الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

موقف عليٍّ، والزُّبير رضي الله عنهما من خلافة الصِّدِّيق:

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة : السابعة عشر

 

ـ وردت أخبارٌ كثيرةٌ في شأن تأخُّر عليٍّ عن مبايعة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنهما ـ وكذا تأخَّر الزُّبير بن العوَّام، وجُلُّ هذه الأخبار ليس بصحيح إلا ما رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: إنَّ عليّاً، والزُّبير، ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله (ص(، فقد كان انشغال جماعةٍ من المهاجرين، وعلى رأسهم عليُّ بن أبي طالبٍ بأمر جهاز رسول الله (ﷺ) من تغسيلٍ، وتكفينٍ، ويبدو ذلك واضحاً فيما رواه الصحابيُّ سالم بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ من أنَّ أبا بكرٍ قال لأهل بيت النَّبي، وعلى رأسهم عليٌّ: عندكم صاحبكم، فأمرهم يغسلونه.

وقد بايع الزُّبير بن العوَّام، وعليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنهما ـ أبا بكرٍ في اليوم التالي لوفاة الرَّسول صلَى الله عليه وسلم ، وهو يوم الثلاثاء، قال أبو سعيد الخدريُّ: لمّا صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزُّبير بن العوَّام، فدعا بالزُّبير، فجاء، فقال له أبو بكرٍ: يأبن عمَّة رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وحواريَّه، أتريد أن تشقَّ عصا المسلمين؟! فقال الزُّبير: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله! فقام الزُّبير، فبايع أبا بكر. ثم نظر أبو بكرٍ في وجوه القوم، فلم ير عليَّ بن أبي طالبٍ، فدعا بعليٍّ، فجاء، فقال له أبو بكرٍ: يأبن عمِّ رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وختنه على ابنته، أتريد أن تشقَّ عصا المسلمين؟!

فقال عليٌّ: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم ! فقام عليٌّ، فبايع أبا بكرٍ.

وممَّا يدلُّ على أهمِّيَّة حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ الصَّحيح: أن الإمام (مسلم ابن الحجا) صاحب « الجامع الصحيح » ـ الذي هو أصحُّ الكتب الحديثيَّة بعد « صحيح البخاريِّ » ـ ذهب إلى شيخه الحافظ محمَّد بن إسحاق بن خزيمة ـ صاحب صحيح ابن خزيمة ـ فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوي بدنةً، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بَدَنَةً فقط، إنَّه يساوي بدرة مالٍ .

وعلَّق على هذا الحديث ابن كثير ـ رحمه الله ـ فقال: هذا إسنادٌ صحيحٌ محفوظٌ، وفيه فائدةٌ جليلةٌ، وهي مبايعة علي بن أبي طالبٍ إمّا في أوَّل يومٍ، أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حقٌّ، فإنَّ علي بن أبي طالبٍ لم يفارق الصِّدِّيق في وقتٍ من الأوقات، ولم ينقطع في صلاةٍ من الصلوات خلفه. وفي رواية حبيب ابن أبي ثابتٍ، حيث قال: كان عليُّ بن أبي طالبٍ في بيته، فأتاه رجلٌ، فقال له: قد جلس أبو بكرٍ للبيعة، فخرج عليٌّ إلى المسجد في قميصٍ له، ما عليه إزارٌ، ولا رداءٌ، وهو متعجِّل، كراهة أن يبطأ عن البيعة. فبايع أبا بكرٍ، ثمَّ جلس، وبعث في ردائه، فجاءوه به، فلبسه فوق قميصه.

وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ فقال له: أشهِدْتَ وفاة رسول الله صلَى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال له: متى بويع أبو بكرٍ؟ قال سعيدٌ: يوم مات رسول الله صلَى الله عليه وسلم  كره المسلمون أن يبقوا بعض يومٍ، وليسوا في جماعةٍ. قال: هل خالف أحدٌ أبا بكرٍ؟ قال سعيد: لا. لم يخالفه إلا مرتدٌّ، أو كاد أن يرتدَّ، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه، وبايعوه.

قال: هل قعد أحدٌ من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا. لقد تتابع المهاجرون على بيعته.

وأمّا عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ فلم يفارق الصِّدِّيق في وقتٍ من الأوقات، ولم ينقطع عنه في جماعةٍ من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين.

ويرى ابن كثيرٍ، وكثيرٌ من أهل العلم: أنَّ عليّاً جدَّد بيعته بعد ستَّة أشهرٍ من البيعة الأولى، أي بعد وفاة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ وجاءت في هذه البيعة رواياتٌ صحيحةٌ.

وكان عليٌّ في خلافة أبي بكرٍ عيبة نصحٍ له، مرجِّحاً لما فيه مصلحةٌ للإسلام، والمسلمين على أيِّ شيءٍ اخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكرٍ، ونصحه للإسلام، والمسلمين، وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة، واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجُّه أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بنفسه إلى ذي القصَّة، وعزمه على محاربة المرتدِّين، وقيادته للتحرُّكات العسكرية ضدَّهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرةٍ وخطرٍ على الوجود الإسلاميِّ، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: لمّا برز أبو بكرٍ إلى ذي القصَّة، واستوى على راحلته؛ أخذ عليُّ بن أبي طالبٍ بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم  ؟! أقول لك ما قال رسول الله صلَى الله عليه وسلم  يوم أحدٍ: لمَّ سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظامٌ أبداً! فرجع.

فلو كان عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ أعاده الله من ذلك ـ لم ينشرح صدره لأبي بكرٍ، وقد بايعه علي رغماً من نفسه، فقد كانت هذه فرصةً ذهبيَّةً ينتهزها عليٌّ، فيترك أبا بكرٍ وشأنه، لعلَّه يحدث به حدثٌ، فيستريح منه، ويصفو الجوُّ له، وإذا كان فوق ذلك ـ حاشاه عنه ـ من كراهته له، وحرصه على التخلُّص منه، أغرى به أحداً يغتاله، كما يفعله الرِّجال السياسيون بمنافسيهم، وأعدائهم.

« إنَّا معشر الأنبياء لا نُورَثُ، ما تركنا صدقة »:

قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ فاطمة، والعبّاس ـ رضي الله عنهما ـ: أتيا أبا بكرٍ يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلَى الله عليه وسلم  وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكرٍ: سمعت رسول الله صلَى الله عليه وسلم  يقول: « لا نورث، ما تركنا صدقةٌ، إنَّما يأكل ال محمَّدٍ من هذا المال ». وفي روايةٍ: قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: ... لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلَى الله عليه وسلم  يعمل به إلا عملتُ به، فإنِّي أخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ.

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: إنَّ أزواج النبيِّ صلَى الله عليه وسلم ، حين توفِّيَ رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، أردن أن يبعثن عثمان بن عفّان ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي بكرٍ، يسألنه ميراثهنَّ، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلَى الله عليه وسلم : « لا نورث ما تركنا صدقةٌ ». وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلَى الله عليه وسلم : « لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقةٌ ».

وهذا ما فعله أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ مع فاطمة ـ رضي الله عنها ـ امتثالاً لقوله صلَى الله عليه وسلم ، لذلك قال الصِّدِّيق: لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملتُ به، وقال: والله لا أدع أمراً رأيتُ رسول الله صلَى الله عليه وسلم  يصنعه فيه إلا صنعته.

وقد تركت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليلٌ على قبولها الحقَّ وإذعانها لقوله صلَى الله عليه وسلم ، قال ابن قتيبة: وأمّا منازعة فاطمة أبا بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ في ميراث النبيِّ صلَى الله عليه وسلم  فليس بمنكرٍ؛ لأنَّها لم تعلم ما قاله رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وظنَّت أنَّها ترثه، كما يرث الأولاد اباءهم، فلمّا أخبرها بقوله، كفَّت.

وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكرٍ بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضيَّةٍ، وأنَّها لمّا بلغها الحديث وبيَّن لها التأويل؛ تركت رأيها، ثمَّ لم يكن منها، ولا من ذرِّيتها بعد ذلك طلب ميراثٍ، ثمَّ ولّي عليٌّ الخلافة فلم يعدل بها عمّا فعله أبو بكرٍ، وعمر رضي الله عنهم.

وقال حمّاد بن إسحاق، والذي جاءت به الرِّوايات الصَّحيحة فيما طلبه العبّاس، وفاطمة، وعليٌّ لها، وأزواج النبيِّ صلَى الله عليه وسلم  من أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ إنَّما هو الميراث، حتّى أخبرهم أبو بكرٍ، والأكابر من أصحاب رسول الله صلَى الله عليه وسلم : أنَّه قال: «لا نورث ما تركنا صدقةٌ». فقبلوا بذلك، وعلموا: أنَّه الحقُّ، ولو لم يقل رسول الله صلَى الله عليه وسلم  ذلك كان لأبي بكرٍ، وعمر فيه الحظُّ الوافر بميراث عائشة، وحفصة ـ رضي الله عنهما ـ فاثروا أمر الله، وأمر رسوله، ومنعوا عائشة، وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول الله يورث، لكان لأبي بكرٍ وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمَّدٍ صلَى الله عليه وسلم  .

وأمّا ما ذكره من الرُّواة في كون فاطمة ـ رضي الله عنها ـ غضبت، وهجرت الصِّدِّيق حتى ماتت، فبعيد جدّاً لعدَّة أدلةٍ منها:

أـ ما رواه البيهقيُّ من طريق الشعبيِّ: أنَّ أبا بكرٍ عاد فاطمة، فقال لها عليٌّ: هذا أبو بكرٍ يستأذن عليك، فقالت: تحبُّ أن آذن له ؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترداها؛ حتّى رضيت. وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة رضي الله عنها لهجر أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي، وما فعل إلا امتثالاً، واتباعاً لأمر رسول الله صلَى الله عليه وسلم  .

ب ـ لقد انشغلت عن كلِّ شيءٍ بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبةٌ تزري بكلِّ المصائب، كما أنَّها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركةٍ في أيِّ شأنٍ من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول ـ في كلِّ لحظةٍ من لحظاته ـ بشؤون الأمَّة، وحروب الردَّة، وغيرها، كما أنَّها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله صلَى الله عليه وسلم  بأنَّها أوَّل من يلحق به من أهله، ومن كان في مثل علمها، لا يخطر بباله أمور الدُّنيا، وما أحسن قول المهلَّب؛ الذي نقله العيني: ولم يروِ أحدٌ، أنَّهما التقيا وامتنعا عن التسليم، وإنَّما لازمت بيتها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران.

هذا ومن الثَّابت تاريخياً، أنَّ أبا بكرٍ دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقَّهم في فيء رسول الله صلَى الله عليه وسلم  في المدينة، ومن أموال فدك، وخمس خيبر، إلا أنَّه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله صلَى الله عليه وسلم ، وقد روي عن محمَّد بن عليٍّ بن الحسين المشهور بمحمَّد الباقر، وعن زيد بن عليٍّ أنَّهما قالا: إنَّه لم يكن من أبي بكرٍ ـ فيما يختص بإبائهم ـ شيءٌ من الجور، أو الشَّطط، أو ما يشكونه من الحيف، أو الظُّلم.

ولمّا توفِّيت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بعد رسول الله صلَى الله عليه وسلم  بستَّة أشهرٍ على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها: أنَّها أوَّل أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: « أما ترضين أن تكوني سيِّدة نساء أهل الجنَّة » . وذلك ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالكٍ عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جدِّه عليِّ بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبو بكر، وعمر، وعثمان، والزُّبير، وعبد الرحمن بن عوف، فلمّا وُضِعت ليُصلَّى عليها، قال عليٌّ: تقدَّم يا أبا بكرٍ! قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن ؟! قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلِّي عليها غيرك، فصلَّى عليها أبو بكرٍ، ودفنت ليلاً، وجاء في روايةٍ: صلَّى أبو بكرٍ الصِّدِّيق على فاطمة بنت رسول الله صلَى الله عليه وسلم  فكبَّر عليها أربعاً. وفي روايةِ مسلمٍ: صلَّى عليها عليُّ بن أبي طالب.

هذا وقد كانت صلة سيِّدنا أبي بكرٍ الصِّدِّيق خليفة رسول الله صلَى الله عليه وسلم  بأعضاء أهل البيت صلةً ودِّيَّةً تقديريَّةً تليق به، وبهم، وقد كانت هذه المودَّة والثِّقة متبادلتين بين أبي بكرٍ، وعليٍّ، فقد سمَّى عليٌّ أحد أولاده بأبي بكرٍ، وقد احتضن عليٌّ ابن أبي بكر محمَّداً بعد وفاة الصِّدِّيق، وكفله بالرِّعاية، ورشَّحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله.

هذه بعض القضايا الدَّاخلية؛ التي عالجها الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ والتزم فيها بمتابعة الرَّسول صلَى الله عليه وسلم  بكلِّ دقَّةٍ، وحرصٍ، فرضي الله عنه، وعن جميع الصَّحابة الكرام الطَّيِّبين الأبرار.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي،


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022