تقديمه شاعراً على غيره فإِنَّها مقاييس الشَّكل، وهي:
_ سلامة العربية:
فقد كان ذوقه مطبوعاً على سلامة الفصحى، وصحَّتها، يتأفَّف من اللَّحن، وينفر منه، وكان اللَّحن في العبارة كافياً لأن يسقط النَّصَّ، ويرفضه، بل ويعاقب من يقع منه اللَّحن.
_ أُنس الألفاظ، والبُعد عن المعاظلة، والتَّعقيد:
روي: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يقدِّم زهيراً، ويستحسن شعره، ويعلِّل لهذا الاستحسان بأنَّه كان لا يعاظلُ بين الكلام، ولا يَتْبَعُ وحشيَّه، ولا يمدح الرَّجل إِلا بما فيه، والمعاظلة: أن يعقِّد الكلام، ويوالي بعضه فوق بعضٍ؛ حتَّى يتداخل، ويغمض. وحوشيُّ الكلام: وحشيُّه، وغريبه.
وهذا الأثر يوضِّح أصول الشِّعر الَّذي يرضى عنه الإِسلام، وهو الشِّعر الواضح المعنى، القريب المفردات، الصَّادق، البعيد عن المبالغة؛ لأنَّ الشِّعر يدعو إِلى قضيَّة، ويخاطب جمهور النَّاس، ولا بدَّ أن يكون مفهوماً، والجدير بالذِّكر أنَّ علماء البلاغة الَّذين دوَّنوا أصول هذا العلم فيما بعد لم يخرجوا في مباحثهم عن فصاحة المفرد، وبلاغته، والكلام، وفصاحته عمَّا قال عمر في هذا الصَّدد، اللَّهمَّ إِلا ما اقتضاه التَّصنيف من منهجٍ، وتنظيمٍ، وتبويبٍ عند بعضهم.
_ الوضوح والإِبانة:
فقد كتب إِلى سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنهما ـ: أنَّه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلَّة علمي بما هجتم عليه، والَّذي استقرَّ عليه أمر عدوِّكم، فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الَّذي بينكم وبين المدائن صفةً كأني أنظر إِليه، واجعلني من أمركم على الجليَّة.
وهذه الكلمة الأخيرة: (واجعلني من أمركم على الجليَّة) تبيِّن بجلاءٍ إِيثار عمر الوضوح، والإِبانة في الكلام، كما تصوِّر إِيثاره الصِّدق فيه، وهذا مقياسٌ نقديٌّ دقيقٌ. كما كتب إِلى قضاته يناشدهم الإِيضاح في التَّعبير عن فهم مسائل القضاء.. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك. وقال عن أمرٍ أراد أن يخطب فيه: وكنت زوَّرت مقالةً أعجبتني. وهكذا يرى عمر: أنَّ الكلمة وسيلةُ إِفهامٍ، وأداة هدىً، وبيانٍ، وليست سبيلاً إِلى الإِغراب والتَّعمية، ومن ثمَّ أنكر التَّشادق، والتَّقعُّر.
_ أن تكون الألفاظ بقدر المعاني:
ومن مأثور كلامه من ذلك قوله: إِيَّاك والمكابلة. قال الإِمام الدَّارميُّ: يعني في الكلام؛ أي: المزايدة فيه، فعمر إِذاً يريد البعد عن فضول القول؛ لأنَّه ضياعٌ لمضمون الفكرة، وتبديدٌ لها، ولا يخلو من تكرارٍ مُمِلٍّ، وتردادٍ مكروهٍ، فوق كونه يفقد روعة النَّصِّ، ويذهب بجماله، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّ شقائق الكلام من شقائق اللِّسان، فأقلُّوا ما استطعتم.
_ جمال اللفظة في موقعها:
كان ينفر من اللَّفظة الَّتي أقحمت في غير مكانها المناسب؛ لأنَّها تشين المعنى، وتذهب برونق الكلام، وبهائه، ومن ذلك قوله لسحيم عبد بني الحسحاس بصدد تعقيبه على بيتٍ له، يقول فيه:
عُمَيْرَةُ وَدِّع إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيَا كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلْمَرْءِ نَاهِيَا
فقال عمر: لو قدَّمت الإِسلام على الشَّيب لأجزتُك، وذلك لأنَّ عمر أدرك بذوقه، الَّذي صقله الإِسلام، ونمَّاه: أنَّ الإِسلام في نفس المؤمن أقوى زجراً مِنْ قَبْلِ الشَّيب، ومن بعده.. وجديرٌ به أن يُقدَّم في النَّص تمشِّياً مع أهميَّته، وتأثيره في النُّفوس، وهذا ما نأى عنه البيت.
_ حسن التَّقسيم:
كما كان عمر يعلن عن إِعجابه الشَّديد بما في البيت من جمالٍ فنِّيٍّ يرضي الأذواق، والعقول على السَّواء، ويترجم هذا الإِعجاب في ترديده البيت ترديداً ينمُّ عن حسن تذوُّقٍ، وعمق إِحساس بما في النَّصِّ من جمالٍ. وممَّا يدلُّ على ذلك ما روي من أنَّ عمر أنشد قصيدة عبدة بن الطَّيِّب الَّتي أوَّلها:
هَلْ حَبْلُ خَوْلَةَ بَعْدَ الْهَجْرِ مَوْصُوْلُ أَمْ أَنْتَ عَنْهَا بَعِيْدَ الدَّارِ مَشْغُولُ
فلمَّا بلغ المنشد قوله:
وَالْمَرْءُ ساعٍ لأَمْرٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأْمِيْلُ
قال عمر متعجِّباً: وَالْعَيْشُ شُحٌّ، وإِشفاقٌ، وتأميلُ، يُعْجِبُه مِنْ حسن ما قسَّم، وما فصَّل.
ولما أنشد عمر قول زهير بن أبي سلمى:
فَإِنَّ الحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلاَثٌ يَمِيْنٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلاَءُ
فَذلِكُمُ مَقَاطِعُ كلِّ حَيٍّ ثَلاَثٌ كلُّهنَّ لَكُمْ شِفَاءُ
فهو يريد: أنَّ الحقوق إِنَّما تصحُّ بواحدةٍ من هذه الثَّلاث: يمينٌ، أو محاكمةٌ، أو حُجَّة بيِّنةٌ واضحةٌ، وسمّي زهير: (قاضي الشُّعراء) بهذا البيت، فكان عمر ـ رضوان الله عليه ـ يتعجَّب من معرفة زهير لمقاطع الحقِّ مع أنَّه جاهليٌّ، وقد جاء الإِسلام، وأكَّد تلك المقاطع.
وهناك مقاييس أخرى كان عمر يؤثرها في مضمون الأدب، ويوجِّه بها الأدباء وجهةً جديدةً، تنبع من الدِّين، والخُلق، ويمكن أن تضاف إِلى المقاييس الفنِّيَّة السَّابقة حتَّى يمكن أن تعطي القارأى تصوُّراً لمقاييس نقد الأدب في عصر عمر ممثَّلةً في تعبيراته ومأثوراته، منها: الصِّدق في التَّرجمة عن الخواطر، وتصوير العواطف النَّبيلة. كان ممَّا يستحسنه عمر، وينال إِعجابه، وعنصر الصِّدق هذا هو الَّذي جعله يعجب إِعجاباً شديداً بقصيدة المخبَّل السَّعدي، وأميَّة بن الأسكر الكناني، كما كان عمر يؤثر في المعنى أن يكون جديداً مبتكراً يناسب الدِّين ويتمشَّى مع أخلاقه، وادابه، وأن يُصاغ هذا المعنى صياغةً محكمةً وأن يعبِّر عنه في تصويرٍ جميلٍ، وبيانٍ حسن، وكان عمر يؤثر في المعنى فوق صدقه، وابتكاره أن يكون موائماً لمقاييس الدِّين الخُلقية، بحيث لا يتورَّط الشَّاعر في هجاءٍ ذميم، أو سبابٍ فاضحٍ، أو نهشٍ للأعراض، أو الانكباب على وصف الشَّراب، وتصوير سَوْرَة الخمور، أو غير ذلك ممَّا ينبأى عن ضعف العقيدة، وفساد الخُلق، وقد سبق أن ذكرتُ موقفه من الحُطيئة، وسحيم، ومن كان على شاكلتهما من الشُّعراء.
وممَّا يتَّصل بنقده هذا ما روي من أنَّ النُّعمان بن عديٍّ قد عيَّنه عمر على ميسان، فذهب إِليها، وامتنعت زوجته عن أن ترافقه، فأراد أن يبعث في نفسها الرَّغبة في صحبته بما يعرف عن غيرة النساء، فكتب إِليها بأبياتٍ من فضل القول، لا تمثِّل حقيقةً في قليلٍ، أو كثيرٍ، هي:
فَمَنْ مُبْلِغُ الحَسْنَاءِ أنَّ حَلِيْلَهَا بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَم
إِذَا شِئْتُ غَنَّتنِي دَهَاقِيْنُ قَرْيَةٍ وَصَنَّاجَةٌ تَحْدُو عَلَى كُلِّ مَيْسَمِ
إِذَا كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَكْبَرِ اسْقِنِي ولا تسقني بالأصغر المُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يَسُوْءُهُ تَنَادُمُنَا فِي الجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ
فلمَّا سمعها عمر؛ قال: وايم الله لقد ساءني ! ثمَّ عزله. ولا غرابة فيما فعل عمر من عزله النُّعمان؛ لأنَّ النُّعمان كان أمير قومٍ، وإِمامهم في الصَّلاة، وقدوتهم في الحياة، وهذا الشِّعر وإِن لم يمثِّل حياة رجلٍ كان من أهل الهجرة الأولى، لكنَّه يتعارض مع قيم هذا الدِّين، وتأباه تعاليمه، ومن ثمَّ رفضه عمر، وعاقب قائله.
هذه هي أبرز الملامح والنَّزعات النَّقدية الَّتي تميَّز بها نقد عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ والَّتي تدلُّ على أصالة النَّقد الأدبيِّ في أطوار نشأته الأولى، كما تبيِّن منزعه، واتجاهه حيث لم يعتمد على الذَّوق وحدَه في تقويم الأدب، والحُكم عليه، وإِنَّما جنح إِلى لونٍ من الموضوعيَّة الدَّقيقة في شرح النَّص، وتبيان جماله، أو قبحه، والتَّعليل لما يُستجاد، أو يُستهجن من نماذجه، وسيظلُّ النَّقد العربيُّ مديناً لعمر ما عاش يتوخَّى في النَّص سلامة العربيَّة، وبلاغة عبارتها، واستقلال المعنى بحظِّه التَّام من التَّعبير، وصدق التَّكوين، وحسن التَّصوير، ووضوحه.
وهذه مقاييس نقديَّةٌ دقيقةٌ لا يختلف مع عمر فيها ناقدٌ أصيل، ويطول بنا القول لو استرسلنا في بيان ثقافة هذا الخليفة العظيم، ومقدرته على تذوُّق الشِّعر، ونقده والحكم عليه، فإِنَّ ذلك يحتاج إِلى فصولٍ طويلةٍ، ومن خير الكتب الَّتي تُرضي حاجة النَّفس في هذا الباب كتاب: عمر بن الخطَّاب للدُّكتور محمَّد أبو النَّصر، والأدب الإِسلامي في عهد النُّبوَّة، وخلافة الرَّاشدين للدُّكتور نايف معروف، وأدب صدر الإِسلام للدُّكتور واضح الصَّمد، والمدينة النَّبويَّة فجر الإِسلام، والعصر الرَّاشدي للأستاذ محمَّد محمَّد حسن شراب.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf