الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

من مواقف الصديق في المجتمع المدنيِّ ...معاني سامية وعبر مستفادة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة :التاسعة

 

تمهيد:

كانت حياة الصِّدِّيق في المجتمع المدنيِّ مليئةً بالدُّروس، والعبر، وتركت لنا نموذجاً حيّاً لفهم الإسلام، وتطبيقه في دنيا الناس، وقد تميَّزت شخصية الصدِّيق بصفاتٍ عظيمةٍ، ومدحه رسول الله (ﷺ) في أحاديث كثيرةٍ، وبيَّن فضله، وتقدُّمه على كثيرٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين.

1ـ موقفه من فنحاص الحبر اليهوديِّ:

ذكر غير واحدٍ من كُتَّاب السِّيَر، والمفسِّرين: أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ دخل بيت المدراس، على يهود، فوجد منهم ناساً قد اجتمعوا إلى رجلٍ منهم، يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم، وأحبارهم، ومعه حبرٌ من أحبارهم، يقال له: أشيع، فقال أبو بكرٍ لنحاص: ويحك! اتَّق الله، وأسلم، فوالله إنك تعلم: أنَّ محمداً لرسول الله! قد جاءكم بالحقِّ من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التَّوراة، والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكرٍ: والله يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فقرٍ، وإنَّه إلينا لفقير، وما نتضرَّع إليه كما يتضرَّع إلينا، وإنَّا عنه لأغنياء، وما هو عنّا بغنيٍّ، ولو كان عنّا غنيّاً ما استقرضَنا أموالنا، كما يزعم صاحبُكم، ينهاكم عن الرِّبا، ويعطيانه، ولو كان غنيّاً ما أعطانا الرِّبا! فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك؛ لضربت رأسك أي عدوَّ الله!

فذهب فنحاص إلى رسول الله (ﷺ)، فقال: يا محمد! انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله (ﷺ) لأبي بكرٍ: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكرٍ: يا رسولَ الله! إنَّ عدوَّ الله قال قولاً عظيماً، إنَّه يزعم أنَّ الله فقيرٌ، وأنَّهم أغنياء، فلمّا قال ذلك غضبت لله ممّا قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردّاً عليه، وتصديقاً لأبي بكرٍ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *} [آل عمران: 181].

ونزل في أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وما بلغه في ذلك من الغضب قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ *} [آل عمران: 186] .

 2ـ حفظ سرِّ النبيِّ (ﷺ):

قال عمر بن الخطّاب: تأجمت حفصة من خنيس بن حذافة، وكان ممَّن شهد بدراً، فلقيت عثمان بن عفان، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: أنظر، ثمَّ لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكرٍ فعرضتها عليه، فصمت، فكنت عليه أوجد منِّي على عثمان، فلبثت ليالي، ثمَّ خطبها رسول الله (ﷺ)، فأنكحتها إيّاه، ثمَّ لقيني أبو بكرٍ، فقال: لعلَّك وجدت عليَّ حين لم أرجع إليك، فقلت: أجل، فقال: إنَّه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أنِّي علمت: أنَّ رسول الله (ﷺ) قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله (ﷺ)، ولو تركها؛ لنكحتها

3ـ الصِّدِّيق واية صلاة الجمعة:

قال جابر بن عبد الله: بينما النبيُّ (ﷺ) يخطب يوم الجمعة، وقدمت عيرُ المدينة، فابتدها أصحاب رسول الله (ﷺ) حتّى لم يبقَ معه إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ *} [الجمعة: 11] وقال: في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله (ﷺ) أبو بكرٍ، وعمر.

4ـ رسول الله (ﷺ) ينفي الخيلاء عن أبي بكر:

قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: قال رسول الله (ﷺ): «مَنْ جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». فقال أبو بكرٍ: إن أحد شِقّيَّ يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله (ﷺ): « إنَّك لست تصنع ذلك خُيلاء ».

5ـ الصِّدِّيق وتحرِّيه للحلال:

عن قيس بن أبي حازمٍ قال: كان لأبي بكرٍ غلامٌ، فكان إذا جاء بِغَلَّتِهِ لم يأكل من غلَّته حتى يسأل، فإن كان شيئاً ممّا يحبُّ؛ أكل، وإن كان شيئاً يكره؛ لم يأكل، قال: فنسي ليلةً، فأكل، ولم يسأله، ثمَّ سأله، فأخبره: أنَّه من شيءٍ كرهه، فأدخل يده، فتقيَّأَ حتى لم يترك شيئاً.

فهذا مثالٌ على ورع أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ حيث كان يتحرَّى الحلال في مطعمه، ومشربه، ويتجنَّب الشُّبهات، وهذه الخصلة تدلُّ على بلوغه درجات عُليا في التَّقوى، ولا يَخْفَى أهمية طيب المطعم، والمشرب، والملبس في الدِّين، وعلاقة ذلك بإجابة الدُّعاء، كما في حديث الأشعث الأغبر، وفيه: « يمدُّ يديه إلى السَّماء: يأرب! يأرب! ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك» .

6ـ أدخلاني في سلمكما، كما أدخلتماني في حربكما:

دخل أبو بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على النبيِّ (ﷺ)، فسمع صوت ابنته عائشة عالياً، فلمّا اقترب منها، تناولها؛ ليلطمها، وقال: أراك ترفعين صوتك على رسول الله، فجعل رسول الله يحجزه، وخرج أبو بكرٍ مغضباً، فقال النبيُّ (ﷺ) لعائشة حين خرج أبو بكرٍ: «أرأيت كيف أنقذتك من الرَّجل؟». فمكث أبو بكرٍ أياماً، ثمَّ استأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا. فقال لهما: أدخلاني في سلمكما، كما أدخلتماني في حربكما. فقال النبيُّ (ﷺ): « قد فعلنا ».

7ـ أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

دخل أبو بكر على عائشة ـ رضي الله عنها ـ في أيّام العيد، وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنِّيان، فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: بمزمور الشيطان في بيت رسول الله (ﷺ)؟ وكان رسول الله (ﷺ) معرضاً بوجهه عنهما، مقبلاً بوجهه الكريم إلى الحائط فقال: «يا أبا بكرٍ! إنَّ لكلِّ قومٍ عيداً، وهذا عيدنا ».

ففي الحديث بيانٌ: أنَّ هذا لم يكن من عادة النبي (ﷺ) وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سمَّاه الصديق مزمار الشيطان، والنبيُّ (ﷺ) أقرَّ الجواري عليه معلِّلاً ذلك بأنه يوم عيد، والصِّغار يرخَّص لهم في اللَّعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: « ليعلم المشركون أنَّ في ديننا فسحةً ». وكان لعائشة لُعَب تلعب بهنَّ، ويجئن صاحباتها من صغار النِّسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين: أنَّ النبيَّ (ﷺ) استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنَّما يتعلق بالاستماع لا بمجرَّد السَّماع. ومن هذا نفهم: أنَّه يرخص لمن يصلح له اللَّعب أن يلعب في الأعياد، كالجاريتين الصَّغيرتين من الأنصار اللتين تغنِّيان في العيد في بيت عائشة.

8 ـ إكرامه للضُّيوف:

قال عبد الرحمن بن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ: إِنَّ أصحاب الصُّفَّة كانوا أناساً فقراء، وأنَّ رسول الله (ﷺ) قال مرَّةً: من كان عنده طعام اثنين، فليذهب بثالثٍ، ومن كان عنده طعام أربعة، فليذهب بخامسٍ، وإنَّ أبا بكرٍ جاء بثلاثٍ . . . وإنَّ أبا بكرٍ تعشَّى عند رسول الله (ﷺ) فجاء بعد أن مضى من الليل ما شاء الله تعالى، فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت: عن ضيفك، قال: وما عشَّيْتِهِمْ ؟ قالت: أبوا حتى تجيء، وقد عرضوا عليهم، فغلبوهم . قال: فذهبت أنا، فاختبأت، فقال: يا غندر! فجدع، وسبَّ، وقال: كلوا هنيئاً، وقال: والله لا أطعم أبداً! وحلف الضَّيف ألا يطعمه حتّى يطعم أبو بكر، فقال أبو بكر: هذه من الشيطان، قال: فدعا بالطَّعام، فأكل، فقال: وايم الله! ما كنا نأخذ لقمةً إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فقال: حتّى شبعوا، وصارت أكثر ممّا كانت قبل ذلك، فنظر إليها، فإذا هي كما هي، وأكثر، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا ؟ قالت: لا وقرة عيني هي الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرّات، فأكل أبو بكرٍ، وقال: إنَّما كان ذلك من الشَّيطان ـ يعني يمينه ـ ثمَّ أكل منها لقمةً، ثم حملها إلى رسول الله (ﷺ) فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين القوم عقدٌ، فمضى الأجل فتفرَّقنا اثني عشر رجلاً، مع كلِّ واحدٍ منهم أناسٌ، اللهُ أعلم كم مع كلِّ رجلٍ منهم، فأكلوا منها أجمعين.

وفي هذه القصة دروسٌ، وعِبرٌ، منها:

أـ حرص الصِّدِّيق على تطبيق الآيات القرآنية، والأحاديث النبويَّة التي تحثُّ على إكرام الضَّيف مثل قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ *} [الذاريات: 27].

وقوله (ﷺ): « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه ».

ب ـ وفي هذه القصَّة كرامةٌ للصدِّيق حيث جعل لا يأكل لقمةً إلا رَبَا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا، وصارت أكثر ممّا هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر ممّا كانت، فرفعها إلى رسول الله (ﷺ)، وجاء إليه أقوامٌ كثيرون فأكلوا منها، وشبعوا. وهذه الكرامة حصلت ببركة اتِّباع الصِّدِّيق لرسول الله (ﷺ) في جميع أحواله، وهي تدلُّ على مقام الولاية للصِّدِّيق، فأولياء الله هم المقتدون بمحمَّدٍ (ﷺ)، فيفعلون ما أمر به، وينتهون عمّا عنه زجر، ويقتدون به فيما بيَّن لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته، وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتَّقين.

ج ـ تقول السَّيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ: إنَّ أبا بكرٍ لم يحنث في يمينٍ قطُّ حتى أنزل الله كفارة اليمين، فقال: لا أحلف على يمينٍ، فرأيت غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خيرٌ، وكفَّرت عن يميني. فكان إذا حلف على شيءٍ، ورأى غيره خيراً منه؛ كفَّر، وأتى الذي هو خير. وفي هذه القصَّة ما يدلُّ على ذلك حيث ترك يمينه الأولى إكراماً لضيوفه، وأكل معهم.

        9ـ ما هي بأوَّل بركتكم يا ال أبي بكرٍ!

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: خرجنا مع رسول الله (ﷺ) في بعض أسفاره، حتّى إذا كنّا بالبيداء ـ أو بذات الجيش ـ انقطع عِقْدٌ لي فأقام رسول الله (ﷺ) على التماسه، وأقام الناس معه، وليس على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، فأتى الناس أبا بكرٍ، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله (ﷺ) وبالناس معه، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله (ﷺ) واضعٌ رأسه على فَخِذي قد نام، فقال: حَبَسْتِ رسول الله (ﷺ) والناس، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، قلت: فعاتبني، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التَّحرُّك إلا مكان رسول الله (ﷺ) على فخذي، فنام رسول الله (ﷺ)، حتّى أصبح على غير ماءٍ، فأنزل الله اية التَّيمُّم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فقال أسيد بن حضير: ما هي بأوَّل بركتكم يا ال أبي بكر! فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العِقْدَ تحته.

وفي هذه القصَّة يظهر حرص الصِّدِّيق على التأدُّب مع رسوله، وحساسيته الشَّديدة على أن لا يضايقه شيءٌ، ولا يقبل ذلك، ولو كان من أقرب الناس، وأحبِّهم إلى رسول الله (ﷺ)، كعائشة ـ رضي الله عنها ـ فقد كان رضي الله عنه قدوةً للدُّعاة في الأدب الجمِّ مع النبيِّ (ﷺ)، ومع نفسه، ومع المسلمين.

10ـ انتصار النبيِّ للصِّدِّيق رضي الله عنه:

لقد ثبت من الأحاديث الصَّحيحة ما يدلُّ على أنَّ النبيَّ (ﷺ) كان ينتصر لأبي بكرٍ، وينهى الناس عن معارضته، فعن أبي الدَّرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالساً مع النبيِّ (ﷺ) إذ أقبل أبو بكر اخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبيُّ (ﷺ): « أمّا صاحبكم فقد غامر »، فسلَّم، وقال: يراسل الله! إنَّه كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ، فأسرعتُ إليه، ثمَّ ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلت إليك. فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكرٍ ـ ثلاثاً ـ» ثمَّ إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا. فأتى النبيَّ (ﷺ) فسلَّم عليه، فجعل وجه رسول الله (ﷺ) يتمعَّر، حتّى أشفق أبو بكرفجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! واللهِ أنا كنت أظلم مرَّتين! فقال النبيُّ (ﷺ): « إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه، وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي » ـ مرَّتين ـ فما أوذي بعدها.

وفي هذه القصة دروسٌ وعبرٌ كثيرةٌ، منها: الطَّبيعة البشريَّة للصَّحابة، وما يحدث بينهم من خلافٍ، وسرعة رجوع المخطئ، وطلب المغفرة، والصَّفح من أخيه، وتوادُّ الصَّحابة فيما بينهم، ومكانة الصِّدِّيق الرَّفيعة عند رسول الله (ﷺ) ثمَّ أصحابه.. إلخ.  

11ـ قل: غفر الله لك يا أبا بكر!

قال ربيعة الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ: كنت أخدم النبيَّ (ﷺ) . . . وذكر حديثاً، ثمَّ قال: إنَّ رسول الله (ﷺ) أعطاني بعد ذلك أرضاً، وأعطى أبا بكرٍ أرضاً، وجاءت الدنيا، فاختلفنا في عذق نخلةٍ، فقلت أنا: هي في حدِّي. وقال أبو بكر: هي في حدِّي، فكان بيني وبين أبي بكر كلامٌ، فقال أبو بكر كلمةً كرهها، وندم، فقال لي: يا ربيعة! ردَّ عليها مثلها حتى تكون قصاصاً. قال: قلت: لا أفعل! فقال أبو بكر: لتقولنَّ، أو لاستعدين عليك رسول الله (ﷺ). فقلت: ما أنا بفاعل! قال: ورفض الأرض، وانطلق أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى النبيِّ (ﷺ)، وانطلقت أتلوه، فجاء ناسٌ من أسلم، فقالوا لي: رحم الله أبا بكرٍ! في أيِّ شيءٍ يستعدي عليك رسول الله (ﷺ) وهو قد قال لك ما قال؟ قلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصِّدِّيق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إيّاكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه، فيغضب، فيأتي رسولَ الله (ﷺ) فيغضب لغضبه، فيغضب الله عزَّ وجل لغضبهما فيهلك ربيعة! قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله (ﷺ)، فتبعته وحدي حتّى أتى النبيَّ (ﷺ)، فحدَّثه الحديث كما كان، فرفع إليَّ رأسه، فقال: يا ربيعة! مالك وللصِّدِّيق؟ قلت: يراسل الله! كان كذا، كان كذا، قال لي كلمة كرهها، فقال: قل لي كما قلت حتّى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال رسول الله (ﷺ): «أجل فلا تردَّ عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر!» فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر! قال الحسن (البصريُّ): فَوَلَّى أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وهو يبكي.

لله أي وجدانٍ هذا الوجدان، وأيُّ نفس تلك النَّفس، بادرةٌ بدرت منها لمسلمٍ، فلم ترض إلا اقتصاصه منها، وصفحه عنها، تناهياً بالفضيلة، واستمساك بالأدب، وشعوراً تمكَّن من الجوانح، وأخذ بمجامع القلوب، فكانت عنده زلَّة اللسان ـ ولو صغيرةً ـ ألماً يتململ منه الضَّمير، فلا يستريح إلا بالقصاص منه، ورضا ذلك المسلم عنه.

كانت كلمةً هيِّنة، ولكنَّها أصابت من ربيعةَ مَوجعاً.. فإذا أبو بكر يُزَلزَلُ من أجلها، ويأبى إلا القصاص عليها، مع أنَّه يومئذٍ كان الرَّجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله (ﷺ)، وهي

كلمة لا يمكن أن تكون من فُحش القول أبداً؛ لأنَّ أخلاقه لم تسمح بهذا، ولم يؤثر عنه حتّى في الجاهلية شيء من هذا.

لقد خشي الصِّدِّيق مغبة تلك الكلمة، ولهذا اشتكى لرسول الله، وهذا أمرٌ عجيبٌ، فإنَّ أبا بكرٍ قد نسي أرضه، ونسي قضيَّة الخلاف، وشغل باله أمر تلك الكلمة، لأنَّ حقوق العباد لا بدَّ فيها من عفو صاحب الحقِّ، وفي هذا درسٌ للشُّيوخ، والعلماء، والحكَّام، والدُّعاة في كيفيَّة معالجة الأخطاء، ومراعاة حقوق الناس، وعدم الدَّوس عليها بالأرجل .

وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبو بكرٍ يشتكي إلى رسول الله (ﷺ)، وهو الذي قال ما قال، ولم يعلموا ما علمه أبو بكر من لزوم إنهاء قضايا الخصومات، وإزالة ما قد يعلق في القلوب من الموجدة في الدُّنيا قبل أن يكتب ذلك في الصُّحف، ويترتَّب عليه الحساب يوم القيامة.

وبالرَّغم ممّا ظهر من رضا ربيعة، وتوجيه النبيِّ (ﷺ) إلى عدم الردِّ على أبي بكرٍ، فإنَّ أبا بكرٍ قد بكى من خشية الله تعالى، وهذا دليلٌ على قوَّة إيمانه، ورسوخ يقينه.

وأخيراً موقف يذكر لربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ حيث قام بإجلال أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وأبى أن يردَّ عليه بالمثل، وهذا من تقدير أهل الفضل، والتقدُّم، والمعرفة بحقِّهم، وهو دليلٌ على قوَّة الدِّين ورجاحة العقل.

12ـ مسابقته في الخيرات:

اتَّصف الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بالأخلاق الحميدة، والصِّفات الرَّفيعة، ومسابقته في الخيرات، حتّى صار في الخير قدوةً، وفي مكارم الأخلاق أسوةً، وكان حريصاً أشدَّ الحرص على الخيرات، فقد أيقن أنَّ ما يمكن أن يقوم به المرء اليوم، قد يكون غير ممكنٍ في الغد، فاليوم عملٌ، ولا حسابٌ، وغداً حسابٌ ولا عملٌ، ولذلك كان من المسارعين في الخيرات، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله (ﷺ): « من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ » . قال أبو بكر: أنا . قال: « فمن تبع منكم اليوم جنازةً ؟ » . قال أبو بكر: أنا . قال: « فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ؟ » . قال أبو بكر: أنا . قال: « فمن عاد منكم اليوم مريضاً ؟ » . قال أبو بكر: أنا.

فقال رسول الله (ﷺ): « ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة ».

13ـ كظمه للغيظ:

قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: إنَّ رجلاً شتم أبا بكر، ورسول الله (ﷺ) جالسٌ، فجعل النبيُّ (ﷺ) يعجب، ويبتسم، فلمّا أكثر الرَّجل، ردَّ عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبيُّ (ﷺ)، وقام، فلحقه أبو بكر، وقال: يراسل الله! كان يشتمني، وأنت جالسٌ، فلما أكثر؛ رددتُ عليه بعض قوله، غضبت، وقمت!! فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّه كان معك ملكٌ يردُّ عنك، فلمّا رددت عليه بعض قوله؛ وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان». ثمَّ قال: «يا أبا بكر! ثلاثٌ كلُّهنَّ حقٌّ: ما من عبدٍ ظُلم بمظلمةٍ، فيغضي عنها لله عزَّ وجلَّ إلاّ أعزَّ اللهُ بها نصره، وما فتح رجلٌ باب عطيَّةٍ، يريد بها صلةً إلا زاده الله بها كثرةً، وما فتح رجلٌ بابَ مسألةٍ يريدُ بها كثرةً إلا زاده الله بها قلَّةً ».

إنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ اتَّصف بكظم الغيظ، ولكنَّه ردَّ ما ظنَّ: أنَّه به يسكت هذا الرَّجل، فرغَّبه النبيُّ (ﷺ) في الحلم، والأناة، وأرشده إلى ضرورة تحلِّيه بالصَّبر في مواطن الغيظ، فإنَّ الحلم، وكظم الغيظ ممّا يزيد المرء، ويجمِّله في أعين الناس، ويرفع قدره عند الله تعالى.

ويتبيَّن لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على عدم إغضاب النبيِّ (ﷺ) والمسارعة إلى إرضائه، وفي الحديث ذمُّ الغضب للنَّفس، والنَّهي عنه، والتَّحذير منه، واعتزال الأنبياء للمجالس التي يحضرها الشيطان، وبيان الفضل للمظلوم، الصَّابر، المحتسب للأجر، والثواب، وفيه حثٌّ على العطايا، وصلة الأرحام، وذمٌّ للمسألة، وأهلها.

وظلَّ الصِّدِّيق متمسكاً بالحلم، وكظم الغيظ، حتّى عُرف بالحلم، والأناة، ولين الجانب، والرِّفق، وهذا لا يعني أنَّ أبا بكرٍ لم يكن يغضب، وإنَّما كان غضبه لله تعالى، فإذا رأى محارم الله قد انتهكت؛ غضب لذلك غضباً شديداً.

لقد عاش رسول الله (ﷺ) متأمِّلاً، ومتفكِّراً، وعاملاً بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [آل عمران: 133ـ134].

14ـ بلى والله إنِّي أحب أن يغفر الله لي!

كان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ يَعُول مِسْطَحَ بن أُثَاثَة، فلمّا قال في عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما قال ـ في حديث الإفك المشهور ـ أقسم بالله أبو بكرٍ ألا ينفعه أبداً، فلمّا أنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [النور: 22] . قال أبو بكرٍ: والله إنِّي أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً! لقد فهم الصِّدِّيق من الآية بأنَّ على المؤمن التخلُّق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات، والزَّلات، والمزالق، فإن فعل؛ فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}: كما تحبُّون عفو الله عن ذنوبكم، فكذلك اغفروا لمن دونكم، وكما أنَّ في الآية: مَنْ حلف على شيءٍ ألا يفعله، فرأى أنَّ فعله أولى من تركه؛ أتاه، وكفَّر عن يمينه . وقال بعض العلماء: هذه أرجى ايةٍ في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللَّفظ.

لقد دلَّت هذه الآية على أنَّ أبا بكرٍ أفضل الناس بعد النبيِّ ()؛ لأنَّ الله وصفه بصفاتٍ عجيبةٍ في هذه الآية، دالةٍ على علوِّ شأنه في الدِّين، أورد الرازي في تفسيره أربع عشرة صفةً مستنبطةً من هذه الآية: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ}: أنَّه وصفه بأنَّه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخصٍ دون شخصٍ، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدلُّ على أنَّه ـ رضي الله عنه ـ كان فاضلاً على الإطلاق، وكان مفضَّلاً على الإطلاق. ومنها: أنَّه لما وصفه تعالى بأنَّه أولو الفضل، والسَّعة بالجمع لا بالواحد، وبالعموم لا بالخصوص على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنَّه كان خالياً عن المعصية؛ لأنَّ الممدوح إلى هذا الحدِّ لا يكون من أهل النار.

15ـ خروجه للتجارة من المدينة إلى الشام:

خرج أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ للتِّجارة إلى بصرى ببلاد الشام في عهد النبيِّ (ﷺ)، ما منعهُ حبُّه الملازمة النبيِّ من الذَّهاب للتجارة، ولا منع النبيُّ (ﷺ) الصِّدِّيق من ذلك مع شدَّة حبِّه له. وفي هذا أهمِّـيَّـةُ أن يكون للمسلم مصدرُ رزقٍ، يستغني به عن سؤال الناس، بل ويساهم بهذا الرِّزق في إغاثة الملهوف، وفكِّ العاني، ويسارع في أبواب الإنفاق التي يحبُّها الله.

16ـ غيرة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وتزكية النبيِّ (ﷺ) لزوجه:

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنَّ نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصِّدِّيق ـ وهي تحته يومئذٍ ـ فراهم، فكره ذلك، فذكر ذلك لرسول الله، فقال: إنَّ الله تعالى قد برَّأها من ذلك، ثم قام رسول الله (ﷺ) على المنبر فقال: « لا يدخل رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجلٌ أو اثنان ».

17ـ خوفه من الله تعالى:

عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: خطبنا رسول الله (ﷺ) خطبةً ما سمعتُ مثلها قطُّ، فقال: « لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلاً، وبكيتم كثيراً »، فغطَّى أصحاب رسول الله (ﷺ) وجوههم، ولهم خنين.

وقد كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على جانبٍ من الخوف، والرَّجاء عظيمٍ، جعله قدوةً علميَّةً لكلِّ مسلمٍ سواءٌ حاكماً أو محكوماً، قائداً أو جنديّاً، يريد النَّجاح، والفلاح في الآخرة، فعن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ أهيب لما يعلم بعد النبيِّ (ﷺ) من أبي بكرٍ . وعن قيس قال: رأيت أبا بكرٍ اخذاً بطرف لسانه، ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وقد قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: ابكوا؛ فإن لم تبكوا؛ فتباكوا. وعن ميمون بن مهران قال: أتي أبو بكرٍ بغرابٍ وافر الجناحين، فقلَّبه، ثمَّ قال: ما صيد من صيد ولا عضدت من شجرةٍ إلا بما ضيعت من التَّسبيح. وعن الحسن قال: قال أبو بكر: والله لوددت أنِّي كنت هذه الشجرة تؤكل، وتُعْضَد! وقال أبو بكرٍ: لوددتُ أنِّي كنت شعرةً في جنب عبدٍ مؤمنٍ، وكان رضي الله عنه يتمثَّل بهذا البيت من الشِّعر:

لا تزالُ تنعَى حبيباً حتّى تكونَه وقد يرجو الفتى الرَّجا يموتُ دونه.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022