الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

حَجَّة خالد رضي الله عنه وأمر الصِّدِّيق له بالخروج إِلى الشَّام .. أحداث ملهمة وعبر مستفادة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الأربعون

 

أقام خالد بالفراض عشرة أيام ثمَّ أذَّن بالقفول إِلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدِّمة، وأمر شَجَرة بن الأعز أن يسير في السَّاقة، وأظهر خالدٌ: أنَّه يسير في السَّاقة، ثم انطلق في كوكبة من أصحابه، وقصد شطر المسجد الحرام، وسار إِلى مكَّة في طريق لم يُسلك قبله قطُّ، وتأتَّى له في ذلك أمرٌ لم يقع لغيره، فجعل يسير متعسفا على غير جادَّةٍ حتَّى انتهى إِلى مكَّة، فأدرك الحجَّ هذه السَّنة(12هـ)، ثم عاد، فأدرك أمر السَّاقة قبل أن يصلوا الحيرة، ولم يعلم أبو بكر الصِّديق بذلك أيضاً إِلا بعدما رجع أهل الحجِّ من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش، وأمره بالذَّهاب إِلى الشَّام . وجاء في خطاب الصِّدِّيق لخالدٍ: أنْ سر حتَّى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإِنَّهم قد شجُّوا، وأشجُّوا، وإِيَّاك أن تعود لمثل ما فعلت! فإِنَّه لم يشجَّ الجموعُ من النَّاس بعون الله شججاك، ولم ينزع الشَّجي من النَّاس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النِّيَّة، والحظوة، فأتمم يتمَّ الله لك، ولا يدخلنَّك عجبٌ فتخسرَ، وتخذلَ، وإِيَّاك أن تدلَّ بعملٍ، فإِنَّ الله له المنُّ، وهو وليُّ الجزاء

هذا الخطاب الجليل من الخليفة الحكيم ـ رضي الله عنه ـ يصوِّر مدى حرص الصِّدِّيق رضي الله عنه على القوَّاد النَّاجحين، فيمدُّهم بالمشورة، والنَّصائح الَّتي تأخذ بيدهم إِلى الفوز والتَّمكين بفضل الله:

أـ يأمر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ سيف الله خالداً أن يترك العراق، ويتوجَّه إِلى الشَّام لعلَّ الله يفتح على يديه هذا الموقع.

ب ـ ينصحه ألا يعود إلى مثل ما حدث في حَجِّه بدون إِذنٍ من الخليفة.

ج ـ يأمره أن يسدِّد، ويقارب، ويجتهد مخلصاً النِّيَّة لله وحدَه.

د ـ يحذره من العجب بالنَّفس، والزهوِّ، والفخر، فذلك حظُّ النَّفس؛ الَّذي يفسد العمل على العامل، ويردُّه في وجهه، كما يحذِّره أن يدلَّ ويمنَّ على الله بالعمل الذي يعمله، فإِنَّ الله هو المانُّ به؛ إِذ التوفيق بيده سبحانه.

هذا وقد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش الإِسلاميَّة على تطبيق مبادئ الحرب من مباغتة، وصدِّ الهجوم، وتثبيت الأعداء، وحشد القوَّات، وإِدامة المعنويَّات، وجمع المعلومات، ورسم الخطط، وتنفيذها بكلِّ قوَّةٍ، ودقَّةٍ، واحتياط منقطع النَّظير، فهو لم يذهب إِلى الشَّام لمجاهدة الرُّوم إِلا بعد خبرةٍ واسعة في فتوحات العراق، وكان المرشَّح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنَّى ابن حارثة الشَّيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق، ومهارته الفائقة في حرب الفرس.

ويظهر للباحث: أنَّ الخطط الَّتي وضعها خالدٌ في حروب العراق كانت تعتمد على الله، ثمَّ على جمع المعلومات الدَّقيقة الَّتي تدلُّ على نشاط مخابراته، واستكشافاته في الميدان، والَّذي يبدو أنَّ هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذُّ(المثنَّى بن حارثة الشَّيبانيُّ) ليس فقط لا لمعيته، وقدرته الفائقة على التَّنظيم، وإِنما لمعايشته للمنطقة، فهو ينتمي إِلى(بني شيبان) من(بكر بن وائل) الَّذين كانت منازلهم بتخوم العراق، وحوض الفرات؛ الَّتي تمتدُّ شمالاً إِلى(هيت)، فكانوا بحكم مساكنهم واتِّصالاتهم مؤهَّلين لأن يكونوا عيوناً(مخابرات) فما وجدنا تحرُّكاً لجيشٍ من جيوش الفرس إِلا وكان خبر ذلك التحرُّك منذ بدئه على لسان(المثنَّى) في الوقت المناسب، وما من شاردةٍ، ولا واردةٍ تحدث في بلاط الفرس إِلاَّ وكان(المثنَّى) على علمٍ بها في حينها.

وكان في خطاب الصِّدِّيق إِلى خالدٍ: دع العراق، واخلف فيه أهله الَّذين قدمت عليهم، ثمَّ امضِ مخففاً في أهل قوَّةٍ من أصحابنا الَّذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطَّريق، وقدموا عليك من الحجاز، ثمَّ تأتي الشَّام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، وإِذا التقيتم؛ فأنت أمير الجماعة. والسَّلام عليك ورحمة الله. وتهيَّأ خالد للسَّير إِلى الشام، وقسم خالد الجند نصفين: نصفاً يسير به إِلى الشَّام ونصفاً للمثنَّى، ولكنَّه جعل الصَّحابة جميعاً من نصيبه، فقال له المثنَّى: والله لا أقيم إِلا على إِنفاذ أمر أبي بكرٍ كلِّه في استصحاب نصف الصَّحابة، وإِبقاء النِّصف! فوالله ما أرجو النَّصر إِلا بهم، فأنت تعريني منهم، وكان خطاب الصِّدِّيق قد وصل إِلى خالدٍ قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند، ومن يدعهم للمثنَّى، قال: يا خالد لا تأخذ مجداً إِلا خلفت لهم مجداً، فإِذا فتح الله عليك فأرددهم إِلى العراق وأنت معهم، ثمَّ أنت على عملك.

فما زال خالد يسترضي المثنَّى، ويعوِّضه عن الصَّحابة بمقاتلين من سادة أقوامهم من أهل البأس، وممَّن عُرفوا بالشَّجاعة، والصَّبر، وشدَّة المراس، فرضي المثنَّى اخر الأمر، وحشد خالد جنوده، وانطلق ليعبر إلى الشَّام صحارى رهيبةً غائبة النَّواحي مترامية الآفاق كأنَّما هي التيه، وسأل الأدلاَّء: كيف بطريق أخرج فيه من وراء جموع الرُّوم؟ فإِنِّي إِن استقبلتُها؛ حبستني عن غياث المسلمين! قالوا له: لا نعرف إِلا طريقاً لا يحمل الجيوش فوالله إِن الرَّاكب ليخافه على نفسه! إِنَّك لن تطيق ذلك الطَّريق بالخيل، والأثقال، إِنَّها لخمس ليالٍ لا يُصاب فيها ماء.

قال خالد: إِنَّه لا بدَّ من ذلك؛ لأخرج من وراء جموع الرُّوم. وعزم خالد على سلوك هذا الطَّريق مهما تكن مخاطرة، فكم فاز باللَّذة الجسور! فنصحه رافع بن عمير أن يستكثر من الماء حتَّى يجتاز ذلك الطَّريق، فأمر خالد جنوده أن يخزِّنوا الماء في بطون الإِبل العطاش، ثم يشدوا مشافرها لكيلا تجتر فتستنزف الماء، وقال لرجاله: إِنَّ المسلم لا ينبغي أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له.

وسار به الدَّليل رافع بن عمير في طريقٍ تمتاز بوعورتها وقلَّة مائها، وضياع معالمها، وقلَّة سكَّانها، ولا سيَّما الجزء الممتد بين قراقر، وسوى، إِلا أنَّها أقصر الطُّرق، فأوضح خالدٌ لجنده الاعتبارات الَّتي تجعله يفضِّل سلوك هذا الطريق على غيره، وهي السُّرعة، والسِّرِّيَّة، والمباغتة، وكان رافع قد طلب من خالد أن يهيأ عشرين ناقةً كبيرةً، فأعطاه ما أراد، فمنع عنها الماء أيَّاماً حتى عطشت ثمَّ أوردها إِيَّاه فملأت جوفها، فقطع مشافرها، وكمَّمها فلا تجترُّ، ثم قال لخالد: سر الآن بالخيول، والأثقال، وكلما نزلت منزلاً نحرت من تلك الإِبل وشرب النَّاس ممَّا تزوَّدوا، فسار الجيش من قراقر، وهي اخر قرى العراق على حدود الصَّحراء إِلى سُوَى، وهي أوائل قرى الشام، والمسافة بينهما خمس ليال يستريحون بالنَّهار ويسيرون باللَّيل، واعتمد خالدٌ على رافع بن عمير دليلاً بعد أن وثق به، ومن صحَّة دلالته، واختار محرز المحاربي لحذقه في الدَّلالة على النُّجوم، لذلك كان مسيرهم ليلاً وصباحاً مع تحاشي السير عند ارتفاع النَّهار والظَّهيرة لقطع مرحلتين في اليوم الواحد، ولم يترك خالدٌ أحداً من جنده يسير راجلاً وإِنَّما أركب الجند الإِبل للمحافظة على قابليتهم البدنيَّة، وسار خالدٌ في الطريق، وكلَّما نزل منزلاً نحر عدداً من النُّوق فأخذ ما في أكراشها، فسقاه الخيل، ثمَّ شرب النَّاس مما حملوا من الماء، فلمَّا كان اليوم الخامس نَفِدَ الماء، فخاف خالدٌ على أصحابه العطش، وقال لرافع، وهو أرمد: ما عندك؟ فطلب رافعٌ من الناس أن يبحثوا عن شجرة عوسجٍ صغيرة في تلك المنطقة، فلم يجدوا إِلا جزءاً صغيراً من ساقها، فأمر رافع أن يحفروا هناك، فحفروا فظهرت عينٌ للماء، فشربوا حتَّى روي النَّاس، فاتَّصلت بعد ذلك لخالد المنازل.

وقد قال بعض العرب لخالدٍ في هذا المسير: إِن أنت أصبحت عند الشَّجرة الفلانيَّة؛ نجوت أنت، ومن معك، وإِن لم تدركها هلكت أنت ومن معك! فسار خالد بمن معه، وسروا سروةً عظيمة، فأصبحوا عندها، فقال خالد: عند الصَّباح يَحْمَدُ القومُ السُّرَى، فأرسلها مثلاً وهو أوَّل من قالها رضي الله عنه.

وقد قال رجلٌ من المسلمين في مسيرهم هذا عن خالدٍ:

لله درُّ رافعٍ أنَّى اهتدى فَوَّزَ مِنْ قَراقِرٍ إِلى سوى

خمسا إِذا ما سَارَها الجيشُ بَكَى مَا سَارَها قَبْلَكَ إِنسيٌّ يُرَى

وهذه القصَّة تدلُّ على أنَّ القائد المحنَّك لا يبالي بالأخطار؛ وأنَّه أعمل الحيلة في سبيل الحصول على الماء لقطع الصَّحراء حتَّى وصل إِلى غرضه، وفي اليوم الخامس وصل جيش خالد إِلى سُوى، وهو أول تخوم الشَّام تاركاً وراءه حاميات الرُّوم على الطُّرق الرَّئيسية العامَّة المحسوبة، ذلَّلتها إِرادة القائد، وإِيمانه، وإِقدامه.

وصل خالد إِلى(أدك) وهي أوَّل حدود الشَّام، فأغار على أهلها، وحاصرهم فحرَّرها صلحاً، ثمَّ نزل تدمر فامتنع أهلها، وتحصَّنوا، ثمَّ طلبوا الأمان، فصالحهم وواصل سيره، فأتى(القريتين)، فقاتله أهلها، فظفر بهم، ثمَّ قصد(حوَّارين)، وصار إِلى موضع يعرف بالثَّنيَّة، فنشر رايته وهي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمَّى العُقَاب؛ فسمِّي ذلك الموضع بثنية العُقَاب، ولما مرَّ بعذراء أباحها، وغنم لغسان أموالاً عظيمة، وخرج من شرقي دمشق، ثمَّ سار حتَّى وصل إِلى قناة بصرى، فوجد الصَّحابة تحاربها فصالحه صاحبُها، وسلَّمها إِليه، فكانت أوَّل مدينة فتحت من الشَّام ولله الحمد، وبعث خالدٌ بأخماس ما غنم من غسان مع بلال ابن الحارث المزنيِّ إِلى الصِّدِّيق، ثمَّ سار خالد، وأبو عبيدة، ومرثد، وشرحبيل إِلى عمرو بن العاص ـ وقد قصده الرُّوم بأرض العرباء من المعور ـ فكانت واقعة أجنادين.

وهكذا نجح خالد بن الوليد في الوصول إِلى الشَّام لمساندة الجيوش الإِسلاميَّة بعد مغامرةٍ، ومباغتةٍ فذَّةٍ في التاريخ العسكري الإِنساني، يقول اللواء محمود شيت خطَّاب: . . . وعبور خالدٍ للصَّحراء من الطريق الخطر مباغتةٌ فذَّةٌ في التَّاريخ العسكري، لا أعرف لها مثيلاً، ولست أعتقد أنَّ عبور ها نيبال للألب، وعبور نابليون للألب أيضاً، ولا تفويز نابليون من صحراء سيناء، أو قطع الجيش البريطاني لهذه الصَّحراء في الحرب العالمية الأولى، يمكن أن تعتبر شيئاً إِلى جانب مغامرة خالد؛ لأنَّ عبور الجبال أسهل بكثيرٍ من عبور الصَّحراء لتيسُّر الماء في الجبال وعدم تيسُّره في الصَّحراء، ولأنَّ صحراء سيناء فيها كثيرٌ من الآبار، والأماكن المأهولة، وعدم تيسُّر ذلك في الصَّحراء الَّتي قطعها خالد، فكان نجاح خالدٍ في عبور الصَّحراء مباغتةً كاملةً للرُّوم لم يكونوا يتوقَّعونها بتاتاً، ممَّا جعل حاميات المدن والمواقع الَّتي صادفته في طريقه بين العراق وأرض الشام تستسلم لقوَّته بعد قتالٍ طفيف، أو بدون قتالٍ؛ لأنَّها لم تكن تتوقَّع أبداً أن تلاقي قوَّة جسيمةً من المسلمين تظهر عليهم من هذا الاتجاه في هذا الوقت بالذَّات.

لقد تأثَّر القادة العسكريُّون على مرِّ التَّاريخ وتوالي الأزمان بالعبقريَّة العسكريَّة الخالديَّة، حتَّى قال عنه الجنرال الألمانيُّ(فون در ولتيس) مؤلِّف كتاب «الأمَّة المسلَّحة» قائد إِحدى الجبهات التُّركيَّة الألمانيَّة خلال الحرب العالميَّة الأولى:(إِنَّه أستاذي في فنِّ الحرب).

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022