(في مسألة بناء المساجد على القبور)
اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)
الحلقة: الثانية والستون
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهيًا جازمًا عن اتخاذ المساجد على القبور، ولعن أهل الكتاب الذين صنعوا ذلك، ونهى عن ذلك وهو في سياق الموت.
فعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذِّر ما صنعوا.
وقد اعتُرض بأن النصارى ليس لهم إلا نبي واحد، وهو عيسى عليه السلام، وأجيب بجوابين:
الأول: أن لهم أنبياء غير مرسلين كالحواريِّين وغيرهم.
الثاني: أن المراد بالاتخاذ أعمُّ من أن يكون ابتداعًا أو اتباعًا، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتَّبعت. ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود.
ولهذه الأحاديث عدَّ بعض أهل العلم بناء المساجد على القبور من الكبائر، وفي الحقيقة ينطبق عليها وصف الكبيرة، لما ورد من اللعن والدعاء على فاعلها بالقتل واشتداد غضب الله عليهم يوم القيامة.
وإلى القول بالتحريم ذهب جمهور العلماء.
قال ابن قدامة: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذه الأخبار، ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها.
قال ابن مفلح: ويحرم إسراجها- أي القبور- واتخاذ المسجد عليها وبينها، ذكره بعضهم وفقًا للأئمة الثلاثة، قال شيخنا (يعني ابن تيمية): يتعيَّن إزالتها، لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين، قال: ولا تصح الصلاة فيها، على ظاهر المذهب، للنهي واللعن.
قال القرطبي: قال علماؤنا: ويحرم على المسلمين أن يتَّخِذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد، ولكن روى مالك عن أشهب كراهة الدفن في المسجد.
قال الباجي: في شرحه: لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد": دعاؤه صلى الله عليه وسلم ألَّا يُجعل قبره وثنًا يعبد تواضع والتزام للعبودية لله تعالى، وإقرار بالعبادة، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وقد روى أشهب عن مالك أنه لذلك كُرِه أن يُدفن في المسجد، وهذا وجه يُحتمل أنه إذا دُفِن في المسجد كان ذريعة إلى أن يُتَّخذ مسجدًا، فربما صار مما يعبد.
أما المشهور عند الشافعية: فكراهة بناء المسجد على القبر، نص على ذلك النووي، فقال: يُكره أن يَتَّخِذَ على القبر مسجدًا، للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك. ويعلِّق الأذرعي على ذلك فيقول: لو قيل بتحريم إيجاد المسجد على القبر لم يكن بعيدًا.
وقال: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهورًا بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث.
أمَّا الحنفية، فالمنقول عن الإمام محمد كراهة بناء المساجد على القبور، قال: ونكره أن يجصَّص أو يطيَّن، أو يُجعل عنده مسجد. والكراهة عند الحنفية إذا أُطلِقَت فهي للتحريم.
والراجح - والله أعلم - حرمة اتخاذ المساجد على القبور، لتضافر الأدلة على ذلك، وكونها ذريعة إلى الوقوع في الشرك، فهناك مساجد فيها قبور يطاف بها، ووقع الناس فيما حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذاها عيدًا ووثنًا يعبد.
علة التحريم:
وإنَّما حرم النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، حماية لحمى التوحيد، أن تشوبه أدنى شائبة من الشرك، كما هي سُنَّة الإسلام في سد المنافذ التي يحتمل أن تهب منها ريح الشرك.
قال ابن القيم رحمه الله:
من له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده. جزم بما لا يحتمل النقيض: أن هذه المبالغة واللعن والنهي، ليس لأجل النجاسة (يعني نجاسة القبر)، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه... صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه.
قال في «فتح المجيد»: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو محمد المقدسي، وشيخ الإسلام (ابن تيمية) وغيرهم، رحمهم الله.
قال شيخ الإسلام: وأما بناء المساجد على القبور، فقد صرَّح عامة الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث الصحيحة. وصرَّح أصحابنا (يعني: الحنابلة) وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه. ثم ذكر الأحاديث في ذلك... إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم: يتعين إزالتها بهدم أو غيره. هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين.
قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدَّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية. ولمَّا احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين كثر المسلمون، وامتدَّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله، لئلَّا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرَّفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قالت عائشة في الحديث: "لولا ذلك لأُبرز قبرُه، غير أنه خشي أن يُتَّخذ مسجدا". والله تعالى أعلم بالصواب.
وإذا حدث شيء من ذلك، فبُنِي المسجد على القبر، فيجب إزالته - كما قال العلماء - وخصوصًا إذا كان المسجد هو الطارئ على القبر، بخلاف العكس، فإن القبر هو الذي يجب أن يزال. وبهذا قال الإمام ابن تيمية ونقله عن أهل العلم قال: يحرم بناء المساجد على القبور ويجب هدم كل مسجد بُنِيَ على القبر، وإن كان الميت قد قُبِر في مسجد وقد طال مكثه سُوِّي القبر، حتى لا تظهر صورته؛ فإن الشرك إنما ظهرت صورته. ثم قال: كذلك قال العلماء.
وإذا حدث البناء والدفن معًا لم يصح وقف المسجد، وبهذا قال الإمام أحمد معلِّلًا أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر.
أما إذا كانت المقبرة قديمة، فيمكن الانتفاع بها، وخصوصًا إذا كانت لغير المسلمين، فقد جاء في الصحيح أن المكان الذي بني فيه مسجد الرسول الله كان فيه قبور المشركين، وأزيل ما كان فيها من بقايا عظام.
وقد اختلف الفقهاء فيما بينهم حول المدة التي يمكن الانتفاع بعدها بالمقبرة القديمة، والمقابر تمتد وتتسع، ولا يمكن للناس - ولا سيما في عصر تكاثر السكان- أن يستغنوا عن هذه الأراضي القريبة من المدينة أو الواقعة في قلبها؛ لأنها كانت مقبرة في سالف الأزمان، وغابر القرون. ولا سيما في البلاد التي لا تتمتع بمساحات واسعة، فالضرورات أو الحاجات تفرض الانتفاع بالمقابر، التي ترك الناس الدفن بها من أزمنة طويلة.
وقد قال الشاعر:
صاحِ هذى قبرونا تملأ الرحـْ ـب فأين القبورُ من عهد عاد؟
خفِّف الوطء، ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجسـاد
سر إن استطعت في الهواء رويدًا لا اختيالًا على رفات العباد
فقبيح بنا وإن قدم العهــــ ــدُ هوان الآباء والأجـداد
ولكننا لا نستطيع أن نقيم الأحكام الشرعية على الشِّعر.
فكيف نقيم مساجدنا إذن إذا كان أديم الأرض التي نمشي عليها من أجساد أجدادنا القدامى؟!
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) صص140-136