الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

الصديق في ميادين الجهاد

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثامنة

 

أولاً: في فتح مكَّة، وحنين، والطَّائف:

أـ في فتح مكَّة 8 هـ:

كان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره ابن إسحاق، قال: حدَّثني الزُّهريُّ عن عروة بن الزُّبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: أنَّهما حدَّثاه جميعاً قالا: في صلح الحديبية: أنَّه من شاء أن يدخل في عقد محمَّدٍ دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريشٍ وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة، وقالوا: نحن ندخل في عقد محمَّدٍ، وعهده، وتواثبت بنو بكرٍ، وقالوا: نحن ندخل في عقد قريشٍ، وعهدهم، فمكثوا في ذلك نحو السَّبعة أو الثمانية عشر شهراً، ثمَّ إنَّ بني بكرٍ، وثبوا على خزاعة ليلاً بماءٍ يقال له: الوتير ـ وهو قريبٌ من مكَّة ـ وقالت قريش: ما يعلم بنا محمَّد، وهذا الليل، وما يرانا من أحدٍ . فأعانوهم عليهم بالكراع والسِّلاح، وقاتلوهم معهم للضِّغن على رسول الله (ﷺ)، فقدِم عمرو بن سالم إلى المدينة، فأنشد رسول الله (ﷺ) قائلاً:

اللَّهُمَّ إنِّي ناشدٌ محمَّدا           حلفَ أبينا وأبيكَ الأتْلَدا

فانصرْ هداكَ اللهُ نصراً أعتدا وادعُ عبادَ اللهِ يأتوا مَدَدَا

      فقال النبيُّ (ﷺ): «نُصرت يا عمرو بن سالم! ».

وتجهَّز النبيُّ (ﷺ) مع صحابته للخروج إلى مكَّة، وكتم الخبر، ودعا الله أن يُعَمِّي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة، وخافت قريش أن يعلم النبيُّ (ﷺ) بما حدث، فخرج أبو سفيان من مكَّة إلى رسول الله. فقال: يا محمد! اشدُدِ العقد، وزدنا في المدَّة، فقال النبيُّ (ﷺ): «ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم؟». فقال: معاذ الله! نحن على عهدنا، وصلحنا يوم الحديبية، لا نغيِّر، ولا نبدِّل، فخرج من عند النبيِّ (ﷺ) يقصد مقابلة الصَّحابة عليهم الرِّضوان.

1ـ أبو بكر وأبو سفيان:

طلب أبو سفيان من أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يجدِّد العقد، ويزيدهم في المدَّة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله (ﷺ)، والله لو وجدت الذَّرَّ تقاتلكم؛ لأعنتها عليكم. وهنا تظهر فطنة الصدِّيق، وحنكته السياسية، ثم يظهر الإيمان القويُّ بالحقِّ الذي هو عليه، ويعلن أمام أبي سفيان دون خوف أنَّه مستعدٌّ لحرب قريش بكلِّ ما يمكن، ولو وجد الذَّرَّ تقاتل قريشاً؛ لأعانها عليها.

2ـ بين عائشة وأبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنهما:

دخل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على عائشة، وهي تغربل حنطةً، وقد أمرها النبيُّ (ﷺ) بأن تخفي ذلك.. فقال لها أبو بكر: يا بنية! لم تصنعين هذا الطَّعام؟ فسكتت، فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال: لعلَّه يريد بني الأصفر ـ أي الرُّوم ـ فصمتت، فقال: لعلَّه يريد أهل نجد؟ فصمتت، فقال: لعلَّه يريد قريشاً، فصمتت، فدخل رسول الله (ﷺ) فقال الصِّدِّيق له: يراسل الله! أتريد أن تخرج مخرجاً؟ قال: «نعم». قال: لعلَّك تريد بني الأصفر؟ قال: «لا». قال: أتريد أهل نجدٍ؟ قال: «لا». قال: فلعلَّك تريد قريشاً؟ قال: «نعم». قال أبو بكر: يراسل الله! أليس بينك وبينهم مدَّةٌ؟ قال: «ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعبٍ؟».

وهنا سلَّم أبو بكرٍ للنبيِّ (ﷺ)، وجهَّز نفسه ليكون مع القائد (ﷺ) في هذه المهمَّة الكبرى، وذهب مع رسول الله (ﷺ) المهاجرون، والأنصار، فلم يتخلَّف منهم أحدٌ.

3ـ الصِّدِّيق في دخول مكَّة:

لمّا دخل النبيُّ (ﷺ) مكة في عام الفتح، وكان بجانبه أبو بكرٍ، رأى النِّساء يلطمن وجوه الخيل، فابتسم إلى أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وقال: يا أبا بكر! كيف قال حسّان؟ فأنشد أبو بكرٍ:

عَدِمْنَا خَيْلَنا إنْ لم تَرَوْها تُثير النَّقْعَ مَوْعِدُها كداء

يبارين الأسِنَّة صمغيات على أكتَافِها الأسلُ الظماء

تظل جيادُنا متمرات      تلطمهُنَّ بالخُمرِ النِّساءُ

فقال النبيُّ (ﷺ): « ادخلوها من حيث قال حسّان ». وقد تمَّت النِّعمة على الصِّدِّيق في هذا الجوِّ العظيم بإسلام أبيه أبي قحافة.

ب ـ في حنين:

أخذ المسلمون يوم حنين درساً قاسياً؛ إذ لحقتهم هزيمةٌ في أوَّل المعركة، جعلتهم يفرُّون من هول المفاجأة، وكانوا كما قال الإمام الطبريُّ: فانشمروا، لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، وجعل رسول الله (ﷺ) يقول: « أين أيُّها الناسُ ؟! هلما إليَّ، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمَّد بن عبد الله.. يا معشر الأنصار! أنا عبد الله ورسوله». ثمَّ نادى عمَّه العبّاس وكان جهوريَّ الصَّوت، فقال له: «يا عبّاس! نادِ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السَّمُرة!» . كان هذا هو حال المسلمين في أوَّل المعركة، النبيُّ وحده، لم يثبت معه أحدٌ إلا قلَّة، ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبيِّ إلا فئةً من الصَّحابة يتقدَّمهم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ ثمَّ نصرهم الله بعد ذلك نصراً عزيزاً مؤزَّراً. وكانت هناك بعضُ المواقف للصِّدِّيق منها:

1ـ فتوى الصِّدِّيق بين يدي رسول الله:

قال أبو قتادة: لمّا كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، واخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني، وأضرب يده، فقطعتها، ثمَّ أخذني فضمَّني ضمّاً شديداً حتى تخوَّفت، ثمَّ ترك، فتحلَّل، ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثمَّ تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: «من أقام بينةً على قتيلٍ قتله؛ فله سلبه». فقمت لألتمس بيِّنةً على قتيلي فلم أرَ أحداً يشهدُ لي، فجلست، ثمَّ بدا لي فذكرت أمره لرسول الله (ﷺ)، فقال رجلٌ من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: كلاّ لا يعطهأصيب من قريشٍ، ويدعأسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله (ﷺ) . قال: فقام رسول الله (ﷺ) فأدّاه إليَّ، فاشتريت منه خرفاً، فكان أوَّل مالٍ تأثلت في الإسلام.

إنَّ مبادرة الصِّدِّيق في الزَّجر، والرَّدع، والفتوى، واليمين على ذلك في حضرة رسول الله (ﷺ)، ثمَّ يصدقه الرَّسول فيما قال، ويحكم بقوله خصوصية شرفٍ، لم تكن لأحدٍ غيره. ونلحظ في الخبر السَّابق: أنَّ أبا قتادة الأنصاريَّ ـ رضي الله عنه ـ حرص على سلامة أخيه المسلم، وقتل ذلك الكافر بعد جهدٍ عظيم، كما أنَّ موقف الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فيه دلالةٌ على حرصه على إحقاق الحقِّ، والدِّفاع عنه، ودليلٌ على رسوخ إيمانه، وعمق يقينه، وتقديره لرابطة الأخوَّة الإسلاميَّة، وأنَّها بمنزلةٍ رفيعة بالنِّسبة له.

2ـ الصِّدِّيق، وشعر عبّاس بن مرداس:

حين استقلَّ العبّاس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين، قال شعراً عاتب فيه رسول الله (ﷺ)، حيث قال:

كانتْ نِهاباً تلافَيْتُها                      بِكَرِّي على المُهْرِ في الأجْرَعِ

وإيقاظيَ القومَ أنْ يَرْقُدُوا            إذا هَجَعَ الناسُ لم أَهْجَعِ

فأصبحَ نَهْبِي ونَهْبُ العَبِيـ             ـدِ بينَ عينة والأقْرَعِ

وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَأٍ            فلمْ أُعْطَ شيئاً ولم أمنع

الا أَفَائِلَ أُعْطيْتُها                       عديدَ قوائِمِها الأرْبَعِ

وما كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ             يَفُوقان شَيْخِيَ في المجمع

عوما كنتُ دونَ أمرئ منهُما              ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يُرْفَعِ

فقال رسول الله (ﷺ): «اذهبوا، فاقطعوا عنِّي لسانه». فأعطوه؛ حتّى رَضِيَ، فكان ذلك قطعُ لسانه الذي أمر به رسول الله (ﷺ) .

وأتى العبّاسُ رسول الله (ﷺ) فقال له رسول الله (ﷺ): أنت القائل: «فأصبح نهبي ونهبُ العبيد بين الأقرع وعينة»؟ فقال أبو بكر: بين عينة والأقرع. فقال رسول الله (ﷺ): «هما واحِدٌ». فقال أبو بكر: أشهدُ أنَّك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ *} [يسس: 69].

ج ـ في الطَّائف:

في حصار الطَّائف وقعت جراحاتٌ في أصحاب النبيِّ وشهادةٌ، ورفع رسول الله (ﷺ) عن أهل الطَّائف الحصار، ورجع إلى المدينة، وممَّن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبد الله بن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ رُمِي بسهمٍ، فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبيِّ (ﷺ) .

وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم، فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتّى تنافس كلٌّ من أبي بكرٍ، والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرَّسول (ﷺ)، وفاز الصِّدِّيق بتلك البشارة، وبعد أن أعلنوا إسلامهم، وكتب لهم رسول الله (ﷺ) كتابهم، وأراد أن يؤمِّر عليهم أشار أبو بكر بعثمان بن أبي العاص ـ وكان أحدثهم سنّاً ـ فقال الصِّديق: يراسل الله! إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التففه في الإسلام، وتعلُّم القران، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلَّما نام قومه بالهاجرة، عمد إلى رسول الله (ﷺ) فسأله في الدين واستقراه القران حتّى فقه في الدِّين، وعلم، وكان إذا وجد رسول الله (ﷺ) نائماً عمد إلى أبي بكرٍ، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله (ﷺ)، وعجب منه، وأحبَّه.

وعندما علم الصِّدِّيق بصاحب السَّهم الذي أصاب ابنه كانت له مقولة تدلُّ على عظمة إيمانه، فعن القاسم بن محمَّد، قال: رُمِيَ عبد الله بن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ بسهمٍ يوم الطائف، فانتقضت به بعد وفاة رسول الله (ﷺ) بأربعين ليلةً، فمات، فقدم عليه وفد ثقيف، ولم يزل ذلك السَّهم عنده، فأخرجه إليهم، فقال: هل يعرف هذا السَّهْمَ منكم أحدٌ؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهمٌ أنا بَرَيْتُهُ، ورشته، وعقبته، وأنا رميت به . فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: فإنَّ هذا السَّهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكرٍ، فالحمد لله؛ الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنَّه أوسع لكما.

ثانيا: في غزوة تبوك، وإمارة الحجِّ، وفي حجَّة الوداع:

أـ في تبوك:

خرج رسول الله (ﷺ) بجيشٍ عظيمٍ في غزوة تبوك، بلغ عدده ثلاثين ألفاً، وكان يريد قتال الرُّوم بالشَّام، وعندما تجمَّع المسلمون عند ثنيَّة الوداع بقيادة رسول الله (ﷺ)، اختار الأمراء، والقادة، وعقد الألوية، والرَّايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم إلى أبي بكرٍ الصدِّيق ـ رضي الله عنهـ. وفي هذه الغزوة ظهرت بعض المواقف للصِّدِّيق منها:

1ـ موقفه من وفاة الصَّحابي عبد الله ذي البجادين رضي الله عنه:

قال عبد الله بن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: قمت في جوف الليل، وأنا مع رسول الله (ﷺ) في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلةً من نارٍ من ناحية العسكر، قال فاتَّبَعْتُها أنظر إليها، فإذا رسول الله (ﷺ)، وأبو بكرٍ، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكرٍ، وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: «أدليا إليّ أخاكما». فدلَّياه إليه، فلمّا هيَّأه بشقِّه قال: « الّلهمَّ إنِّي أمسيتُ راضياً عنه، فارضَ عنه » . قال الرَّاوي (عبد الله بن مسعود): يا ليتني كنتُ صاحب الحفرة.

وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ إذا أدخل الميتُ اللَّحد، قال: باسم الله، وعلى ملَّة رسول الله (ﷺ)، وباليقين وبالبعث بعد الموت.

 2ـ طلب الصِّدِّيق من رسول الله (ﷺ) الدُّعاء للمسلمين:

قال عمر بن الخطاب: خرجنا إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطشٌ، حتى ظننَّا أنَّ رقابنا ستقطع، حتّى إنَّ الرَّجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه، فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكرٍ الصدِّيق: يراسل الله! إنَّ الله قد عوَّدك في الدُّعاء خيراً، فادع الله، قال: « أتحبُّ ذلك » ؟ . قال: نعم، فرفع يديه، فلم يردَّهما حتّى قالت السَّماء ـ أي: تهيَّأت لإنزال مائها ـ فأطلَّت ـ أي: أنزلت مطراً خفيفاً ـ ثمَّ سكبت، فتملؤوا ما معهم، ثمَّ ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.     

 3ـ نفقة الصِّدِّيق في تبوك:

حثَّ رسول الله (ﷺ) الصَّحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بُعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كلٌّ حسب مقدرته، وكان عثمان ـ رضي الله عنه ـ صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة.

وتصدَّق عمر بن الخطاب بنصف ماله، وظنَّ: أنَّه سيسبق أبا بكرٍ بذلك، ونترك الفاروق يحدِّثنا بنفسه عن ذلك، حيث قال: أمرنا رسول الله (ﷺ) يوماً أن نتصدَّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله (ﷺ): «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بكل ما عنده، فقال له رسول الله (ﷺ): « ما أبقيت لأهلك ؟ » . قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً.

كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً، ولكن حال الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ

أفضل منه؛ لأنَّه خالٍ من المنافسة مطلقاً، ولا ينظر إلى غيره.

ب ـ الصِّدِّيق أمير الحج سنة 9 هـ:

كانت تربية المجتمع وبناء الدَّولة في عصر النبيِّ (ﷺ) مستمرةً على جميع الأصعدة، والمجالات العقائديَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والعسكريَّة، والتعبديَّة، وكانت فريضة الحج لم تمارس في السَّنوات الماضية، وحجَّة عام 8 هـ بعد الفتح كُلِّف بها عَتَّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميَّزت حجَّة المسلمين عن حجَّة المشركين، فلمّا حلَّ موسم الحجِّ، أراد الحجَّ (ﷺ)، ولكنَّه قال: « إنه يحضر البيت عراةٌ مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أحجَّ حتى لا يكون ذلك » .

فأرسل النبيُّ (ﷺ) الصِّدِّيق أميراً على الحجِّ سنة تسع من الهجرة، فخرج أبو بكرٍ الصِّدِّيق بركب الحجيج، نزلت سورة براءة، فدعا النبيُّ (ﷺ) عليّاً ـ رضي الله عنه ـ وأمره أن يلحق بأبي بكرٍ الصِّدِّيق، فخرج على ناقة رسول الله (ﷺ) العضباء حتى أدرك الصِّدِّيق أبا بكرٍ بذي حليفة، فلمّا راه الصِّدِّيق قال له: أميرٌ، أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثمَّ سار، فأقام أبو بكرٍ للنَّاس الحجَّ على منازلهم، التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحجُّ في هذا العام في ذي الحجَّة كما دلَّت على ذلك الرِّوايات الصحيحة، لا في شهر ذي القعدة كما قيل.

وقد خطب الصِّدِّيق قبل التَّروية، ويوم عرفة، ويوم النَّحر، ويوم النَّفر الأوَّل، فكان يُعَرِّفُ الناس مناسكهم: في وقوفهم، وإفاضتهم، ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات.. إلخ، وعليُّ بن أبي طالبٍ يخلفه في كُلِّ موقفٍ من هذه المواقف، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة، ثمَّ ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: « لا يدخل الجنَّة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومن كان بينه وبين رسول الله (ﷺ) عهدٌ، فعهده إلى مدَّته، ولا يحجُّ بعد العام مشركٌ ».

وقد أمر الصِّدِّيق أبا هريرة في رهطٍ اخر من الصَّحابة لمساعدة عليِّ بن أبي طالبٍ في إنجاز مهمَّته.

وقد كلَّف النبيُّ (ﷺ) عليّاً بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحجِّ، مراعاةً لما تعارف عليه العرب فيما بينهم من عقد العهود ونقضها ألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة، أو رجل من رهطه، وهذا العرفُ ليس فيه منافاةٌ للإسلام، فلذلك تدارك النبيُّ (ﷺ) الأمر، وأرسل عليّاً بذلك، فهذا هو السَّبب في تكليف عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ بتبليغ صدر سورة براءة، لا ما زعمته الإمامة من أنَّ ذلك للإشارة إلى أنَّ عليّاً ـ رضي الله عنه ـ أحقُّ بالخلافة من أبي بكرٍ، وقد علَّق على ذلك الدُّكتور محمد أبو شهبة، فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصِّدِّيق له: أميرٌ، أم مأمورٌ ؟ وكيف يكون المأمور أحقَّ بالخلافة من الأمير.

وقد كانت هذه الحجَّة بمثابة التَّوطئة للحَجَّة الكبرى، وهي حَجَّةُ الوداع، لقد أُعلن في حجَّة أبي بكرٍ أنَّ عهد الأصنام قد انقضى، وأنَّ مرحلةً جديدةً قد بدأت، وما على النَّاس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل: أنَّ الأمر جِدٌّ، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً، فأخذت ترسل وفودها معلنةً إسلامها، ودخولها في التَّوحيد.

ج ـ في حجَّة الوداع:

روى الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ بسنده إلى عبد الله بن الزُّبير عن أبيه: أنَّ أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: خرجنا مع رسول الله (ﷺ) حجَّاجاً، حتَّى إذا أدركنا (العرج)  نزل رسول الله (ﷺ)، فجلست عائشة جنب النبيِّ (ﷺ)، وجلستُ إلى جَنْب أبي، وكانت زمالةُ رسول الله (ﷺ)، وزمالة أبي بكر واحدةٌ مع غلامٍ لأبي بكرٍ، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلُع عليه، فطلع وليس معه بعيره!! فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة! فقال أبو بكر: بعيرٌ واحد تضله!! فطفق يضربه، ورسول الله يبتسم، ويقول: « انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع ».

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي،


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022