سقيفة بني ساعدة: أهم اجتماع سياسي في التاريخ الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثالثة عشر
أولا: الأحاديث التي أشارت إلى خلافة أبي بكرٍ رضي الله عنه:
الأحاديث النبويَّة التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كثيرةٌ شهيرةٌ متواترةٌ ظاهرةُ الدَّلالة، إمّا على وجه التَّصريح، أو الإشارة، ولاشتهارها، وتواترها صارت معلومةً من الدِّين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها، ومن تلك الأحاديث:
(أ) عن جبير بن مطعمٍ، قال: أتت امرأة النبيَّ (ﷺ) فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال (ﷺ): « إن لم تجديني فائتين أبا بكرٍ ».
قال ابن حجر: وفي الحديث: أنَّ مواعيد النَّبيِّ (ﷺ) كانت على من يتولى الخلافة بعده تجيزها، وفيه ردٌّ على الشِّيعة في زعمهم أنَّه نصٌّ على استخلاف عليٍّ، والعبّاس.
(ب) عن حذيفة قال: كنّا عند النبيِّ (ﷺ) جلوساً فقال: « إنِّي لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللَّذَيْن من بعدي ـ وأشار إلى أبي بكرٍ وعمر ـ وتمسَّكوا بعهد عمّار، وما حدَّثكم ابن مسعود فصدِّقوه ».
فقوله (ﷺ): «اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي» أي: بالخليفتين اللَّذَين يقومان من بعدي، وهما أبو بكرٍ، وعمر، وحثَّ على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما، وصدق سريرتهما. وفي الحديث إشارةٌ لأمر الخلافة.
(ج) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله (ﷺ) قال: « بينما أنا نائمٌ أريت أنِّي أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر فأخذ الدَّلو من يدي ليروحني، فنزع الدَّلوين، وفي نزعه ضعفٌ، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم أر نزع رجلٍ قطُّ أقوى منه حتّى تولى الناس، والحوض ملآن يتفجَّر ».
قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقوله: وفي نزعه ضعفٌ: قصر مدَّته، وعجلة موته، وشغله بالحرب لأهل الرِّدَّة عن الافتتاح، والتزيُّد الذي بلغه عمر في طول مدَّته.
(د) قالت عائشة: قال لي رسول الله (ﷺ) في مرضه: «ادعي لي أبا بكرٍ، وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنّى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله، والمؤمنون إلا أبا بكر ».
دلَّ هذا الحديث دلالةً واضحةً على فضل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ حيث أخبر النبيُّ (ﷺ) بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرَّفيق الأعلى، وأنَّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره ـ رضي الله عنه ـ وفي الحديث إشارةٌ: أنه سيحصل نزاعٌ، ووقع كلُّ ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ثم اجتمعوا على أبي بكرٍ رضي الله عنه.
(هـ) عن عبيد الله بن عبد الله، قال: دخلت على عائشة، فقلت لها: ألا تحدِّثيني عن مرض رسول الله (ﷺ)؟ قالت: بلى، ثقُل النبيُّ (ﷺ) فقال: «أصلَّى الناس؟». قلنا: لا، وهم ينتظرونك يراسل الله! . قال: « ضعوا لي ماءً في المِخْضَب ». ففعلنا، فاغتسل، ثمَّ ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثمَّ أفاق، فقال: « أصلَّى الناسُ ؟ » . قلنا: لا، وهم
ينتظرونك يا رسول الله! فقال: «ضعوا لي ماءً في المِخْضَب». ففعلنا. فاغتسل، ثمَّ ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثمَّ أفاق، فقال: «أصلَّى الناس؟». قلنا: لا، وهم ينتظرونك يراسل الله! قالت: والناس عكوفٌ في المسجد ينتظرون رسول الله (ﷺ) لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله (ﷺ) إلى أبي بكرٍ أن يُصلِّي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إنَّ رسول الله (ﷺ) يأمرك أن تصلِّي بالناس، فقال أبو بكرٍ، وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر! صلِّ بالناس. قال: فقال عمر: أنت أحقُّ بذلك، قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام.
ثمَّ إنَّ رسول الله (ﷺ) وجد من نفسه خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس لصلاة الظُّهر، وأبو بكرٍ يصلِّي بالناس، فلمّا راه أبو بكرٍ؛ ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه النبيُّ (ﷺ) ألا يتأخَّر، وقال لهما: «أجلساني إلى جنبه». فأجلساه إلى جنب أبي بكرٍ، وكان أبو بكر يصلِّي وهو قائمٌ بصلاة النبيِّ (ﷺ) والناسُ يصلُّون بصلاة أبي بكرٍ، والنبيُّ (ﷺ) قاعدٌ. قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة من مرض رسول الله (ﷺ)، فقال: هاتِ، فعرضت حديثها عليه، فما أنكر منه شيئاً، غير أنَّه قال: أسمَّت لك الرَّجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو عليٌّ.
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة، منها: فضيلة أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وترجيحه على جميع الصَّحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وتفضيله، وتنبيه على أنَّه أحقُّ بخلافة رسول الله (ﷺ) من غيره، ومنها: أنَّ الإمام إذا عرض له عذرٌ عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم، وأنَّه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ لم يعدل إلى غيره.
(و) قال عبد الله بن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: لما قبض رسول الله (ﷺ) قالت الأنصار: منّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمرُ ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون: أنَّ رسول الله (ﷺ) قد أمر أبا بكرٍ أن يؤمَّ الناس، فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ؟! فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكرٍ.
(ز) روى ابن سعدٍ بإسناده إلى الحسن، قال: قال عليٌّ: لمّا قبض النبيُّ (ﷺ) نظرنا في أمرنا فوجدنا النبيَّ (ﷺ) قد قدَّم أبا بكرٍ في الصَّلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله (ﷺ) لديننا، فقدَّمنا أبا بكرٍ.
وقد علَّق أبو الحسن الأشعريُّ على تقديم رسول الله (ﷺ) لأبي بكرٍ في الصلاة، فقال: وتقديمه له أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين الإسلام. قال: وتقديمه له دليلٌ على أنَّه أعلم الصَّحابة، وأجرؤهم لما ثبت في الخبر المتَّفق على صحَّته بين العلماء: أنَّ رسول الله (ﷺ) قال: «يؤمُّ القوم أجرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً؛ فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً؛ فأكبرهم سنّاً، فإن كانوا في السِّنِّ سواءً فأقدمهم إسلاماً». ـ قال ابن كثير ـ وهذا من كلام الأشعري ـ رحمه الله ـ ممّا ينبغي أن يكتب بماء الذَّهب، ثمَّ قد اجتمعت هذه الصِّفات كُلُّها في الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ، وأرضاه.
هذا ولأهل السُّنَّة قولان في إمامة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: من حيث الإشارة إليه بالنَّصِّ الخفيِّ، أو الجليِّ، فمنهم من قال: إنَّ إمامة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ثابتةٌ بالنَّصِّ الخفيِّ، والإشارة، وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ وجماعةٍ من أهل الحديث، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمة الله عليه ـ، واستدلَّ أصحاب هذا القول بتقديم النبيِّ (ﷺ) له في الصلاة، وبأمره (ﷺ) بسد الأبواب إلا باب أبي بكرٍ . ومنهم من قال: إنَّ خلافة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ثابتةٌ بالنصِّ الجليِّ، وهذا قول طائفةٍ من أهل الحديث، وبه قال أبو محمَّد بن حزم الظَّاهري، واستدلَّ هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: « إن لم تجديني فائتين أبا بكرٍ » . وبقوله لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: « ادعي لي أبا بكرٍ وأخاك حتّى أكتب كتاباً فإنِّي أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكرٍ ». وحديث رؤياه (ﷺ) أنَّه على حوضٍ يسقي الناس، فجاء أبو بكرٍ، فنزع الدَّلو من يده ليروِّحه.
والذي أميل إليه، ويظهر لي من خلال البحث: أنَّ المصطفى (ﷺ) لم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم مِنْ بعده أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وإنَّما دلَّهم عليها لإعلام الله سبحانه وتعالى له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية؛ التي ورد بها القران، والسُّنَّة، وفاق بها غيره من جميع الأمَّة المحمَّدية، رضي الله عنه، وأرضاه.
قال ابن تيميَّة رحمه الله: والتَّحقيق: أنَّ النبي (ﷺ) دلَّ المسلمين على استخلاف أبي بكرٍ، وأرشدهم إليه بأمورٍ متعدِّدَةٍ من أقواله، وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار رضيٍّ بذلك، حامدٍ له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثمَّ علم: أنَّ المسلمين يجتمعون عليه، فترك الكتاب اكتفاءً بذلك.
فلو كان التَّعيين ممّا يشتبه على الأمَّة؛ لبيَّنه رسول الله (ﷺ) بياناً قاطعاً للعذر، ولكن لما دلَّهم دلالاتٍ متعددةً على أنَّ أبا بكرٍ هو المتعيِّن، وفهموا ذلك حصل المقصود، ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضرٍ من المهاجرين، والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.
إلى أن قال: فخلافة أبي بكرٍ الصِّدِّيق دلَّت النُّصوص الصحيحة على صحَّتها، وثبوتها، ورضا الله ورسوله (ﷺ) له بها، وانعقدت بمبايعة المسلمين له، واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله، فصارت ثابتةً بالنصِّ، والإجماع جميعاً، لكنَّ النصَّ دلَّ على رضا الله ورسوله بها، وأنَّها حقٌّ، وأنَّ الله أمر بها، وقدَّرها، وأنَّ المؤمنين يختارونها، وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لأنَّه حينئذٍ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأمّا إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهدٍ ودلَّت النُّصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك؛ كان ذلك دليلاً على أنَّ الصِّدِّيق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به: أنَّه أحقُّهم بالخلافة، فإنَّ ذلك لا يحتاج فيه إلى عهدٍ خاصٍّ.
ثانيا:انعقاد الإجماع على خلافة الصِّدِّيق رضي الله عنه:
أجمع أهل السُّنَّة والجماعة سلفاً، وخلفاً على أنَّ أحقَّ الناس بالخلافة بعد النبيِّ (ﷺ) أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لفضله، وسابقته، ولتقديم النبيِّ (ﷺ) إيّاه في الصلوات على جميع الصَّحابة، وقد فهم أصحاب النبيِّ (ﷺ) مراد المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة، ومتابعته، ولم يتخلَّف منهم أحدٌ، ولم يكن الرَّبُّ ـ جلَّ وعلا ـ ليجمعهم على ضلالةٍ، فبايعوه طائعين، وكانوا لأوامره ممتثلين، ولم يعارض أحدٌ في تقديمه، فعندما سُئل سعيد بن زيد: متى بويع أبو بكر ؟ قال: يوم مات رسول الله (ﷺ)
كرهوا أن يبقوا بعض يومٍ، وليسوا في جماعة، وقد نقل جماعةٌ من أهل العلم المعتبرين إجماع الصَّحابة، ومَنْ جاء بعدهم من أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أولى بالخلافة من كلِّ أحدٍ. وهذه بعض أقوال أهل العلم:
(أ) قال الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ: أجمع المهاجرون، والأنصار على خلافة أبي بكرٍ، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولم يسمَّ أحد بعده خليفةً، وقيل: إنَّه قبض النبيُّ (ﷺ) عن ثلاثين ألف مسلمٍ كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورضوا به من بعده رضي الله عنهم.
(ب) وقال أبو الحسن الأشعريُّ: أثنى الله ـ عزَّ وجل ـ على المهاجرين والأنصار، والسابقين إلى الإسلام، ونطق القران بمدح المهاجرين، والأنصار في مواضع كثيرةٍ، وأثنى على أهل بيعة الرِّضوان، فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم، ومدحهم على إمامة أبي بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وسمَّوه: خليفة رسول الله، وبايعوه، وانقادوا له، وأقرُّوا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامة من العلم، والزُّهد، وقوَّة الرأي، وسياسة الأمَّة، وغير ذلك.
(جـ) وقال عبد الملك الجويني: أمَّا إمامة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فقد ثبتت بإجماع الصحابة، فإنَّهم أطبقوا على بذل الطَّاعة، والانقياد لحكمه . . . وما تخرص به الإمامة من إبداء عليٍّ شراساً، وشماساً في عقد البيعة له كذبٌ صريحٌ، نعم لم يكن رضي الله عنه في السَّقيفة، وكان متخليا بنفسه قد استفزَّه الحزن على رسول الله (ﷺ)، ثمَّ دخل فيما دخل الناس فيه، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد.
(د) وقال أبو بكر الباقلانيُّ في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ: وكان رضي الله عنه مفروض الطَّاعة لإجماع المسلمين على طاعته، وإمامته وانقيادهم له، حتى قال أمير المؤمنين عليٌّ ـ عليه السلام ـ مجيباً لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني، فلست
بخيركم، فقال: لا نقيلك، ولا نستقبلك، قدَّمك رسول الله (ﷺ) لديننا، ألا نرداك لدنيانا ـ يعني بذلك حين قدَّمه للإمامة في الصلاة مع حضوره، واستنابته في إمارة الحجِّ ـ فأمَّرك علينا. وكان رضي الله عنه أفضل الأمَّة، وأرجحهم إيماناً، وأكملهم فهماً، وأوفرهم علماً.
ثالثا: منصب الخلافة والخليفة:
الخلافة الإسلاميَّة هي المنهج الذي اختارته الأمة الإسلاميَّة، وأجمعت عليه طريقةً، وأسلوباً للحكم، تنظِّم من خلاله أمورها، وترعى مصالحها، وقد ارتبطت نشأة الخلافة بحاجة الأمَّة لها، واقتناعها بها، ومن ثمَّ كان إسراع المسلمين في اختيار خليفةٍ لرسول الله (ﷺ) . يقول الإمام أبو الحسن الماوردي: إنَّ الله ـ جلَّت قدرته ـ ندب للأمَّة زعيماً خلف به النبوَّة، وحاط به الملَّة، وفوَّض إليه السياسة؛ ليصدر التَّدبير عن دينٍ مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوعٍ، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرَّت قواعد الملَّة، وانتظمت به مصالح العامَّة حتى استثبتت به الأمور العامَّة، وصدرت عنه الولايات الخاصَّة.
لقد كان على الأمَّة الإسلاميَّة أن تواجه الموقف الصَّعب الذي نشأ عن انتقال الرَّسول (ﷺ) إلى الرَّفيق الأعلى، وأن تحسم أمورها بسرعةٍ، وحكمةٍ، وألا تدع مجالاً لانقسام قد يتسرَّب منه الشَّكُّ إلى نفوس أفرادها، أو للضَّعف أن يتسلَّل إلى أركان البناء الذي شيَّده رسول الله (ﷺ) .
ولما كانت الخلافة هي نظام حكم المسلمين، فقد استمدَّت أصولها من دستور المسلمين، من القران الكريم، ومن سنَّة النبيِّ (ﷺ) ، وقد تحدَّث الفقهاء عن أسس الخلافة الإسلاميَّة، فقالوا بالشُّورى، والبيعة، وهما ـ أصلاً ـ قد أشير إليهما في القران الكريم، ومنصب الخلافة أحياناً يطلق عليه لفظ الإمامة، أو الإمارة، وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة، وأنَّ تعيين الخليفة فرضٌ على المسلمين يرعى شؤون الأمَّة، ويقيم الحدود، ويعمل على نشر الدَّعوة الإسلامية، وعلى حماية الدِّين، والأمَّة بالجهاد، وعلى تطبيق الشريعة
وحماية حقوق الناس، ورفع المظالم، وتوفير الحاجات الضرورية لكل فردٍ. وهذا ثابتٌ بالقران، والسُّنَّة، والإجماع.
وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وقال تعالى: {يادا وود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} [ص: 26].
وقال (ﷺ): « من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجَّة له، ومن مات، وليس في عنقه بيعةٌ، مات ميتةً جاهليَّة » .
وأمّا الإجماع، فالصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لم ينتظروا حتى يتمَّ دفن الرسول (ﷺ)، وتوافدوا للاتفاق على إمامٍ، أو خليفةٍ، وعلَّل أبو بكرٍ قبول هذه الأمانة، وهو خوفه أن تكون فتنةً، أي: من عدم تعيين خليفةٍ للمسلمين. قال الش هرستاني في ذلك: ما دار في قلبه، ولا في قلب أحدٍ: أنَّه يجوز خلو الأرض من إمامٍ، فدلَّ ذلك كلُّه على أنَّ الصَّحابة ـ وهم الصدر الأوَّل ـ كانوا عن بكرة أبيهم متَّفقين على أنَّه لابدَّ من إمامٍ، فذلك الإجماع على هذا الوجه دليلٌ قاطعٌ على وجوب الإمام.
هذا وليس صحيحاً ما يروجه الحاقدون: أنَّ الطمع في الرئاسة سبَّب الانشغال بالخلافة عن دفن النبيِّ (ﷺ) .
هذا وقد عرَّف ابن خلدون الخلافة: هي حمل الكافة على مقتضى النَّظر الشرعيِّ في مصالحهم الأخوية، والدُّنيويَّة الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدُّنيا ترجع كلُّها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافةٌ عن صاحب الشرع في حراسة هذا الدِّين، وسياسة الدُّنيا به.
وقد تحدَّث العلامة أبو الحسن النَّدويُّ عن شروط خلافة النبيِّ، ومتطلَّباتها، وقد أثبت بالأدلَّة، والحجج من خلال سيرة الصِّدِّيق بأنَّ أبا بكرٍ كانت شروط خلافة النبيِّ متحقِّقةً فيه، ونذكر هذه الشروط بإيجاز وبدون ذكر الشواهد التي ذكرها النَّدويُّ، وقد بيَّنتها في هذا الكتاب متناثرةً، فأهمُّ هذه الشروط:
(أ) يمتاز بأنَّه ظلَّ طوال حياته بعد الإسلام متمتِّعاً بثقة رسول الله (ﷺ) به، وشهادته له، واستخلافه إيّاه في القيام ببعض أركان الدِّين الأساسيَّة، وفي مهمات الأمور، والصُّحبة في مناسباتٍ خطرةٍ دقيقةٍ، لا يستصحب فيها الإنسان إلا من يثق به كلَّ الثِّقة، ويعتمد عليه كلَّ الاعتماد.
(ب) يمتاز هذا الفرد بالتَّماسك، والصُّمود في وجه الأعاصير، والعواصف التي تكاد تعصف بجوهر الدِّين، ولبِّه، وتحبط مساعي صاحب رسالته، وتنخلع لها قلوب كثيرٍ ممَّن قوي إيمانهم، وطالت صحبتُهم، ولكن يثبت هذا الفرد في وجهها ثبوت الجبال الراسيات، ويمثِّل دور خلفاء الأنبياء الصَّادقين الرَّاسخين، ويكشف الغطاء عن العيون، وينفض الغبار عن جوهر الدِّين، وعقيدته الصَّحيحة.
(ج) يمتاز هذا الفرد في فهمه الدَّقيق للإسلام، ومعايشته له في حياة النبيِّ (ﷺ) على اختلاف أطواره، وألوانه من سلم، وحربٍ، وخوفٍ، وأمنٍ، ووَحْدَةٍ، واجتماعٍ، وشدَّةٍ، ورخاء.
(د) يمتاز بشدَّة غيرته على أصالة هذا الدِّين، وبقائه على ما كان عليه في عهد نبيِّه، غيرةً أشدَّ من غيرة الرِّجال على الأعراض، والكرامات، والأزواج، والأمهات، والبنين، والبنات، لا يحوله عن ذلك خوفٌ، أو طمعٌ، أو تأويلٌ، أو عدم موافقةٍ من أقرب الناس، وأحبِّهم إليه.
(هـ) يكون دقيقاً كلَّ الدِّقة، وحريصاً أشدَّ الحرص في تنفيذ رغبات الرسول؛ الذي يخلفه في أمَّته بعد وفاته، لا يحيد عن ذلك قيد شعرةٍ، ولا يساوم فيه أحداً، ولا يخاف لومة لائم.
(و) يمتاز بالزُّهد في متاع الدُّنيا، والتمتُّع به، زهداً لا يُتصوَّر فوقه إلا عند إمامه، وهاديه سيِّد الأنبياء ـ عليه الصلاة والسلام ـ وألا يخطر بباله تأسيس الملك والدَّولة، وتوسيعهما لصالح عشيرته، وورثَته، كما اعتادت ذلك الأسر الملوكيَّة الحاكمة في أقرب الدُّول، والحكومات من جزيرة العرب، كالرُّوم والفرس.
وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلُّها في سيدنا أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كما تمثَّلت في حياته، وسيرته في حياة الرسول (ﷺ) قبل الخلافة، وبعد الخلافة إلى أن توفّاه الله تعالى، بحيث لا يسع منكراً أن ينكره، أو مُشكِّكاً يشكِّك في صحَّته، فقد تحقَّق بطريق البداهة، والتَّواتر.
هذا وقد قام أهل الحلِّ، والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصِّدِّيق بيعةً خاصَّةً، ثمَّ رشَّحوه للناس في اليوم الثاني، وبايعته الأمَّة في المسجد البيعة العامَّة.
وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعةً من المبادئ: منها: أنَّ قيادة الأمَّة لا تقام إلا بالاختيار، وأنَّ البيعة هي أصلٌ من أصول الاختيار، وشرعية القيادة، وأنَّ الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً، والأكفأ إدارةً، فاختيار الخليفة يكون وفق مقوماتٍ إسلاميّةٍ، وشخصيَّةٍ، وأخلاقيَّة، وأنَّ الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النَّسبيَّة، أو القبَليَّة، وأنَّ إثارة (قريش) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقعاً يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيءٍ مشابهٍ ما لم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأنَّ الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النَّفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج، ولا مرج، ولا تكذيب، ولا مؤامرات، ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنُّصوص؛ التي تحكمهم حيث المرجعيَّة في الحوار إلى النُّصوص الشرعيَّة.
وقد استدلَّ الدكتور توفيق الشَّاوي على بعض الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعيَّة في عهد الراشدين من حادثة السَّقيفة، حيث قال:
* أوَّل ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أنَّ (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرَّر بالشورى الحرَّة، تطبيقاً لمبدأ الشورى؛ الذي نصَّ عليه القران، ولذلك كان هذا المبدأ محلَّ إجماعٍ، وسند هذا الإجماع النُّصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أنَّ هذا الإجماع كشف، وأَكَّد أوَّل أصلٍ شرعيٍّ لنظام الحكم في الإسلام، وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأٍ دستوريٍّ تقرَّر بالإجماع بعد وفاة رسولنا (ﷺ)، ثمَّ إنَّ هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً، وتطبيقاً لنصوص الكتاب، والسُّنَّة التي أوجبت الشورى.
_خ تقرر يوم السقيفة أيضاً: أنَّ اختيار رئيس الدَّولة، أو الحكومة الإسلاميَّة، وتحديد سلطاته يجب أن يتمَّ بالشورى، أي: بالبيعة الحرَّة التي تمنحه تفويضاً ليتولَّى الولاية بالشروط، والقيود التي يتضمَّنها عقد البيعة الاختيارية الحرَّة ـ الدُّستور في النظم المعاصرة ـ، وكان هذا ثاني المبادئ الدُّستوريَّة التي أقرَّها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
_خ تطبيقاً للمبدأين السابقين، قرَّر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكرٍ، ليكون الخليفة الأوَّل للدَّولة الإسلاميَّة.
ثمَّ إنَّ هذا الترشيح لم يصحَّ نهائيّاً إلا بعد أن تمَّت له البيعة العامَّة، أي: موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول (ﷺ)، ثمَّ قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي ألقاه، وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى .
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي