جيش أسامة وجهاد الصِّدِّيق لأهل الرِّدَّة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة عشر
أولاً: إنفاذ أبي بكر الصِّدِّيق جيش أسامة رضي الله عنهما:
كانت الدَّولة الرومانية إحدى الدَّولتين المجاورتين للجزيرة العربية في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت تحتل أجزاء كبيرةً من شمال الجزيرة، وكان أمراء تلك المناطق يُعيَّنون من قبل الدَّولة الرُّومانيَّة، وينصاعون لأوامرها.
بعث النبيُّ الكريم صلَى الله عليه وسلم الدُّعاة، والبعوث إلى تلك المناطق، وأرسل دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام، ولكنَّه عاند، وأخذته العزَّة بالإثم، وكانت خطَّة الرَّسول صلَى الله عليه وسلم واضحة المعالم لهزِّ هيبة الروم في نفوس العرب، ومن ثمَّ تنطلق جيوش المسلمين لفتح تلك الأراضي، فأرسل صلَى الله عليه وسلم في العام الثامن للهجرة جيشاً، واشتبك مع نصارى العرب والرُّوم في معركة مؤتة، واستشهد قادة الجيش على التَّوالي: زيد بن حارثة، ثمَّ جعفر بن أبي طالب، ثمَّ عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنهم ـ وتولَّى قيادة الجيش بعدهم سيف الله خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ فعاد بالجيش إلى المدينة النبويَّة.
وفي العام التاسع للهجرة خرج رسول الله صلَى الله عليه وسلم بجيش عظيم إلى الشام ووصل إلى تبوك، ولم يشتبك جيش المسلمين بالرُّوم، ولا القبائل العربيَّة، واثر حكَّام المدن الصُّلح على الجزية، وعاد الجيش إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلةً بتبوك، وفي العام الحادي عشر ندب النبيُّ صلَى الله عليه وسلم الناس لغزو الرُّوم بالبلقاء، وفلسطين، وفيهم كبار المهاجرين والأنصار، وأمَّر عليهم أسامة ـ رضي الله عنهم ـ، قال الحافظ ابن حجر: جاء: أنَّه كان تجهيز جيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ يوم السَّبت قبل موت النبيِّ صلَى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبيِّ صلَى الله عليه وسلم ، فندب الناس لغزو الرُّوم في آخر صفر، ودعا أسامةَ ـ رضي الله عنه ـ فقال: « سر إلى موضع مقتل أبيك، فوطئهم الخيل، فقد ولَّيتك هذا الجيش »وطعن بعض الناس في إمارة أسامة ـ رضي الله عنه ـ فردَّ عليهم رسول الله صلَى الله عليه وسلم فقال: « إن تطعنوا في إمارته؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبلُ، وايم الله، إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحبِّ الناسِ إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحبِّ الناس إليَّ بعده ».
ومرض النبيُّ صلَى الله عليه وسلم بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين، واشتدَّ وجعه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلم يخرج هذا الجيش وظلَّ معسكراً بالجُرْفورجع إلى المدينة بعد وفاة النبيِّ الكريم صلَى الله عليه وسلم ، وتغيَّرت الأحوال مع انتقال الرَّسول الكريم صلَى الله عليه وسلم إلى رحمة ربه، وصارت كما تصف أمُّ المؤمنين عائشة الصِّديقة ـ رضي الله عنها ـ بقولها: لمّا قبض رسول الله صلَى الله عليه وسلم ارتدَّت العرب قاطبةً، واشرأبَّالنِّفاق . والله! قد نزل بي ما لو نزل بالجبال الرَّاسيات لهادها، وصار أصحاب محمَّد صلَى الله عليه وسلم كأنَّهم مِعْزَى في حشٍّ في ليلةٍ مطيرةٍ بأرض مسبعةٍ.
ولما تولَّى الخلافة الصِّدِّيق أمر ـ رضي الله عنه ـ رجلاً في اليوم الثالث من مُتَوَفَّى رسول الله صلَى الله عليه وسلم أن ينادي في النَّـاس: ليُتِمَّ بعث أسامة ـ رضي الله عنه ـ ألا لا يبقين بالمدينة أحدٌ من جند أسامة (رضي الله عنـه) إلا خرج إلى عسكره بالجُـرْف،
ثمَّ قام في النـاس فحمد الله، وأثنى عليه، وقـال: يا أيُّها الناس! إنَّما أنا مثلكم، وإنِّي لا أدري لعلَّكم تكلفونني ما كان رسول الله صلَى الله عليه وسلم يطيق، إنَّ الله اصطفى محمَّداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنَّما أنا متَّبعٌ، ولست بمبتدعٍ، فإن استقمت، فتابعوني، وإن زغت، فقوِّموني، وإن رسول الله صلَى الله عليه وسلم قُبض، وليس أحدٌ من هذه الأمَّـة يطلبه بمظلمةٍ ـ ضربة سوطٍ فما دونها ـ وإنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم، وأبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غيِّب عنكم علمُه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عملٍ صالحٍ، فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل اجالكم من قبل أن تسلمكم اجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإنَّ قوماً نسوا اجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإيّاكم أن تكونوا أمثالهم، الجدَّ الجدَّ! والوحا الوحا! والنَّجاءَ النَّجاءَ! فإن وراءكم طالباً حثيثاً مَرُّه سريعٌ، احذروا الموت، واعتبروا بالآباء، والأبناء، والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.
وقام أيضاً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: إنَّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنَّما أخلصتم لحين فقركم، وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكَّروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس، وأين هم اليوم؟ أين الجبّارون الذين كان لهم ذكر القتال، والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدَّهر، وصاروا رميماً، قد توالت عليهم العالات، الخبيثات للخبثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض، وعمروها؟ قد بعدوا، ونُسي ذكرهم، وصاروا كَلاَ شيءٍ، إلا أنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد أبقى عليهم التَّبعات، وقطع عنهم الشَّهوات، ومضوا، والأعمال أعمالهم، والدُّنيا دنيا غيرهم، وبُعثنا خَلقاً بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم، نجونا، وإن انحدرنا، كنّا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا تراباً، وصار ما فرَّطوا فيه حسرةً عليهم. أين الذين بنوا المدائن، وحصَّنوها بالحائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا *} [مريم: 98]. أين من تعرفون من ابائكم، وإخوانكم؟ قد انتهت بهم اجالهم، فوردوا على ما قدموا، فحلُّوا عليه، وأقاموا للشقاوة، أو السعادة بعد الموت، ألا إنَّ الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سببٌ يعطيه به خيراً، ولا يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته، واتِّباع أمره. واعلموا أنكم عبيدٌ مدينون، وأنَّ ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما ان لأحدكم أن تحسر عنه النار، ولا تبعد عنه الجنَّة؟!
وفي هذه الخطبة دروسٌ وعبرٌ منها:
(أ) بيان طبيعة خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وأنَّه ليس خليفة عن الله، بل عن رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وأنَّه بشرٌ غير معصومٍ، لا يطيق مقام رسول الله صلَى الله عليه وسلم بنبوَّته، ورسالته، ولذلك فهو في سياسته متَّبعٌ، ليس بمبتدعٍ، أي: أنَّه على نهج النبيِّ صلَى الله عليه وسلم في الحكم بالعدل، والإحسان.
(ب) بيان واجب الأمَّة في مراقبة الحاكم، لتعينه في إحسانه، وصلاحه، وتقوِّمه، وتنصحه في غير ذلك؛ ليظلَّ على الطريق متَّبعاً، غير مبتدع.
(جـ) بيان أنَّ النبيَّ صلَى الله عليه وسلم عدل بين الأمَّة، فلم يظلم أحداً، ولذلك ليس لأحدٍ عند النبيِّ صلَى الله عليه وسلم مظلمةٌ صغيرةٌ، أو كبيرةٌ، ومعنى هذا: أنَّه سوف يسير على نفس النَّهج، ينشر العدل، ويبتعد عن الظُّلم، ومن ثمَّ على الأمَّة أن تعينه على ذلك، وإذا راه أحدٌ غاضباً فعليه أن يجتنبه حتى لا يؤذي أحداً، فيخالف ما راه في سياسة الاتِّباع للنبيِّ صلَى الله عليه وسلم ، والشَّيطان الذي يعتري الصِّدِّيق يعتري جميع بني ادم، فإنَّه ما من أحدٍ إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجنِّ.
والشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدَّم، فقد قال رسول الله صلَى الله عليه وسلم : « ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينه من الجنِّ، وقرينه من الملائكة » . قالوا: وإيّاك يراسل الله ؟قال: « وإيّايَ إلا أنَّ الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير ».
وقد جاء في الحديث أيضاً: لمّا مرَّ به بعض الأنصار، وهو يتحدَّث مع صفيَّة ليلاً، فقال صلَى الله عليه وسلم : « على رسلكما إنها صفيَّة بنت حيي » فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: « إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدَّم، وإنِّي خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما سوءاً ». ومقصود الصِّدِّيق بذلك: إنِّي لست معصوماً كالرَّسول صلَى الله عليه وسلم . وهذا حقٌّ.
(د) حرص الصِّدِّيق على وعظ المسلمين، وتذكيرهم بالموت، وحال الملوك الذين مضوا، وحثِّهم على العمل الصَّالح، ليستعدُّوا للقاء الله عزَّ وجلَّ، ويستقيموا في حياتهم على منهج الله تعالى، وهنا نلحظ توظيف الصِّدِّيق لقوَّة البيان في خطبه، وفي حديثه للأمَّة، وقد كان ـ رضي الله عنه ـ أفصح خطباء النبيِّ صلَى الله عليه وسلم ؛ يقول عنه الأستاذ العقاد: أمّا كلامه فهو من أرجح ما قيل في موازين الخُلق، والحكمة، وله من مواقع الكلم أمثلةٌ نادرةٌ تدلُّ الواحدة منها على ملكة صاحبها، فيغني القليل منها عن الكثير، كما تغني السُّنبلة الواحدة عن الجرين الحافل، فحسبُك أن تعلم معدن القول من نفسه، وفكره حين تسمع كلمةً، كقوله: (احرص على الموت، تُوهَبْ لك الحياة) أو قوله: أصدق الصِّدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة . الصَّبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كلُّه. فهي كلماتٌ تتَّسم بالقصد، والسَّداد، كما تتَّسم بالبلاغة، وحسن التَّعبير، وتنبي عن المعدن الذي نجمت منه، فتغني عن علامات التثقيف؛ التي يستكثر منها المستأثرون؛ لأنَّ هذا الفهم الأصيل هو اللُّباب المقصود من التثقيف، وكانت له صلَى الله عليه وسلم لباقةٌ في الخطاب إلى جانب البلاغة في الكلام.
ثانياً: ما تمَّ بين الصِّدِّيق والصَّحابة في أمر إنفاذ الجيش:
اقترح بعض الصَّحابة على الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بأن يبقي الجيش، فقالوا: إنَّ هؤلاء جلُّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرِّق عنك جماعة المسلمين. وأرسل أسامة من معسكره من الجُرْف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إنَّ معي وجوه المسلمين، وجلَّتهم، ولا امن على خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وحرم رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، والمسلمين أن يختطفهم المشركون.
ولكنَّ أبا بكرٍ خالف ذلك، وأصرَّ على أن تستمرَّ الحملة العسكرية في تحرُّكها إلى الشام مهما كانت الظروف، والأحوال، والنتائج، ولم يسترح أسامة، وهيئة أركان حربه لإصرار الخليفة على رأيه، وقد بذلوا لدى الخليفة عدَّة محاولات؛ كي يقنعوه بصواب فكرتهم، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكرٍ دعا عامَّة المهاجرين، والأنصار إلى اجتماع في المجلس لمناقشة هذا الأمر معهم، وفي هذا الاجتماع دار نقاشٌ طويلٌ متشعِّبٌ، وكان أشدَّ المعارضين لاستمرار حملة الشام عمر بن الخطاب، مبدئا تخوُّفه الشديد على الخليفة، وحرم رسول الله، وكلِّ المدينة، وأهلها من أن تقع في قبضة الأعراب المرتدِّين المشركين، وعندما أكثر وجوه الصَّحابة بهذا الصَّدد على الخليفة، وخوَّفوه ممّا ستتعرض له المدينة من أخطارٍ جسامٍ إن هو أصرَّ على تحريك جيش أسامة لغزو الروم، أمر بفضِّ الاجتماع الأوَّل بعد أن سمع الصِّدِّيق لرأيهم، واستوضح منهم إن كان لأحدهم ما يقول، وذلك حتّى يعطي إخوانه، وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم.
ثمَّ دعاهم إلى اجتماع عامٍّ اخر في المسجد، وفي هذا الاجتماع طلب من الصَّحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروعٍ وضعَه رسولُ الله صلَى الله عليه وسلم بنفسه، وأبلغهم أنَّه سينفذ هذا المشروع، حتى لو تسبَّب تنفيذه في احتلال المدينة من قبل الأعراب المرتدِّين، فقد وقف خطيباً، وخاطب الصحابة قائلاً: والذي نفسُ أبي بكرٍ بيده! لو ظننتُ أنَّ السِّباع تخطفني، لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، ولو لم يبقَ في القرى غيري، لأنفذته.
نعم لقد كان أبو بكرٍ مصيباً فيما عزم عليه من بعث أسامة مخالفاً بذلك رأي جميع المسلمين؛ لأنَّ في ذلك أمراً من رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وقد أثبتت الأيّام، والأحداث سلامة رأيه وصواب قراره؛ الذي اعتزم تنفيذه.
وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سنّاً من أسامة يتولَّى أمر الجيش، وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدِّث الصِّدِّيق في ذلك، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: فإنَّ الأنصار تطلب رجلاً أقدم سنّاً من أسامة ـ رضي الله عنه ـ فوثب أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وكان جالساً فأخذ بلحية عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال له: ثقلتك أمُّك، وعدمتك يأبن الخطاب! استعمله رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وتأمرني أن أنزعه! فخرج عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى الناس، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثقلتكم أمَّهاتُكم! ما لقيتُ في سببكم من خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم .
ثمَّ خرج أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ حتّى أتاهم، فأشخصهم، وشيَّعهم وهو ماشٍ وأسامة راكب. وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهم ـ فقال له أسامة ـ رضي الله عنه ـ: يا خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم : والله لتركبَنَّ، أو لأنزلنَّ! فقال: والله لا تنزل، وواله لا أركب! وما عليَّ أن أغبِّرَ قدميَّ في سبيل الله ساعةً.
ثمَّ قال الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لأسامة ـ رضي الله عنه ـ: إن رأيت أنْ تعينني بعمر، فافعل. فأذن له. ثمَّ توجه الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ إلى الجيش، فقال: يا أيها الناس! قفوا أوصيكم بعشرٍ فأحفظوها عنِّي:
لا تخونوا، ولا تُغِلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأةً، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرِّقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تذبحوا شاةً، ولا بقرةً، ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، وسوف تمرُّون بأقوامٍ قد فرَّغوا أنفسهم في الصَّوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قومٍ يأتونكم بانية فيها ألوان الطَّعام فإذا أكلتم منه شيئاً بعد شيءٍ فاذكروا اسم الله عليها . وتلقون أقواماً قد فحصواأوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فأخفقوهم بالسيف خفقاً . اندفعوا باسم الله.
وأوصى الصِّدِّيق أسامة ـ رضي الله عنهما ـ أن يفعل ما أمر به النَّبيُّ الكريم صلَى الله عليه وسلم قائلاً: اصنع ما أمرك به نبيُّ الله صلَى الله عليه وسلم ، ابدأ ببلاد قضاعة، ثمَّ ائتِ ابلولا تقصرنَّ في شيء من أمر رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، ولا تعجلنَّ لما خلَّفت عن عهده. ومضى أسامة ـ رضي الله عنه ـ بجيشه، وانتهى إلى ما أمر به النبيُّ صلَى الله عليه وسلم من بثِّ الخيول في قبائل قضاعة، والغارة على ابل، فسَلِم وغنم، وكان مسيره ذاهباً، وقافلاً أربعين يوماً.
وقدم بنعي رسول الله على هِرَقل، وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبرٌ واحدٌ فقالت الرُّوم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم، ثمَّ أغاروا على أرضنا؟ وقال العرب: لو لم يكن لهم قوَّةٌ، لما أرسلوا هذا الجيش. فكفُّوا عن كثيرٍ ممّا كانوا يريدون أن يفعلوه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي