تعيين الصديق للمثنَّى بن حارثة رضي الله عنه بالعراق .... الحيثيات والأسباب
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الحادية والأربعون
كان المثنَّى شجاعاً، مقداماً، شهماً، غيوراً، وكان ميمون النقيبة، حسن الرأي، وكان راسخ العقيدة، قويَّ الإِيمان، شديد الثِّقة بالله، بعيد النَّظر، يؤثر المصلحة العامَّة على مصلحته الخاصَّة، وكان يشارك أصحابه في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وكان يمتلك موهبة إِعطاء القرارات الصَّحيحة السَّريعة، وكان ذا إِرادةٍ قويَّة ثابتةٍ يتحمَّل المسؤوليَّة الكاملة في أخطر الظُّروف والأحوال، يثق بقوَّاته، وتثق به قوَّاته ثقةً لا حدود لها، ويحبُّهم ويحبُّونه حبّاً لا مزيد عليه، ذا شخصيةٍ قويَّةٍ نافذةٍ فهو بحقٍّ كما يقول عنه عمر بن الخطَّاب: مؤمِّر نفسه، كانت له قابليةٌ فائقةٌ تعينه على أعباء القتال، وله ماضٍ ناصعٌ مجيدٌ، وكان دائماً أوَّل من يهاجم، واخر من ينسحب، وكان خبيراً بمناطق العراق، جريئاً على الفرس، سريع الحركة واسع الحيلة، وكان أوَّل من اجترأ على الفرس بعد الإِسلام، وجرَّأ المسلمين عليهم، وأبلى في حروب العراق بلاءً لم يبله أحد، وهو الَّذي رفع معنويات المسلمين، وحطَّم معنويات الفرس، وقد وصف المثنَّى جنود الفرس، فقال: قاتلت العرب، والعجم في الجاهليَّة والإِسلام، والله لمئةٌ من العجم في الجاهلية كانوا أشدَّ عليَّ من ألف من العرب، ولمئةٌ من العرب اليوم أشدُّ عليَّ من ألفٍ من العجم، إِنَّ الله أذهب بأسهم، وأوهن كيدهم، فلا يُرَوِّعَنَّكُمْ زهاءٌ ترونه، ولا سوادٌ، ولا قسي فج، ولا نبالٌ طوالٌ، فإِنَّهم إِذا أعجلوا عنها، أو فقدوها؛ كانوا كالبهائم أينما وجَّهتموها؛ اتَّجهت.
كان تعيين الصِّدِّيق للمثنَّى على العراق في محلِّه، ويدلُّ على معرفته بأقدار الرِّجال ومعادنهم، وعندما حان وقت رحيل خالد بجيشه إِلى الشَّام خرج معه المثنَّى لوداعه، ولمَّا حانت لحظة الفراق، قال له خالد: ارجع ـ رحمك الله! ـ إِلى سلطانك غير مقصِّرٍ، ولا وانٍ، وتسلم المثنَّى قيادة العراق بعد خالدٍ، وما إِنْ علم كسرى بذهاب خالدٍ حتَّى حشد الاف الجنود بقيادة(هرمز جذويه) وكتب للمثنَّى يُهَدِّد، ويتوعَّد، فقال: إِني قد بعثت إِليكم جنداً من وحش أهل فارس، وإِنَّما هم رعاة الدَّجاج، والخنازير، ولست أقاتلك إِلا بهم، وأجابه المثنَّى بعقلٍ، وفطنةٍ، ولم ينسَ شجاعته في الردِّ على هذا المجوسيِّ، فكتب يقول في رسالة لكسرى: إِنَّما أنت أحد رجلين: إِمَّا باغٍ فذلك شرٌّ لك، وخيرٌ لنا، وإِمَّا كاذبٌ فأعظم الكذَّابين عقوبةً وفضيحةً عند الله، وعند النَّاس الملوك، وأمَّا الذي يدلُّنا عليه الرأي فإِنَّكم إِنَّما اضطررتم إِليهم، فالحمد لله الَّذي ردَّ كيدكم إِلى رعاة الدَّجاج، والخنازير.
فجزع أهل فارس من هذا الكتاب، ولاموا ملكهم على كتابه، واستهجنوا رأيه، وسار المثنَّى من الحيرة إِلى بابل، ولما التقى المثنَّى وجيشهم بمكان عند عُدوة السراة الأولى، اقتتلوا قتالاً شديداً جدّاً، وأرسل الفرس فيلاً بين صفوف الخيل ليفرق خيول المسلمين، فحمل عليه أمير المسلمين المثنَّى بن حارثة، فقتله، وأمر المسلمين فحملوا، فلم تكن إِلا هزيمة الفرس، فقتلوهم قتلاً ذريعاً، وغنموا منهم مالاً عظيماً، وفرَّت الفرس حتَّى انتهوا إِلى المدائن في شرِّ حالةٍ، ووجدوا الملك قد مات، وعاد الاضطراب إِلى بلاد فارسٍ، وطارد المثنَّى أعداء الله حتَّى بلغ أبواب المدائن، ثمَّ كتب إِلى أبي بكرٍ بانتصاره على الفرس، واستأذنه في الاستعانة بمن تابوا من أهل الردَّة، لكن انتظاره طال، وأبطأ عليه أبو بكر في الردِّ لتشاغله بأهل الشَّام، وما فيه من حروبٍ، فسار المثنَّى بنفسه إِلى الصِّدِّيق واستناب على العراق بشير بن الخاصية، وعلى المسالح سعيد بن مرَّة العِجْلي.
فلمَّا وصل المدينة وجد أبا بكر رضي الله عنه على فراش المرض، وقد شارف الموت، واستقبله أبو بكر واستمع إِليه، واقتنع برأيه، ثمَّ طلب عمر بن الخطاب فجاءه، فقال له: اسمع يا عمر ما أقول لك، ثمَّ اعمل به، إِنِّي لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإِن أنا متُّ فلا تمسينَّ حتَّى تندب النَّاس مع المثنَّى، ولا تشغلكم مصيبةٌ وإِن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربِّكم، وقد رأيتني متوفَّى رسول الله وما صنعت، ولم يُصَب الخلق بمثله . . . وإِنْ فتح الله على أمراء الشَّام؛ فأردد أصحاب خالدٍ إِلى العراق، فإِنَّهم أهلُه، وولاة أمره، وحدُّه، وهم أهل الضَّراوة بهم، والجراءة عليهم.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي