فتح العراق زمن الصديق... المقدمات والخطط
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السادسة و الثلاثون
ما إِن انتهت حروب الردَّة، واستقرَّت الأمور في الجزيرة العربيَّة الَّتي كانت ميداناً لها، حتَّى شرع الصِّدِّيق في تنفيذ خطَّة الفتوحات الَّتي وضع معالمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجيَّش الصِّدِّيق لفتح العراق جيشين:
1ـ الأوَّل بقيادة خالد بن الوليد، وكان يومئذٍ باليمامة، فكتب إِليه يأمره بأن يغزو العراق من جنوبه الغربيِّ، وقال له: سر إِلى العراق حتَّى تدخلها، وابدأ(بفرج الهند) أي ثغرها، وهي الأبلَّة، وأكره بأن يأتي العراق من أعاليهم، وأن يتألَّف النَّاس، ويدعوهم إِلى الله عزَّ وجل، فإِن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإِن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره ألا يُكره أحداً على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتدَّ عن الإِسلام وإِن كان عاد إِليه، وأمرَه أن يستصحب كلَّ أمرئ مرَّ به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السَّرايا، والبعوث، والجيوش إِمداداً لخالدٍ رضي الله عنه.
2ـ الجيش الثاني بقيادة عياض بن غنم، وكان بين النِّباج والحجاز، فكتب إِليه بأن يغزو العراق من شماله الشَّرقي بادئاً بالمسيخ وقال له: سر حتَّى المسيخ وابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها حتى تلقى خالداً . ثمَّ أردف أمره هذا بقوله: وأئن لمن شاء بالرُّجوع، ولا تستفتحان بمتكاره. أي: لا تجبرا أحداً على السَّير معكما إِكراهاً فمن شاء فليقدم، ومن شاء فليحجم.
وكتب الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ إِلى خالدٍ، وعياض: ثمَّ يستبقان إِلى الحيرة، فأجهما سبق إِلى الحيرة؛ فهو أميرٌ على صاحبه، وقال: إِذا اجتمعتما إِلى الحيرة، وقد فضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءاً للمسلمين، ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدوِّ الله وعدوِّكم من أهل فارس دارَهم، ومستقرَّ عزِّهم؛ المدائن.
ـ وكان المثنَّى بن حارثة قد قدم على أبي بكرٍ، وحثَّ الصِّدِّيق على محاربة الفرس، وقال له: ابعثني على قومي، ففعل ذلك أبو بكر، فرجع المثنَّى، وشرع في الجهاد بالعراق، ثمَّ إِنَّه بعث أخاه مسعود بن حارثة إِلى أبي بكرٍ يستمدُّه، فكتب معه أبو بكر إِلى المثنَّى: أمَّا بعد: فإِنِّي قد بعثت إِليك خالد بن الوليد إِلى أرض العراق، فاستقبله بمن معك من قومك، ثمَّ ساعده، ووازرة، وكاتفه، ولا تعصينَّ له أمراً، ولا تخالفنَّ له رأياً، فإِنه من الذين وصف الله ـ تبارك، وتعالى ـ في كتابه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] . فما أقام معك فهو الأمير، فإِن شخص عنك فأنت على ما كنت عليه.
وكان من قوم المثنَّى رجلٌ يدعى: مذعور بن عديٍّ، خرج عن المثنَّى بن حارثة، وراسل الصِّدِّيق، وقال له: أمَّا بعد: فإِنِّي امرؤ من بني عجل، أحلاس الخيل ـ أي: يلزمون ظهورها ـ وفرسان الصَّباح ـ أي: يغيرون صباحاً ـ ومعي رجالٌ من عشيرتي الرَّجل خيرٌ من مئة رجلٍ، ولي علمٌ بالبلد، وجراءٌ على الحرب وبصرٌ بالأرض، فولين أمر السَّواد أفككه إِن شاء الله.
وكتب المثنى بن حارثة رضي الله عنه بشأن مذعور بن عديٍّ إِلى الصِّدِّيق، فقال له: . . . فإِنِّي أخبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ امرأً من قومي يقال له: مذعور بن عديٍّ أحد بني عجل في عددٍ يسير، وإِنَّه أقبل ينازعني، ويخالفني، فأحببت إِعلامك ذلك لترى رأيك فيما هنالك، وردَّ الصِّدِّيق على مذعور بن عديٍّ، فقال له: أمَّا بعد: فقد أتاني كتابك، وفهمت ما ذكرت، وأنت كما وصفت نفسك وعشيرتك نعم العشيرة، وقد رأيت لك أن تنضمَّ إِلى خالد بن الوليد، فتكون معه وتقيم معه ما أقام بالعراق، وتشخص معه إِذا شخص.
وكتب إِلى المثنَّى بن حارثة: فإِنَّ صاحبك العجليَّ كتب إِليَّ يسألني أموراً، فكتبت إِليه امره بلزوم خالد حتَّى أرى رأيي، وهذا كتابي إِليك امرك ألا تبرح العراق حتَّى يخرج منه خالد بن الوليد، فإِذا خرج منه خالد بن الوليد فالزم مكانك؛ الذي كنت به، وأنت أهلٌ لكلِّ زيادةٍ، وجديرٌ بكلِّ فضلٍ. وممَّا سبق يمكننا أن نستخلص بعض الدروس والعبر والفوائد، فمنها:
1ـ الحسُّ الاستراتيجيُّ عند الصِّدِّيق:
إِنَّ الأوامر الَّتي وجَّهها الصِّدِّيق إِلى قائديه خالدٍ، وعياضٍ تشير إِلى الحسِّ الاستراتيجيِّ المتقدِّم؛ الذي كان يملكه الصِّديق ـ رضي الله عنه ـ فقد أعطى جملة تعليماتٍ عسكريةٍ استراتيجيَّةٍ، وتكتيكيَّةٍ، فحدَّد لكلٍّ من القائدين المسلمين جغرافياً منطلقة للدُّخول إِلى العراق، كأنَّما هو يمارس القيادة من غرفة العمليَّات بالحجاز، وقد بسطت أمامه خارطة العراق بكلِّ تضاريسها، ومسالكها، فيأمر أحدهما(خالداً) بدخول العراق من أسفلها جنوباً بغرب(أي: الأبلَّة)، ويأمر الثاني(عيادا) بدخول العراق من أعلاها شمالاً بشرق(أي: المسيخ)، ويأمر الاثنين معاً أن يلتقيا في وسط العراق . ولا ينسى الخليفة مع ذلك أن يأمرهما بأن لا يُكرها النَّاس على الانخراط في جيشهما، وأن لا يجبرا أحداً على البقاء معهما للقتال، فلم يكن التَّجنيد في نظره إِلزاميّاً، إِنَّما كان طوعيّاً، واختياريّاً.
2ـ تحديد الحيرة كموقعٍ استراتيجي:
كان هدف الخليفة الصِّدِّيق السَّيطرة على الحيرة، وذلك لأهمِّيتها العسكريَّة، فالحيرة تقع على بعد ثلاثة أميالٍ جنوب(الكوفة)، وتبعد عن(النَّجف) مسيرة ساعةٍ للفارس إِلى الجنوب الشَّرقي للنَّجف، والنَّاظر على الخارطة يرى لأوَّل وهلةٍ أهمِّية هذا الموقع الاستراتيجي، فالحيرة كانت(عقدة مواصلات) في نقطةٍ تتَّصل بها الطُّرق من جميع الاتجاهات، فهي تتَّصل بالمدائن من الشَّرق عبر نهر الفرات وتتَّصل شمالاً بـ(هيت) وتتَّصل بـ(الأنبار) على جسر الأنبار، وتتَّصل بالشام من الغرب، كما تتَّصل بـ(الأبلَّة) في منطقة(البصرة) بالعراق، وفي(كسكر) في(السَّواد)، وفي(النُّعمانية) على نهر دجلة، ومن هذا يتَّضح جليّاً أهمِّية السَّيطرة على هذا الموقع المهمِّ، وكان الصِّدِّيق مصيباً عندما جعلها هدفاً لجيشين، هما جيش خالدٍ، وجيش عياض، فالحيرة كانت قلب العراق، وأقرب منطقة مهمَّة إِلى المدائن عاصمة الإمبراطورية الفارسيَّة، الَّتي كانت تدرك هذه القيمة الاستراتيجيَّة للحيرة، ولذا كانت ترسل القوَّات باتجاهها دائماً لاستعادتها، لأنَّ المسيطر على الحيرة يؤمِّن سيطرته على المنطقة الكائنة غربي الفرات بأجمعها، وهي عدا هذا كانت مهمَّة للقوات الإِسلاميَّة في قتالها الرُّوم في بلاد الشَّام.
إِنَّ تخطيط الصِّدِّيق للوصول إِلى الحيرة في الفتوحات يُعرف في الخطط العسكريَّة للجيوش الحديثة بحركة فكَّي الكمَّاشة، أو عملية الالتفاف الدَّائري بأكثر من جيشٍ، وهذا يؤكِّد: أنَّ عمليَّة فتح العراق، وضم أطراف شبه الجزيرة العربيَّة عن طريق الجهاد لم تكن محض مصادفةٍ، أو نتيجةً لمجريات الحوادث.
ويظهر للباحث فقه أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ في التَّخطيط الجهادي بأنَّه كان يرتكز على اتِّخاذ القرارات بتنظيم الجيوش، وتوجيهها، وتحديد واجباتها، وأهدافها، وتنسيق التَّعاون فيما بينها، وتحقيق التَّوازن على مسارح العمليَّات، غير أنَّه يترك لقادته حرِّيَّة العمل العسكري لإِدارة العمليَّات القتاليَّة بالأساليب؛ التي يرونها مناسبةً، وبالطَّرائق؛ الَّتي تستجيب لما يجابهونه من مواقف.
3ـ نكران الذَّات عند المثنَّى بن حارثة:
ومن المواقف الَّتي تذكر في الجهاد في العراق ما كان للمثنَّى بن حارثة الشَّيباني، وكان يقاتل الأعداء في العراق بقومه، ولما علم بذلك أبو بكر سرَّه ما كان منه، فأمَّره على مَنْ بناحيته، وذلك قبل مجيء خالد، فلمَّا توجهت همَّة الصِّدِّيق لغزو فارس رأى أنَّ خالداً أجدر القواد بهذه المهمَّة، فوجهه لها، وكتب كتاباً إِلى المثنَّى يأمره بالانضمام إِلى خالدٍ، وطاعته، فما كان منه إِلا أن سارع في الاستجابة، ولحق بخالدٍ، هو وجيشه، وإِنَّ هذا موقفٌ يُذكر للمثنَّى حيث لم يَغُرَّه كثرة جيشه، ولا كونه أقدم من خالدٍ في إِمرة جيوش العراق، فلم يحمله ذلك على أن يرى أنَّه أحقُّ بالقيادة من خالدٍ.
4ـ احتياط الصِّدِّيق لأمر الجهاد في سبيل الله:
وقد جاء في كتاب أبي بكرٍ لخالدٍ، وعياض بن غنْم أن استنفروا مَنْ قاتل أهل الردَّة، ومن ثبت على الإِسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغزونَّ معكم أحدٌ ارتدَّ حتَّى أرى رأيي، فلم يشهد الأيَّام مرتدٌّ، يعني في أوَّل الأمر، وقد شهدوا الأيَّام بعد ذلك، حينما ثبتت استقامتُهم، كما سيأتي بإِذن الله تعالى . وهذا الموقف من أبي بكرٍ مبنيٌّ على الاحتياط لأمر الجهاد في سبيل الله تعالى، حتَّى لا يشترك فيه طلاَّب الدُّنيا، فيكونوا سبباً في فشل المجاهدين، واختلال صفوفهم.
وهذا درسٌ تربويٌّ من أبي بكرٍ استفادة من الدُّروس النَّبويَّة الغالية، وذلك في تنقية الصَّفِّ الإِسلامي من الشَّوائب، وتوحيد هدفه حتَّى يكون خالصاً لوجه الله تعالى، فيأمن بذلك من الانتكاسات الخطيرة الَّتي تحدث بسبب تعدُّد الأهداف، ولقد حرص أبو بكر على هذا المبدأ السَّامي مع شدَّة احتياج الجيش الإِسلاميِّ آنذاك إِلى الرِّجال، ممَّا يدلُّ على قناعته التَّامة بأن العبرة بسموِّ الهدف، والإِخلاص، لا بكثرة العدد.
5ـ الرِّفق بالناس، والتَّوصية بفلاحي العراق:
وفي قول الصِّدِّيق لخالدٍ: وتألَّف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم. وهذا القول بيَّن لنا الهدف من الجهاد الإِسلامي خارج بلاد الإِسلام، فهو جهاد دعوي، يقصد به دعوة النَّاس إِلى الدُّخول في الإِسلام، ولمَّا كانت الدَّعوة غير ممكنةٍ مع بقاء الحكومات، فإِنَّه لا بدَّ من إِزالتها؛ لتمكين شعوبها من الدُّخول في الإِسلام، وهذا الهدف ظاهرٌ في جميع المعارك؛ التي خاضها الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ حيث كانوا يدعون أعداءهم إِلى الإِسلام، فيكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، فإِن أبوا؛ فليستسلموا لحكم الإِسلام، ويدفعوا الجزية مقابل حماية المسلمين لهم، فإِن أبوا فلا بدَّ من القتال حتَّى تكون كلمة الله هي العليا، وقد وصَّى الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قادة جيوشه بفلاحي العراق، وأهل السَّواد، حرصاً منه على هداية النَّاس، وعلى منابع الثَّروة، وعلماً منه بأنَّ العمران لا يقوم بدون دولة، كما أنَّ الفلاحة مصدر من مصادر الثَّروة، وهي المتصلة بحياة النَّاس، ومعايشهم.
6ـ لا يهزم جيش فيهم مثل هذا:
عندما استمدَّ خالدٌ أبا بكرٍ أثناء سيره للعراق أمدَّه الصِّدِّيق بالقعقاع بن عمرو التَّميمي فقيل له: أتُمدُّ رجلاً قد ارفضَّ عنه جنوده برجلٍ؟ فقال: لا يهزم جيش فيهم مثلُ هذا. وهذا فراسةٌ من أبي بكر بيَّنتها أحداث العراق بعد ذلك، وقد كان أبو بكر أعلم النَّاس بالرِّجال، وما يتَّصفون به من طاقاتٍ، وكفاءاتٍ مختلفة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي