سقيفة بني ساعدة؛ حدث سياسي كبير في فترة تأسيس الدولة الإسلامية
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية عشر
أولا: سقيفة بني ساعدة:
لمّا علم الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ بوفاة رسول الله (ﷺ) اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السَّنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار مَنْ يلي الخلافة من بعده.
والتفَّ الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين، وهم مجتمعون مع أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لترشيح مَنْ يتولَّى الخلافة، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإنَّ لهم في هذا الحقِّ نصيباً، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكر ما تمالا عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟! قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينَّهم، فانطلقنا حتّى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجلٌ مزمَّلٌ
بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يُوعَك. فلمّا جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثمَّ قال: أمّا بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم ـ معشر المهاجرين ـ رهطٌ، وقد دفَّت دافَّةٌ من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر.
فلمّا سكت أردت أن أتكلَّم ـ وكنت قد زوَّرتُ مقالة أعجبتني أريد أن أقدِّمها بين يدي أبي بكرٍ ـ وكنت أداري منه بعض الحدِّ، فلمّا أردت أن أتكلَّم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلَّم أبو بكر، فكان هو أحلمَ منِّي، وأوقر، والله ما ترك من كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بديهته مثلها؛ أو أفضل منها حتّى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خيرٍ فأنتم له أهلٌ، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريشٍ، هم أوسط العرب نسباً، وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرَّجلين فبايعوا أيَّهما شئتم ـ فأخذ بيدي، ويد أبي عُبيدة بن الجراح؛ وهو جالسٌ بيننا ـ فلم أكره ممّا قال غيرها، والله أن أقدَّم فتضرب عنقي لا يُقربني ذلك من إثم أحبُّ إليَّ من أن أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بكر! اللهمَّ إلا أن تُسَوِّلَ إلى نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.
فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك، وعُذيقُها المرجَّب، منّا أميرٌ، ومنكم أمير يا معشر قريش! فكثر اللَّغط وارتفعتِ الأصوات، حتّى فَرِقْتُ من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثمَّ بايعته الأنصار.
وفي رواية أحمد: . . . فتكلَّم أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله (ﷺ) من شأنهم إلا وذكره، وقال: ولقد علمتم: أنَّ رسول الله (ﷺ) قال: « لو سلك الناس وادياً، وسلكتِ الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار »، ولقد علمت يا سعد! أنَّ رسول الله (ﷺ) قال وأنت قاعد: « قريشٌ ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لِبَرِّهم، وفاجر الناس تبعٌ لفاجرهم »، قال: فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء، وأنتم الأمراء.
ثانيا: أهمُّ الدروس، والعبر، والفوائد في هذه الحادثة:
1ـ الصِّدِّيق وتعامله مع النُّفوس، وقدرته على الإقناع:
من رواية الإمام أحمد يتَّضح لنا كيف استطاع الصِّدِّيق أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يدخل إلى نفوس الأنصار، فيقنعهم بما راه هو الحقُّ، من غير أن يُعرِّض المسلمين للفتنة، فأثنى على الأنصار ببيان ما جاء في فضلهم من الكتاب والسُّنَّة، والثناء على المخالف منهجٌ إسلاميٌّ يقصد منه إنصاف المخالف، وامتصاص غضبه، وانتزاع بواعث الأثرة، والأنانيَّة في نفسه، ليكون مهيَّأً لقبول الحق إذا تبيَّن له، وقد كان في هدي النبيِّ (ﷺ) الكثير من الأمثلة التي تدلُّ على ذلك. ثمَّ توصَّل أبو بكرٍ من ذلك إلى أنَّ فضلهم وإن كان كبيراً لا يعني أحقيَّتهم في الخلافة؛ لأنَّ النبيَّ (ﷺ) قد نصَّ على أنَّ المهاجرين من قريشٍ هم المُقَدَّمون في هذا الأمر.
وقد ذكر ابن العربيِّ المالكيُّ: أنَّ أبا بكرٍ استدلَّ على أنَّ أمر الخلافة في قريشٍ بوصية رسول الله (ﷺ): « بالأنصار خيراً، وأن يقبلوا من محسنهم، ويتجاوزوا عن مسيئهم » احتجَّ به أبو بكرٍ على الأنصار قوله: إنَّ اللهَ سمَّانا (الصَّادقين) وسمَّاكم (المفلحين) إشارة إلى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [الحشر: 8، 9]، وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنّا، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التوبة: 119] .
إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة، والأدلَّة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك، وانقادت إليه، وبيَّن الصِّدِّيق في خطابه أنَّ مِنْ مؤهِّلات القوم الذين يرشَّحون للخلافة أن يكونوا ممَّن يدين لهم العرب بالسِّيادة، وتستقرُّ بهم الأمور، حتّى لا تحدث الفتن فيما إذا تولَّى غيرهم، وأبان: أنَّ العرب لا يعترفون بالسِّيادة إلا للمسلمين من قريشٍ؛ لكون النبيِّ (ﷺ) منهم، ولما استقرَّ في أذهان العرب من تعظيمهم، واحترامهم .
وبهذه الكلمات النَّيِّرَة التي قالها الصِّدِّيق اقتنع الأنصار بأن يكونوا وزراء مُعينين وجنوداً مخلصين، كما كانوا في عهد النبيِّ (ﷺ)، وبذلك توحَّد صفُّ المسلمين.
2ـ زهد عمر، وأبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ في الخلافة، وحرص الجميع على وحدة الأمَّة:
بعد أن أتمَّ أبو بكرٍ حديثه في السَّقيفة قدَّم عمر، وأبا عبيدة للخلافة، ولكن عمر كره ذلك، وقال فيما بعد: فلم أكره ممّا قال غيرها، كان والله أن أقدَّم فتضرب عنقي لا يُقَرِّبني ذلك من إثمٍ أحبَّ إليَّ من أن أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بكرٍ.
وبهذه القناعة من عمر بأحقيَّة أبي بكرٍ بالخلافة قال له: ابسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده، قال: فبايعته، وبايعه المهاجرون، والأنصار. وجاء في رواية: قال عمر: . . . يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون: أنَّ رسول الله قد أمر أبا بكر أن يَؤُمَّ الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر.
وهذا ملحظٌ مهمٌّ وُفِّقَ إليه عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد اهتمَّ بذلك النبيُّ (ﷺ) في مرض موته، فأصرَّ على إمامة أبي بكرٍ، وهو من باب الإشارة بأنَّه أحقُّ من غيره بالخلافة، وكلام عمر في غاية الأدب، والتَّواضع، والتَّجرُّد من حظِّ النفس، ولقد ظهر زهد أبي بكرٍ في الإمارة في خطبته التي اعتذر فيها من قبول الخلافة حيث قال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً، ولا ليلةً قطُّ، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله عزَّ وجلَّ في سرٍّ، وعلانيةٍ، ولكنِّي أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحةٍ، ولكن قُلِّدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله عزَّ وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني.
وقد ثبت: أنَّه قال: وددت أنِّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرَّجلين، أبي عبيدة، أو عمر فكان أمير المؤمنين، وكنت وزيراً. وقد تكرَّرت خطب أبي بكرٍ في الاعتذار عن تولِّي الخلافة، وطلبه بالتنحِّي عنها، فقد قال: . . . أيُّها الناس! هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم على ذلك، وأكون كأحدكم. فأجابه الناس: رضينا بك قسماً وحظاً، وأنت ثاني اثنين مع رسول الله (ﷺ) ، وقد قام باستبراء نفوس المسلمين من أيِّ معارضةٍ لخلافته، واستحلفهم على ذلك، فقال: أيها الناس! أذكر الله أيُّما رجلٍ ندم على بيعتي لمّا قام على رجليه، فقال عليُّ بن أبي طالب، ومعه السَّيف، فدنا منه حتى وضع رِجلاً على عتبة المنبر، والأخرى على الحصى، وقال: والله لا نقيلك، ولا نستقبلك، قدَّمك رسول الله، فمن ذا يؤخِّرك؟ ولم يكن أبو بكر وحده الزَّاهد في أمر الخلافة والمسؤوليَّة بل إنَّها روح العصر.
ومن هذه النُّصوص التي تمَّ ذكرها يمكن القول: إنَّ الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة لا يخرج عن هذا الاتِّجاه، بل يؤكِّد حرص الأنصار على مستقبل الدَّعوة الإسلاميَّة، واستعدادهم المستمر للتَّضحية في سبيلها، فما اطمأنُّوا على ذلك حتّى استجابوا سراعاً لبيعة أبي بكر؛ الذي قبل البيعة لهذه الأسباب، وإلا فإن نظرة الصَّحابة مخالفةٌ لرؤية الكثير ممَّن جاء بعدهم ممَّن خالفوا المنهج العلميَّ، والدراسة الموضوعية، بل كانت دراستهم متناقضةً مع روح ذلك العصر، وامال، وتطلُّعات أصحاب رسول الله (ﷺ) من الأنصار، وغيرهم، وإذا كان اجتماع السَّقيفة أدَّى إلى انشقاقٍ بين المهاجرين والأنصار كما زعمه بعضهم، فكيف قبل الأنصار بتلك النتيجة، وهم أهل الدِّيار، وأهل العدد والعدَّة ؟ وكيف انقادوا لخلافة أبي بكرٍ، ونفروا في جيوش الخلافة شرقاً، وغرباً مجاهدين لتثبيت أركانها؟ لو لم يكونوا متحمِّسين لنصرتها.
فالصَّواب اتَّضح من حرص الأنصار على تنفيذ سياسة الخلافة، والاندفاع لمواجهة المرتدِّين، وأنَّه لم يتخلَّف أحدٌ من الأنصار عن بيعة أبي بكرٍ فضلاً عن غيرهم من المسلمين، وأنَّ أخوَّة المهاجرين، والأنصار أكبر من تخيُّلات الذين سطَّروا الخلاف بينهم في رواياتهمالمغرضة .
3ـ سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وموقفه من خلافة الصِّدِّيق:
إنَّ سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ قد بايع أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بالخلافة في أعقاب النِّقاش، الذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إذ أنَّه نزل عن مقامه الأوَّل في دعوى الإمارة، وأذعن للصِّدِّيق بالخلافة، وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصاري أوَّل من بايع الصِّدِّيق ـ رضي الله عنهم ـ في اجتماع السَّقيفة، ولم يثبت النَّقل الصحيح أيَّة أزماتٍ، لا بسيطةً، ولا خطيرةً، ولم يثبت أيَّ انقسامٍ، أو فِرَقٍ، لكلٍّ منها مرشحٌ يطمع في الخلافة، كما زعم بعض كتَّاب التَّاريخ، ولكنَّ الأخوَّة الإسلاميَّة ظلَّت كما هي، بل ازدادت توثُّقاً كما يثبت ذلك النَّقل الصحيح ولم يثبت النقل الصحيح تامراً حدث بين أبي بكرٍ وعمرَ، وأبي عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله (ﷺ)، فهم كانوا أخشى لله، وأتقى من أن يفعلوا ذلك .
وقد حاول بعض الكُتَّاب من المؤرخين أصحاب الأهواء أن يجعلوا من سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ منافساً للمهاجرين يسعى للخلافة بشرهٍ، ويدبِّر لها المؤامرات، ويستعمل في الوصول إليها كلَّ أساليب التَّفرقة بين المسلمين، هذا الرَّجل، إذا راجعنا تاريخه وتتبَّعنا مسلكه؛ وجدنا مواقفه مع الرَّسول (ﷺ) تجعله من الصَّفوة الأخيار، الذين لم تكن الدُّنيا أكبرَ همِّهم، ولا مبلغ علمهم، فهو النَّقيب في بيعة العقبة الثانية، حتى لجأت قريش إلى تعقُّبه قرب مكَّة، وربطوا يديه إلى عنقه، وأدخلوه مكَّة أسيراً حتّى أنقذه منهم جبير بن مطعم بن عديّ، حيث كان يجيرهم في المدينة، وهو من الذين شهدوا بدراًوحظي بمقام أهل بدرٍ، ومنزلتهم عند الله، وكان من بيت جودٍ، وكرمٍ، وشهد له بذلك رسول الله (ﷺ) .
وكان رسول الله (ﷺ) يعتمد عليه ـ بعد الله ـ وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق، عندما استشارهم في إعطاء ثلث ثمار المدينة لعينة بن حصن الفزاري، فكان رد السَّعْدَيْنِ يدلُّ على عمق الإيمان، وكمال التَّضحية، فمواقف سعدٍ مشهورة، ومعلومةٌ، فهذا الصَّحابي الجليل صاحب الماضي المجيد في خدمة الإسلام والصُّحبة الصَّادقة لرسول الله لا يعقل، ولم يثبت أنَّه كان يريد أن يُحييَ العصبية الجاهلية في مؤتمر السَّقيفة؛ لكي يحصل في غمار هذه الفرقة على منصب الخلافة، كما: أنَّه لم يثبت، ولم يصحَّ ما ورد في بعض المراجع من أنَّه ـ بعد بيعة أبي بكرٍ ـ كان لا يصلِّي بصلاتهم، ولا يفيض في الحجِّ بإفاضتهم، كأنَّما انفصل سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ عن جماعة المسلمين، فهذا باطلٌ، ومحض افتراءٍ، فقد ثبت من خلال الرِّوايات الصَّحيحة، أنَّ سعداً بايع أبا بكر، فعندما تكلَّم أبو بكرٍ يوم السَّقيفة، فذكر فضل الأنصار، وقال: ولقد علمتم: أنَّ رسول الله قال: « لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً، وشعباً؛ لسلكتُ وادي الأنصار، أو شعبَ الأنصار »، ثم ذكر سعد بن عبادة بقول فصلٍ، وحجَّةٍ لا تردُّ، فقال: ولقد علمت يا سعد! أنَّ رسول الله (ﷺ) قال وأنت قاعدٌ: « قريشٌ ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم » قال سعد: صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء، فتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد.
وبهذا تثبت بيعة سعد بن عبادة، وبها يتحقَّق إجماع الأنصار على بيعة الخليفة أبي بكر، ولا يعود أيُّ معنى للترويج لروايةٍ باطلةٍ، بل سيكون ذلك مناقضاً للواقع، واتِّهاماً خطيراً، أن ينسب لسيِّد الأنصار العمل على شقِّ عصا المسلمين، والتنكُّر لكلِّ ما قدَّمه من نصرةٍ، وجهادٍ وإيثارٍ للمهاجرين، والطَّعن بإسلامه من خلال ما ينسب إليه من قول: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضِّب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، فكان لا يصلِّي بصلاتهم، ولا يجمِّع بجماعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهمأي: في الحجِّ .
إنَّ هذه الرِّوايةَ التي استُغِلَّت للطَّعن بوحدة المهاجرين، والأنصار، وصدق أخوَّتهم، ما هي إلا روايةٌ باطلةٌ للأسباب التالية:
أنَّ الراوي صاحب هوىً، وهو (إخباريٌّ تالفٌ، لا يوثق به) ولا سيَّما في المسائل الخلافيَّة .
قال الذَّهبيُّ عن هذه الرِّواية: وإسنادها كما ترى، أي: في غاية الضَّعف، أمّا متنها؛ فهو يناقض سيرة سعد بن عبادة وما في عنقه من بيعةٍ على السَّمع، والطَّاعة، ولما روي عنه من فضائل
4ـ ما يروى من خلافٍ بين عمرَ، والحباب بن المنذر:
أمّا ما يروى عن تنازعٍ في السَّقيفة بين عمر، والحباب بن المنذر السَّلميِّ الأنصاريِّ، فالرَّاجحُ أنَّه غير صحيحٍ، وأنَّ عمر لم يُغضب الحباب بن المنذر منذ عهد رسول الله (ﷺ)، فقد روي عن عمر، قال: فلمّا كان الحباب بن المنذر هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلامٌ؛ لأنَّه كان بيني وبينه منازعةٌ في حياة رسول الله (ﷺ) فنهاني عنه فحلفت ألا أكلِّمه كلمةً تسوؤه أبداً.
كما أنَّ ما يروى عن الحباب في هذه المنازعة مخالفٌ لما عُهد عنه من حكمةٍ، ومن حسن تأتِّيه للأمور؛ إذ كان يلقب: (بذي الرأي) في عهد رسول الله (ﷺ)؛ وذلك لقبول مشورته في بدرٍ، وخيبر، وأمّا قول الحباب بن المنذر: منا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فقد سوغ ذلك، وأوضح أنَّه لا يقصد بذلك الوصول إلى الإمارة، فقال: فإنَّا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنّا نخاف أن يليه أقوام قتلنا اباءهم، وإخوانهم، فقبل المهاجرون قوله، وأقرُّوا عذره، ولا سيَّما أنَّهم شركاء في دماء من قُتِل من المشركين.
5ـ حديث الأئمَّة من قريشٍ، وموقف الأنصار منه:
ورد حديث « الأئمَّة من قريشٍ » في الصَّحيحين، وكتبِ الحديثِ الأخرى بألفاظٍ متعدِّدة، ففي صحيح البخاريِّ: عن معاوية، قال: قال رسول الله (ﷺ): « إنَّ هذا الأمر في قريشٍ، لا يعاديهم أحدٌ إلا أكبَّه الله في النَّار على وجهه ما أقاموا الدِّين ». وفي صحيح مسلمٍ: « لا يزال الإسلام عزيزاً بخلفاء كلُّهم من قريشٍ ». وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ﷺ): « لا يزال هذا الأمر في قريشٍ ما بقي منهم اثنان ». وقال رسول الله (ﷺ): « النَّاس تبعٌ لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم ».
وعن بكير بن وهب الجزري، قال: قال لي أنس بن مالك الأنصاري: أحدِّثك حديثاً ما أحدِّثه كلَّ أحدٍ، كنَّا في بيتٍ من الأنصار، فجاء النَّبيُّ (ﷺ) حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب، فقال: « الأئمة من قريش إنَّ لهم عليكم حقّاً، ولكم عليهم حقّاً مثل ذلك، ما إن استرحموا؛ فرحموا، وإن عاهدوا، أوفوا، وإن حكموا عدلوا ».
وفي « فتح الباري » أورد ابن حجر أحاديث كثيرةً تحت باب: الأمراء من قريش، أسندها إلى كتب السنن، والمسانيد، والمصنَّفات، فالأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب الحديث، وقد رويت بألفاظ متعددةٍ، إلا أنها متقاربةٌ، تؤكِّد جميعها أنَّ الإمرة المشروعة في قريشٍ، ويقصد بالإمرة الخلافة فقط، أما ما سوى ذلك فتساوى فيه جميع المسلمين، وبمثل ما أوضحت الأحاديث النَّبوية الشَّريفة أنَّ أمر الخلافة في قريشٍ، فإنَّها حذَّرت من الانقياد الأعمى لهم، وأنَّ هذا الأمر فيهم ما أقاموا الدِّين كما سلف في حديث معاوية، وكما جاء في حديث أنسٍ: إن استرحموا، فرحموا، وإن عاهدوا؛ أوفوا، وإن حكموا؛ عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.
وبهذا حذَّرت الأحاديث من اتِّباع قريش إن زاغوا عن الحكم بما أنزل الله، فإن لم يمتثلوا، ويطبِّقوا مثل هذه الشُّروط، فإنَّهم سيصبحون خطراً على الأمَّة، وحذرت الأحاديث الشريفة من اتباعهم على غير ما أنزل الله، ودعت إلى اجتنابهم، والبعد عنهم، واعتزالهم؛ لما سيترتَّب على مؤازرتهم آنذاك من مخاطر على مصير الأمة، قال (ﷺ): « إنَّ هلاك أمتي، أو فساد أمتي رؤوس أغلمة سفهاء من قريش ». وعندما سئل (ﷺ): فما تأمرنا ؟ قال (ﷺ): « لو أنَّ الناس اعتزلوهم ».
ومن هذه النُّصوص تتَّضح الصُّورة لمسألة الأئمَّة من قريشٍ، وأنَّ الأنصار انقادوا لقريشٍ ضمن هذه الضَّوابط، وعلى هذه الأسس، وهذا ما أكَّدوه في بيعاتهم لرسول الله: « على السَّمع، والطاعة، والصَّبر على الأثرة، وألا ينازعوا الأمر أهله، إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان ».
فقد كان للأنصار تصوُّرٌ تامٌّ عن مسألة الخلافة، وأنَّها لم تكن مجهولةً عندهم، وأنَّ حديث: «الأئمَّة من قريش» كان يرويه كثيرٌ منهم، وأنَّ الذين لا يعلمونه سكتوا عندما رواه لهم أبو بكرٍ الصِّدِّيق، ولهذا لم يراجعه أحدٌ من الأنصار عندما استشهد به، فأمر الخلافة تمَّ بالتَّشاور، والاحتكام إلى النُّصوص الشَّرعيَّة، والعقليَّة؛ التي أثبتت أحقِّية قريشٍ بها، ولم يُسمع عن أحدٍ من الأنصار بعد بيعة السَّقيفة أنَّه دعا نفسه بالخلافة، ممَّا يؤكِّد اقتناع الأنصار، وتصديقهم لما تمَّ التوصُّل إليه من نتائج، وبهذا يتهافت، ويسقط قولُ مَنْ قال: إنَّ حديث الأئمَّة من قريش شعارٌ رفعته قريشٌ لاستلاب الخلافة من الأنصار، أو أنَّه: رأيٌ لأبي بكرٍ، وليس حديثاً رواه عن الرَّسول، وإنَّما كان فكراً سياسياً قرشيّاً، كان شائعاً في ذلك العصر، يعكس ثقل قريشٍ في المجتمع العربيِّ في ذلك الحين، وعلى هذا فإنَّ نسبة هذه الأحاديث إلى أبي بكرٍ، وأنَّها شعارٌ لقريش ما هي إلا صورةٌ من صور التَّشويه التي يتعرَّض لها تاريخ العصر الراشديِّ، وصدر الإسلام، الذي قام أساساً على جهود المهاجرين، والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ، وعلى روابط الأخوَّة المتينة بين المهاجرين والأنصار، حتّى قال فيهم أبو بكر: نحن والأنصار، كما قال القائل:
أبَوْا أن يملُّونا ولو أنَّ أمَّنا تلاقي الذي يلقون منّا لملَّتِ.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي،