الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

بيعة أبي بكر الصديق و مقومات خلافته...إقرار للعدل والمساواة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة :الرابعة عشر

تمهيد
بعد أن تمَّت بيعة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ البيعة الخاصَّة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر ـ رضي الله عنه ـ في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكرٍ، وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة العامَّة . قال أنس بن مالك: لمّا بويع أبو بكر في السَّقيفة، وكان الغد؛ جلس أبو بكرٍ على المنبر، فقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكرٍ، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال: أيها الناس! إني كنت قلت لكم بالأمس مقالةً ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليَّ رسول الله (ﷺ)، ولكنِّي قد كنت أرى أنَّ رسول الله (ﷺ) سيدبر أمرنا ـ يقول: يكون اخرنا ـ وإنَّ الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسوله (ﷺ)، فإن اعتصمتم به، هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله (ﷺ)، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكرٍ بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلَّم أبو بكرٍ فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثمَّ قال: أما بعد أيُّها الناس! فإنِّي قد ولِّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت؛ فأعينوني، وإن أسأتُ؛ فقوِّموني، الصِّدق أمانةٌ، والكذب خيانةٌ، والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتّى أُرجع عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتّى اخذ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدعُ قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذُّلِّ، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله، ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وقال عمر لأبي بكرٍ يومئذٍ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتّى صعد المنبر، فبايعه الناس عامَّة.
وتعتبر هذه الخطبة الرَّائعة من عيون الخطب الإسلاميَّة على إيجازها، وقد قرَّر الصِّدِّيق فيها قواعد العدل، والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركَّز على أنَّ طاعة ولي الأمر مترتبةٌ على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمَّة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهميَّة ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد. ومن خلال الخطبة والأحداث التي تمَّت بعد وفاة الرَّسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة، والتي من أهمها:
1ـ مفهوم البيعة:
عرَّف العلماءُ البيعةَ بتعاريف عدةٍ، منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام، وعُرِّفت كذلك بأنَّها أخذ العهد، والميثاق، والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسُّنَّة، وإقامة ما أقامه، وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير؛ جعلوا أيديهم في يده، تأكيداً للعهد والولاء، فأشبه ذلك الفعل البائع، والمشتري، فسمِّي هذا الفعل بيعة.
ونتعلَّم من مبايعة الأمَّة للصِّدِّيق بأنَّ الحاكم في الدَّولة الإسلاميَّة إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد، بايعته الأمَّة بعد أن توفَّرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على مَنْ يخرج عليه، حفاظاً على وحدة الأمَّة، وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدَّولة الإسلامية، وخارجها.
قال (ﷺ): « من مات وليس في عنقه بيعةٌ؛ مات ميتةً جاهليةً »، فهذا الحديث فيه حثٌّ على وجوب إعطاء البيعة، والتوعُّد على تركها، فمن مات، ولم يبايع؛ عاش على الضلال، ومات على الضلال.
وقال رسول الله (ﷺ): « ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه؛ فَلْيُطِعْه ما استطاع، فإن جاء اخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر » .
فالشارع الحكيم قد رتَّب القتل، وأمر به نتيجة الخروج على الإمام، ممّا يدلُّ على حرمة هذا الفعل؛ لأنَّه يطلب بيعةً أخرى بالبيعة الأولى؛ التي هي فرضٌ على المسلمين.
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدَّولة هو الخليفة، وأمّا في الأقاليم فقد يأخذها الإمام، وقد يأخذها نوّاب الإمام، كما حدث في بيعة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فبيعة أهل مكَّة، والطائف أخذها نوّاب الخليفة.
والذي تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحلّ، والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمَّة وقادتها، وأهل الشورى، وأمراء الأمصار، وأمّا سائر الناس، وعامَّتهم، فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامَّة من البيعة بعد بيعة أهل الحلِّ، والعقد، وهناك من العلماء مَنْ قال: لابدَّ من البيعة العامَّة؛ لأنَّ الصِّدِّيق لم يباشر مهامه كخليفة للمسلمين إلا بعد البيعة العامَّة له من المسلمين.
والبيعة بهذا المعنى الخاصِّ الذي تم للصِّدِّيق لا تعطى إلا للإمام الأعظم في الدَّولة الإسلاميَّة، ولا تعطى لغيره من الأشخاص سواءٌ في ظلِّ الدولة الإسلاميَّة، أو عند فقدها، لما يترتب على هذه البيعة من أحكام. وخلاصة القول: إنَّ البيعة بمعناها الخاصِّ هي إعطاء الولاء، والسَّمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنَّها في جوهرها، وأصلها عقدٌ، وميثاقٌ بين طرفين: الإمام من جهةٍ، وهو الطرف الأوَّل، والأمَّة من جهةٍ ثانيةٍ، وهي الطَّرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسُّنَّة، والخضوع التامِّ للشريعة الإسلاميَّة عقيدةً، وشريعةً، ونظام حياةٍ، والأمَّة تبايع على الخضوع، والسَّمع، والطاعة للإمام في حدود الشَّريعة.
فالبيعة خصِّيصةٌ من خصائص نظام الحكم في الإسلام، تفرَّد به عن غيره من النُّظم الأخرى في القديم، والحديث، ومفهومه أنَّ الحاكم، والأمَّة كليهما مقيَّدٌ بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعيَّة، ولا يحقُّ لأحدهما سواءٌ كان الحاكم، أو الأمَّة ممثلةً بأهل الحلِّ والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسُّنَّة، أو القواعد العامَّة في الشريعة، ويعدُّ فعل مثل ذلك خروجاً على الإسلام، بل إعلان الحرب على النِّظام العامِّ
للدَّولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أنَّ القران الكريم نفى عنهم صفة الإيمان، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء: 65] .
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه.
2ـ مصدر التَّشريع في دولة الصِّديق:
قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإن عصيتُ اللهَ ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم، فمصدر التَّشريع عند الصِّدِّيق:
أـ القران الكريم:
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا*} [النساء: 105].
فهو المصدر الأوَّل الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعيَّة، التي تتعلَّق بشؤون الحياة، كما يتضمَّن مبادئ أساسيَّة، وأحكاماً قاطعةً لإصلاح كلِّ شعبةٍ من شعب الحياة، كما بيَّن القران الكريم للمسلمين كلَّ ما يحتاجون إليه من أسسٍ تقوم عليها دولتُهم.
ب ـ السنَّة المطهَّرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمدُّ منه الدُّستور الإسلاميُّ أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصِّيغ التنفيذيَّة، والتطبيقيَّة لأحكام القران.
إنَّ دولة الصِّدِّيق خضعت للشريعة، وأصبحت سيادة الشريعة الإسلاميَّة فيها فوق كلِّ تشريعٍ، وفوق كلِّ قانونٍ، وأعطت لنا صورةً مضيئةً مشرقةً على أنَّ الدَّولة الإسلاميَّة دولة شريعة، خاضعة بكلِّ أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها، لا يتقدَّم، ولا يتأخر عنها.
ففي دولة الصِّدِّيق، وفي مجتمع الصَّحابة الشَّريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم، والمحكـوم، ولهذا قيَّـد الصِّدِّيـق طاعتـه التي طلبهـا من الأمَّـة بطاعـة الله ورسـوله؛ لأنَّ رسول الله (ﷺ) قال: « لا طاعة في المعصية، إنَّما الطاعةُ في المعروف » .
3ـ حقُّ الأمَّة في مراقبة الحاكم، ومحاسبته:
قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني.
فهذا الصِّدِّيق يقرُّ بحقِّ الأمَّة وأفرادها في الرَّقابة على أعماله، ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كلِّ منكرٍ يرتكبه، وإلزامه بما يعتبرونه الطَّريق الصَّحيح، والسُّلوك الشَّرعيَّ، وقد أقرَّ الصِّدِّيق في بداية خطابه للأمَّة: أن كل حاكم معرَّضٌ للخطأ، والمحاسبة، وأنَّه لا يستمدُّ سلطته من أيِّ امتيازٍ شخصيٍّ يجعل له أفضليَّةً على غيره؛ لأنَّ عهد الرِّسالات، والرسل المعصومين قد انتهى، وأنَّ اخر رسول كان يتلقَّى الوحي انتقل إلى جوار ربِّه، وقد كانت له سلطةٌ دينيَّةٌ مستمدَّةٌ من عصمته كنبيٍّ، ومن صفته كرسولٍ يتلقَّى التَّوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته (ﷺ)، وبعد وفاته (ﷺ) أصبح الحكم، والسُّلطة مستمدَّةً من عقد البيعة، وتفويض الأمَّة له.
إنَّ الأمَّة في فقه أبي بكرٍ لها إدارةٌ حيَّةٌ واعيةٌ، لها القدرة على المناصرة، والمناصحة، والمتابعة، والتَّقويم، فالواجب على الرَّعيَّة نُصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله، ومعاضدته، ومناصرته في أمور الدِّين، والجهاد، ومن نصرة الإمام ألا يُهان، ومن معاضدته أن يُحترم، وأن يُكرم، فقوامته على الأمَّة، وقيادتُه لها لإعلاء كلمة الله تستوجب إجلاله، وإكرامه، وتبجيله، إجلالاً، وإكراماً لشرع الله الذي ينافح عنه، ويدافع عنه . قال رسول الله (ﷺ): « إنَّ من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القران غير المغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السُّلطان المقسط »، والأمَّة واجبٌ عليها أن تُناصح ولاة أمرها . قال (ﷺ): « الدِّين النصيحة » ـ ثلاثاً ـ قال الصَّحابة: لمن يراسل الله ؟ قال: « لله ـ عزَّ وجلَّ ـ ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامتهم ».
ولقد استقرَّ في مفهوم الصَّحابة أنَّ بقاء الأمَّة على الاستقامة رهنٌ باستقامة وُلاتها، ولذلك كان من واجبات الرَّعية تجاه حكَّامهم نصحهم، وتقويمهم، ولقد أخذت الدَّولة الحديثة تلك السِّياسة الرائدة للصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وترجمت ذلك إلى لجان متخصِّصة ومجالس شوريَّة، تمد الحاكم بالخطط، وتزوِّده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرِّره، والشيء المحزن أن كثيراً من الدول الإسلاميَّة تعرض عن هذا النِّظام الحكيم، فَعِظَمُ مصيبتها في تسلُّط الحكام وجبروتهم، والتخلُّف الذي يعمُّ معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلُّط بغيض، (ودكتاتورية) لعينةٍ أماتت في الأمَّة روح التَّناصح، والشَّجاعة، وبذرت فيها وزرعت بها الجبن، والفزع إلا من رحم ربِّي، وأمّا الأمَّة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم، ومناصحتهم، وتأخذ بأسباب القوَّة، والتَّمكين في الأرض؛ فتنطلق إلى افاق الدُّنيا تبلِّغ دعوة الله.
4ـ إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: الضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أُرجع عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيفٌ حتى اخذ الحقَّ منه إن شاء الله.
إنَّ من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلاميِّ التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهم هذه القواعد: الشورى، والعدل، والمساواة، والحريات، ففي خطاب الصِّدِّيق للأمَّة أقرَّ هذه المبادئ، فالشورى تظهر في طريقة اختياره، وبيعته، وفي خطبته في المسجد الجامع، بمحضرٍ من جمهور المسلمين، وأمّا عدالتُه؛ فتظهر في نصِّ خطابه، ولا شكَّ: أنَّ العدل في فكر أبي بكرٍ هو عدل الإسلام، الذي هو الدِّعامةُ الرئيسيَّة في إقامة المجتمع الإسلاميِّ، والحكم الإسلاميِّ، فلا وجود للإسلام في مجتمعٍ يسوده الظلمُ، ولا يعرف العدلَ .
إنَّ إقامة العدل بين الناس أفراداً، وجماعاتٍ، ودولاً، ليست من الأمور التطوُّعيَّة التي تُترك لمزاج الحاكم، أو الأمير، وهواه، بل إنَّ إقامة العدل بين الناس في الدِّين الإسلامي تعدُّ من أقدس الواجبات، وأهمِّها، وقد أجمعت الأمَّة على وجوب العدل. قال الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ: أجمعوا على أنَّ من كان حاكماً، وجب عليه أن يحكم بالعدل.
وهذا الحكم تؤيِّده النصوص القرآنية، والسُّنَّةُ النبويَّة. إنَّ من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلاميِّ؛ الذي تسود فيه قيم العدل، والمساواة، ورفع الظلم، ومحاربته، بجميع أشكاله، وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال، وتيسِّر السُّبل أمام كُلِّ إنسان يطلب حقَّه أن يصل إليه بأيسر السُّبل، وأسرعها، دون أن يكلِّفه ذلك جهداً، أو مالاً، وعليها أن تمنع أي وسيلةٍ من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحقِّ من الوصول إلى حقِّه.
لقد أوجب الإسلام على الحكّام أن يقيموا العدل بين الناس دون النَّظر إلى لغاتهم، أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعيَّة، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحقِّ، ولا يهمُّه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [المائدة: 8] .
لقد كان الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قدوةً في عدله، يأسر القلوب، ويبهر الألباب، فالعدل في نظره دعوةٌ عمليَّة للإسلام، فيه تفتح قلوب الناس للإيمان، لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في هذا العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعةٍ تدلُّ على العدل، والخوف من الله سبحانه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قام يوم جمعة، فقال: إذا كنّا بالغداة؛ فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولا يدخل علينا أحدٌ إلا بإذنٍ، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام لعلَّ الله يرزقنا جملاً، فأتى الرَّجل فوجد أبا بكرٍ، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكرٍ، فقال: ما أدخلك علينا ؟ ثمَّ أخذ منه الخطام فضربه، فلمّا فرغ أبو بكرٍ من قسم الإبل دعا الرَّجل فأعطاه الخطام، وقال: استقد.. فقال عمر: والله لا يستقد! ولا تجعلها سُنَّةً . قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة ؟ قال عمر: أَرْضِهِ، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلةٍ، ورحلها، وقطيفة، وخمسة دنانير، فأرضاه بها.
وأمّا مبدأ المساواة الذي أقرَّه الصِّدِّيق في بيانه الذي ألقاه على الأمَّة فيُعَدُّ أحد المبادئ العامَّة التي أقرَّها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، وممّا ورد في القران الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *} [الحجرات: 13].
إنَّ الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسيةٌ، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس، أو اللون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكام والمحكومون كلُّهم في نظر الشرع سواءٌ، وجاءت ممارسة الصِّدِّيق لهذا المبدأ خير شاهدٍ على ذلك. حيث يقول: ولِّيت عليكم، ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، القويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى اخذ الحقَّ منه، والضعيفُ فيكم قويُّ عندي حتى اخذ له حقَّه.
وكان رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين، فيعطي كلَّ ما فيه سواسيةً بين الناس، فقد روى ابن سعد، وغيره: أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كان له بيت مال بالسُّنْح معروفٌ، ليس يحرسه أحدٌ، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال مَنْ يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي ما فيه حتى لا يُبقي فيه شيئاً، فلمّا تحوَّل إلى المدينة حوَّله معه، فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مالٌ من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سُليمٍ في خلافته، فقدم عليه منه بصدقةٍ، فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سويّاً، بين الحرِّ والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السَّواء . قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: فأعطى أول عام الحرَّ عشرة، والمملوك عشرةً، وأعطى المرأة عشرةً، وأمتها عشرةً، ثمَّ قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناسٌ من المسلمين، فقالوا: يا خليفة رسول الله! إنَّك قسمت هذا المال، فسوَّيت بين الناس، ومن الناس أناسٌ لهم فضلٌ، وسوابقُ، وقدمٌ، فلم فضَّلت أهل السَّوابق، والقدم، والفضل. فقال: أما ما ذكرتم من السَّوابق، والقدم، والفضل، فما أعرفني بذلك، وإنَّما ذلك شيءٌ ثوابه على الله جلَّ ثناؤه، وهذا معاشٌ، فالأسوة فيه خيرٌ من الأثَرة.
فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التَّسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك، فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين، وصلَّى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنَّما عملوا لله، وإنَّما أجورهم على الله، وإنَّما الدُّنيا بلاغٌ للرَّاكب.
ورغم أنَّ عمر رضي الله عنه غيَّر في طريقة التوزيع، فجعل التَّفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد، إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت، لرجعت إلى طريقة أبي بكرٍ، فسوَّيتُ بين الناس.
وكان يشتري الإبل، والخيل، والسِّلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة: كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرَّقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكرٍ في خلافته مئتي ألفٍ وُزِّعت في أبواب الخير.
لقد اتَّبع أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ المنهج الربَّاني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، وراعى حقوق الضُّعفاء، فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم، فيتبعهم بسمعٍ مرهفٍ، وبصرٍ حادٍّ، وإرادة واعيةٍ، لا تستذلها عوامل القوَّة الأرضيَّة، فتملي كلمتها.. إنَّه الإسلام في فقه رجلِ دولته، النَّابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم، فيؤمِّن به كيان دولته، ويحفظ لها دورها في حراسة الملَّة، والأمَّة.
لقد قام الصِّدِّيق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أنَّ العدل عزٌّ للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصِّدِّيق سياسته تلك موضع التنفيذ، وهو يردِّد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *} [النحل: 90].
كان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرِّيَّة الدَّعوة إليه، وإنما تتمُّ الطمأنينة للمسلمين ما قام الحاكم فيهم على أساسٍ من العدل المجرَّد عن الهوى.
والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبارٍ شخصيٍّ، وأن يكون العدل والرَّحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكرٍ في تولِّي أمور الدولة قائمة على إنكار الذَّات، والتَّجرُّدِ لله تجرُّداً مطلقاً، جعله يشعر بضعف الضعيف، وحاجة المجتمع، ويسمو بعدله على كلِّ هوىً، وينسى في سبيل ذلك نفسه، وأبناءه، وأهله، ثمَّ يتتبَّع أمور الدَّولة جليلها، ودقيقها بكلِّ ما اتاه اللهُ من يقظةٍ، وحذر.
وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف امنٌ على حقِّه، وكلُّه يقينٌ أنَّ ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قويٌّ لا يمنع حقه، ولا يضيع، والقويُّ حين يَظلم يردعه الحقُّ، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاهٍ، أو سلطانٍ، أو قرابةٍ لذي سطوةٍ، أو مكانةٍ، وذلك هو العزُّ الشَّامخ، والتَّمكين الكاملُ في الأرض.
وما أجمل ما قاله ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ: إنَّ الله ينصر الدَّولة العادلة؛ وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدَّولة الظالمة، ولو كانت مسلمةً، ... بالعدل تُستصلح الرِّجال، وتُستغزر الأموال.
5ـ الصِّدق أساسُ التَّعامل بين الحاكم والمحكوم:
قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: الصدقُ أمانةٌ، والكذب خيانةٌ. أعلن الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ مبدأً أساسيّاً تقوم عليه خطَّته في قيادة الأمَّة وهو: أنَّ الصدقَ بين الحاكم والأمَّة، هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسيُّ الحكيم له الأثرُ الهامُّ في قوَّة الأمَّة، حيث ترسيخ جسور الثِّقة بينها وبين حكمها، إنَّه خلقٌ سياسيٌّ منطلقٌ من دعوة الإسلام إلى الصدق، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التوبة: 119] ومن التَّحذير منه، قول رسول الله (ﷺ): « ثلاثة لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكِّيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملِكٌ كذَّاب، وعائِلٌ مستكبر ».
فهذه الكلمات: (الصِّدق أمانةٌ) اكتست بالمعاني، فكأن لها روحاً تروح بها، وتغدو بين الناس، تلهب الحماس، وتصنع الأمل، (والكذب خيانةٌ) وهكذا يأبى أبو بكرٍ إلا أن يمسَّ المعاني، فيسمِّي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذَّاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمَّة ثمَّ يخدعها، فما أتعس حاكماً يتعاطى الكذب، فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصِّدِّيق بالخيانة، وأنَّه عدو أمَّته الأوَّل، وهل بعد الخيانة من عداوة؟ حقّاً ما زال الصدِّيق يطلُّ على الدُّنيا من موقفه هذا، فيرفع أقواماً، ويسقط اخرين! وتظلُّ صناعة الرِّجال أرقى فنون الحكم إذ هم عدَّة الأمَّة، ورصيدها؛ الذي تدفع به عن نفسها ملمات الأيّام، ولا شكَّ: أن من تأمَّل كلمات أبي بكرٍ تلك أصدقه الخبر بأن الرَّجل كان رائداً في هذا الفنِّ الرفيع، لقد كان يسير على النَّهج النبويِّ الكريم.
إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا المنهج الربَّاني في التَّعامل بين الحاكم والمحكوم، لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات، وتلفيق التُّهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتِّهامات باطلة لمن يعارضون الحكَّام، أو ينتقدونهم، ولا بدَّ من إشراف الأمَّة على التزام الحكَّام بالصِّدق والأمانة من خلال مؤسَّساتها التي تساعدها على تقويم، ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا، فتمنعهم من سرقة إرادتهم، وشرفها، وحرِّيتها، وأموالها .
6ـ إعلان التمسُّك بالجهاد، وإعداد الأمَّة لذلك:
قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: وما ترك قومٌ الجهاد في سبيل الله إلاّ خذلهم الله بالذُّلِّ. لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهاديَّة مباشرةً من نبيِّه، وقائده العظيم (ﷺ)، تلقَّاها تربيةً حيَّةً في ميادين الصِّراع بين الشِّرك والإيمان، والضَّلال والهدى، والشَّرِّ والخير، ولقد ذكرت مواقف الصِّدِّيق في غزوات الرَّسول (ﷺ)، ولقد فهم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ من حديث رسول الله (ﷺ): « إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم » . إن الأمَّة تصاب بالذُّلِّ؛ إذا تركت الجهاد، فلذلك جعل الصدِّيق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته، ولذلك حشد طاقات الأُمَّة من أجل الجهاد، لكي يرفع الظلم عن المظلومين، ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين، ويعيد الحرِّيَّة للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في افاق الأرض يزيل كلَّ عائقٍ ضدَّها .
7ـ إعلان الحرب على الفواحش:
قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمَّهم الله بالبلاء، والصِّدِّيق هنا يذكِّر الأمَّة بقول النبيِّ (ﷺ): « لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطَّاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ... » إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلُّله، وضعفه حيث لا قداسة لشيءٍ، فالمجتمع الفاحش لا يغار، ويقرُّ الدَّنيَّة، ويرضاها، إنَّه مجتمع الضَّعف، والعار، والأوجاع، والأسقام، وحال الناس أدلُّ شاهدٍ . لقد وقف أبو بكرٍ يحفظ قيم الأمة، وأخلاقها، فقد حرص في سياسته على طُهر الأمة، ونقائها، وبعدها عن الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، وهو ـ رضي الله عنه ـ يريد بذلك أمَّةً قويَّةً، لا تشغلها شهواتها، ولا يضلُّها شيطانها، لتعيش أمَّةً منتجةً، تعطي الخير، وتقدِّم الفضل لكلِّ الناس .
إنَّ علاقة الأخلاق بقيام الدول، وظهور الحضارة علاقةٌ ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذِّمم؛ ضاعت الأمم، وعمَّها الفساد، والدَّمار، والدَّارس لحياة الأمم السابقة، والحضارات السَّالفة بعين البصيرة يدرك كيف قامت حضاراتٌ على الأخلاق الكريمة، والدِّين الصحيح، كالحضارة التي قامت في زمن داود، وسليمان ـ عليهما السلام ـ والتي قامت في زمن ذي القرنين، وكثيرٍ من الأمم التي التزمت بالقيم، والأخلاق، فظلَّت قويَّةً طالما حافظت عليها، فلمّا دب سوس الفواحش إليها؛ استسلمت للشياطين، وبدَّلت نعمة الله كفراً، وأحلَّت قومها دار البوار، فزالت قوَّتها، وتلاشت حضارتها.
إنَّ الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ استوعب سنن الله في المجتمعات، وبناء الدُّول، وزوالها، وفهم أنَّ زوال الدُّول يكون بالتَّرف، والفساد، والانغماس في الفواحش، والموبقات، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *} [الإسراء: 16]. أي: أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات، وترك المعاصي، فعصوا، وفسقوا فحقَّ عليهم العذاب والتَّدمير جزاء فسقهم، وعصيانهم. وفي قراءة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *}: [الإسراء 16]. أي: أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات، وترك المعاصي، فعصوا، وفسقوا فحقَّ عليهم العذاب والتَّدمير جزاء فسقهم، وعصيانهم. وفي قراءة: {أَمْرِنَا} بالتشديد؛ أي: جعلناهم أمراء . والتَّرف وإن كان كثرة المال، والسلطان من أسبابه إلا أنَّه حالةٌ نفسيَّةٌ ترفض الاستقامة على منهج الله، وليس كلُّ ثراءٍ تَرَفاً.
إنَّ سياسة الصِّدِّيق في حربه للفواحش حريٌّ بحكَّام المسلمين أن يقتدوا به، فالحاكم التَّقيُّ الذَّكيُّ العادل هو الذي يربي أمَّته على الأخلاق القويمة؛ لأنَّه حينئذٍ سيقود شعباً أحسَّ طعم الآدميَّة، وجرى في عروقه دم الإنسانيَّة.. وأمّا إن سُلب الحاكم الذَّكاء، وصار من الأغبياء؛ أشاع الفاحشة في قومه، وعمل على حمايتها بالقوَّة، والقانون، وحارب القيم، والأخلاق الحميدة، ودفع بقومه إلى مستنقعات الرَّذيلة؛ ليصبحوا كالحيوانات الضَّالَّة، والقطعان الهائمة، لا همَّ لها إلا المتاع، والزِّينة الخادعة، فيصبحوا بعد ذلك أقزاماً، قد ودَّعوا الرُّجولة، والشَّهامة، ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *} [النحل: 112] .
هذه بعض التَّعليقات التي فتح الله بها بما ترى على البيان الذي ألقاه الصِّدِّيق للأمَّة، والذي رسم فيه سياسة الدَّولة، فحدَّد مسؤولية الحاكم ومدى العلاقة بينه وبين المحكومين، وغير ذلك من القواعد المهمَّة في بناء الدَّولة، وتربية الشُّعوب، وهكذا قامت الخلافة الإسلاميَّة، وتحدَّد مفهوم الحكم تحديداً عمليّاً، وكان حرص الأمَّة على منصب الخلافة، واختيار الخليفة على هذه الصُّورة، ومسارعة الناس إلى الرِّضا بذلك دليلاً على أنَّهم كانوا يسلِّمون بأنَّ النظام الذي أنشأه النبيُّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ واجب البقاء، وأنَّ النبيَّ (ﷺ) وإن مات؛ فإنَّه خلَّف فيهم ديناً، وكتاباً يسيرون على هديه، فرضاء الناس يومئذٍ يعبر عن إرادة الاستمرار في ظلِّ النِّظام الذي أنشأه النبيُّ (ﷺ) .
إنَّ حكومة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ تمتَّع بها المسلمون زمناً ليس بكثير، وعيَّن أبو بكرٍ حدَّ السلطة العليا فيها، بتلك الخطبة الرَّاقية على مستوى أنظمة الحكم في ذلك العصر وفي هذا الزَّمن، فهي حكومةٌ شوريَّةٌ قل أن يجد طلاب الحريَّة والعدل في كل عصرٍ أحسن لسياسة الأمم منها، قادها التلميذ الأنيب، والأذكى، والأعلم، والأعظم إيماناً للحبيب المصطفى (ﷺ) أبو بكرٍ رضي الله عنه .
وقد بيَّن الإمام مالك بأنَّه لا يكون أحدٌ إماماً أبداً إلا على هذا الشرط؛ يقصد بالمضامين العظيمة التي ألقاها الصِّدِّيق في بيانه السياسيِّ الأوَّل .

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022