فتح الحيرة زمن الصديق... الخطط والإستراتيجيات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة والثلاثون
علم مرزبان الحيرة بما صنع خالد بأميبيا فأيقن أنَّه اتيه، فاستعدَّ لذلك، وأرسل جيشاً بقيادة ابنه، ثمَّ خرج في إِثره، وأمر ابنه بسدِّ الفرات ليعطل سفن المسلمين، وفوجئ المسلمون بذلك، واغتمُّوا له، فأرسلوا الفلاحين فأخبروهم بضرورة سدِّ الأنهار حتَّى يسيل الماء، فماذا فعل خالد؟
نهض خالد في خيلٍ يقصد ابن المرزبان فلقي خيلاً من خيله، ففاجأهم فأنامهم بالمقرِّ ثمَّ نهض قبل أن تصل أخباره إِلى المرزبان حتَّى لقي جنداً لابنه على فم الفرات، فقاتلهم وهزمهم، وسدَّ الأنهار، وسلك الماء سبيله، ثمَّ طلب خالد عسكره واتجه إِلى الحيرة، وعلم المرزبان بموت ابنه، وخبر موت أردشير، فهاله الأمر، فعبر الفرات هارباً من غير قتال، فعسكر خالد مكانه وأهل الحيرة متحصِّنون، وأدخل الخيل من عسكره، وتمَّت خطَّته حول قصور الحيرة بمحاصرتها على هذا النَّحو:
أـ ضرار بن الأزور لمحاصرة القصر الأبيض، وفيه إِياس بن قبيصة الطائي.
ب ـ ضرار بن الخطاب لمحاصرة قصر العدسيين، وفيه عديُّ بن عديٍّ العبادي.
ج ـ ضرار بن مقرِّن لمحاصرة قصر بني مازن، وفيه ابن أكال.
د ـ المثنَّى بن حارثة لمحاصرة قصر ابن بقيلة، وفيه عمرو بن عبد المسيح.
وعهد خالد إِلى أمرائه أن يدعوا القوم إِلى الإِسلام، فإِن أجابوا؛ قبلوا منهم، وإِن أبوا؛ أجلوهم يوماً، وأمرهم أن لا يمكِّنوا عدواً منهم، بل عليهم أن يناجزوهم، ولا يمنعوا المسلمين من قتال عدوِّهم ففعلوا، واختار القوم المنابذة، وعمدوا لرمي المسلمين بالحذف، فرشقهم المسلمون بالنَّبل، وشنُّوا غاراتهم، وفتحوا الدُّور، والديارات، فنادى القسيسون: يا أهل القصور! ما يقتلنا غيركم، فنادى أهل القصور: يا معشر العرب! قبلنا واحدةً من ثلاث، فكفُّوا عنا. وخرج رؤساء القصور، فقابلهم خالدٌ كلُّ أهل قصر على حدةٍ، ولامهم على فعلهم، وتصالحوا مع خالد على جزية، وصالحوه على مئةٍ وتسعين ألفاً، وبعث خالد بالفتح، والهدايا إِلى أبي بكرٍ، فقبل الهدايا وعدَّها لأهل الحيرة من الجزية تعفُّفاً عما لم يأذن به الشَّرع، وقطعاً لدابر العادات الأعجميَّة الَّتي كان يُحتال بها على سلب أموال النَّاس.
وكتب خالد في عهده لأهل الحيرة: بسم الله الرحمن الرَّحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديّاً وعمراً ابني عديٍّ، وعمرو بن عبد المسيح، وإِياس بن قبيصة، وحيريَّ بن أكال ـ وهم نقباء أهل الحيرة ـ ورضي بذلك أهل الحيرة، وأمروهم به، وعاهدهم على مئةٍ وتسعين ألف درهم تقبل في كلِّ سنة، جزَاءً عن أيديهم في الدُّنيا، رهبانهم وقسِّيسيهم، إِلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيساً عن الدُّنيا تاركاً لها، وسائحاً تاركاً الدُّنيا، وعلى المنعة، فإِن لم يمنعهم شيء فلا شيء عليهم حتَّى يمنعهم، وإِن غدروا بفعلٍ، أو بقولٍ فالذمَّة منهم بريئةٌ.
وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الأول سنة 12هـ. وقد جاء في روايةٍ: أنَّ خالداً عرض على أهل الحيرة واحدةً من ثلاثٍ: أن تدخلوا في ديننا، فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا؛ إِن نهضتم، وهاجرتم، وإِن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقومٍ هم على الموت أحرص منكم على الحياة! فقال: بل نعطيكم الجزية، فقال خالدٌ: تبّاً لكم، ويحكم! إِنَّ الكفر فلاةٌ مضلَّة، فأحمق العرب مَنْ سلكها.
ففي حديث خالدٍ ـ رضي الله عنه ـ تتَّضح بعض الصِّفات الإِيمانيَّة الَّتي تجسَّدت في جيش فتح العراق، فهذا الجيش يتحرَّك من أجل هدف سامٍ، ألا وهو دعوة النَّاس إِلى الإِسلام، وتبليغ الهداية للبشريَّة، وليس التوسُّع في الممالك، وفرض السُّلطان، والتمتُّع بالحياة الدُّنيا. كما بيَّن خالد أهمَّ مقومات نجاح المسلمين في حروبهم ألا وهو الحرص الأكيد على طلب الشَّهادة، وابتغاء ما عند الله تعالى في الآخرة.
كما بيَّن النَّصُّ السَّابق حرص الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ على تطبيق سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بالرَّغبة القلبية في هداية البشريَّة، حيث إِنَّ خالداً وبَّخهم على اختيار البقاء على الكفر، مع أن بقاءهم على الكفر ودفع الجزية فيه مصلحةٌ ماليَّة للمسلمين، ولكن خالداً من قومٍ هانت عليهم الحياة الدُّنيا، وفضَّلوا ما عند الله ـ جلَّ وعلا ـ في الآخرة، وقد سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم هذا المبدأ السَّامي، في قوله صلى الله عليه وسلم: « لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النَّعم ».
وفي قبول الصِّديق لهدية أهل الحيرة، وقد أهدوها طائعين مختارين، فعدَّها من الجزية عدلاً، وتعفُّفاً، وخشية أن يَظْلِمَ أهلَ ذمَّته، أو يكلِّفهم شططاً؛ درسٌ عظيمٌ في إِقامة العدل بين النَّاس، وقد قارن الشَّيخ علي الطنطاوي بين فتوح الاستعمار التي أثارتها أوربة، وبين فتح المسلمين مقارنةً متميِّزةً ثمَّ استدلَّ بقول الشاعر:
مَلَكْنَا فكانَ العَدْلُ منَّا سجيَّةً فلمَّا مَلَكْتُم سال بالدَّمِ أبطح
وحللتم فَكانَ العَدْلُ منا سجيَّةً غَدَوْنَا على الأسرى نَمُنُّ ونصفح
فحسبكم هذا التَّفاوتُ بينَنا فكلُّ إِناءٍ بالَّذي فِيه يَنْضَحُ
الحيرة قاعدة الجيوش الإِسلاميَّة:
كان فتح الحيرة عملاً حربيّاً عظيم القيمة، وسَّعَ أمل المسلمين في فتح بلاد فارس، لمكان هذا البلد الجغرافيِّ، والأدبيِّ من العراق، والمملكة الفارسيَّة، فقد اتَّخذها القائد العام للجيوش الإِسلاميَّة مقرّاً لقيادته العليا، ومركزاً رئيسيّاً تتلقَّى منه جيوش الإِسلام أوامر الهجوم، والدِّفاع، والإِمداد، والنُّظُم، وكذلك جعلها قاعدةً عامة ًللتَّدبير، والسِّياسة الَّتي يقوم عليها تنظيم مَنْ وقع في يد المسلمين، وبثَّ خالدٌ عمَّاله على الولايات لجباية الخراج، والجزاء، ووجَّه أمراءه إِلى الثُّغور لحمايتها، وأقام هو ريثما يتمُّ ما أراده من الاستقرار، والنِّظام، وترامت أخباره إِلى الدَّهاقين، والرُّؤساء، فأقبلوا إِليه يصالحونه حتَّى لم يبق ما بين قرى سواد العراق إِلى أطرافه مَنْ ليس مولىً للمسلمين، أو على عهدٍ منهم، وقد كان من عمَّاله على الأقاليم:
1ـ عبد الله بن وتيمة النَّصري على الفلالي.
2ـ جرير بن عبد الله البجلي على بانقياد.
3ـ بشير بن الخاصية على النَّهرين.
4ـ سُويد بن مقرِّن المزنيُّ على تُستُر.
5ـ أطط بن أبي أطط على روستا.
وكان من قادة الثُّغور:
1ـ ضرار بن الأزور الأسدي.
2ـ المثنَّى بن حارثة الشَّيباني.
3ـ ضرار بن الخطاب الفهري.
4ـ ضرار بن مقرن المزني.
5ـ القعقاع بن عمرو التَّميمي.
6ـ بُسر بن أبي رهم الجهني.
7ـ عُتَيبة بن النَّهاس.
الرَّسائل الَّتي أرسلها خالدٌ إِلى خاصَّة الفرس، وعامَّتهم:
أجمع خالد أمره على منازلة الفرس في ساحات ملكهم بعد أن صفا له الجوُّ في العراق، وأمن ظهره بانحسار أمر فارسٍ عن العرب فيما بين الحيرة، ودجلة، وكان أهل فارس في هذه الفترة على خلافٍ شديد فيمن يولُّونه عليهم بعد موت كسراهم أردشير، فانتهز خالدٌ هذه الفرصة، وكتب إِلى خاصَّتهم، يقول: مِنْ خالد بن الوليد إِلى ملوك فارس: أمَّا بعد: فالحمد لله الَّذي حلَّ نظامكم، ووهن كيدكم، وفرَّق كلمتكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزَّكم، فإِذا أتاكم كتابي؛ فأسلموا؛ تسلموا، أو اعتقدوا منا الذمَّة، وأجيبوا إِلى الجزية، وإِلاَّ والله الذي لا إِله إِلا هو لا سيرن إِليكم بقومٍ يحبُّون الموت كما تحبُّون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدُّنيا.
وكتب إِلى عامَّتهم فقال: من خالد بن الوليد إِلى مرازبة أهل فارس: الحمد لله الَّذي فضَّ خَدَمتكم، وفرَّق جمعكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزَّكم، فإِذا أتاكم كتابي؛ فأسلموا؛ تسلموا، أو اعتقدوا منَّا الذِّمَّة، وأجيبوا إِلى الجزية، وإِلا والله الذي لا إِله إِلا هو لا سيرن إِليكم بقومٍ يحبُّون الموت كما تحبُّون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدُّنيا.
وبفتح الحيرة تحقَّق شطرٌ من أمل أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ في فتح العراق، وإِخضاعه تمهيداً لغزو فارس في عقر دارهم، وقد قام خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بمهمَّته في ذلك خير قيام، ووصل إِلى الحيرة في وقتٍ قياسيٍّ حيث بدأ صراعه مع الأعداء في شهر محرَّم من العام الثاني عشر في معركة الكاظمة، وانتهى من فتح الحيرة في شهر ربيع الأول من العام نفسه.
كرامة لخالد بن الوليد في فتح الحيرة:
وقد أخرج الإِمام الطَّبري بإِسناده: وكان مع ابن بُقَيْلة، منصفٌ له فعلَّق كيساً في حقوه، فتناول خالد الكيس، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمانة الله سمُّ ساعة! قال: لم تحتقب السُّمَّ؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحبُّ إِليَّ من مكروه أدخله على قومي، وأهل قريتي، فقال خالد: إِنَّها لن تموت نفسٌ حتَّى تأتي على أجلها، وقال: بسم الله خير الأسماء ربِّ الأرض، وربِّ السماء؛ الَّذي ليس يضرُّ مع اسمه داءٌ، الرَّحمن الرَّحيم، فأهْوَوا إِليه يمنعونه منه، وبادرهم فابتلعه، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكنَّ ما أردتم ما دام منكم أحد أيُّها القَرْن!
وأقبل على أهل الحيرة، فقال: لم أرَ كاليوم أوضح إِقبالاً. وقد ذكر هذه الرِّواية الحافظ ابن كثير، ولم يضعِّفها، وذكرها الحافظ ابن حجر، وقال: رواه أبو يعلى، ورواه ابن سعد من طريقين اخرين، ولم يضعفها، وذكرها ابن تيميَّة مثالاً من أمثلة الكرامات.
وقد أنكر بعض الكتَّاب المعاصرين هذا الخبر، واعتبروه من نسج خيال بعض الرُّواة حول شخصيَّة خالدٍ، وقد ثبتت هذه الرواية من ناحية الإِسناد، فقد ارتضاها الطَّبري، وابن سعد، وابن كثير، وابن حجر، وابن تيميَّة، ولم يضعِّفوا إِسنادها، وهم أعلم، وأنصف في علم التَّاريخ الإِسلامي من الكتَّاب المعاصرين.
إِنَّ خالداً ـ رضي الله عنه ـ عندما أقدم على شرب السُّمِّ، كان في قمَّة اليقين، والإِيمان بأنَّ الله جلَّ جلاله هو الَّذي خلق كلَّ شيءٍ، وأودع في كلِّ شيءٍ خصائصه، وأنَّه القادر على أن يلغي مفعول هذه الخصائص إِذا أراد لحكمةٍ عاليةٍ، وهدفٍ عظيم، كما أذهب فعَّاليَّة النَّار حينما أُلقي فيها إِبراهيم ـ عليه السلام ـ وجعلها عليه برداً، وسلاماً، وقد حصل ذلك لغير الأنبياء عليهم السلام كما حصل لأبي مسلمٍ الخولانين لما رفض أن يُقِرَّ بنبوة الأسود العنسيِّ الكذَّاب؛ فألقاه في النار فوجدوه فيها قائماً يصلِّي، ولم تضرَّه، كما أنَّ خالداً حينما أقدم على ذلك لم يخالج قلبه ذرةٌ من إِرادة حظِّ النَّفس، وكسب السُّمعة، والجاه، لأنَّه لو نوى شيئاً من ذلك؛ لعلم أنَّ الله تعالى سيتخلَّى عنه، وهو لا حول له ولا قوَّة على انتزاع أثر السُّمِّ الضَّارِّ، وهذه تجربةٌ فذَّةٌ لا يُطلب من أيِّ مسلمٍ أن يخوضها، ولو كان هدفه نفس الهدف الَّذي رمى إِليه خالدٌ؛ لأنَّه يندر أن يوجد مَنْ يبلغ إِيمانه، وثقته بالله تعالى إِلى المستوى الَّذي بلغ إِليه خالدٌ رضي الله عنه، وأرضاه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي