الجزاء بجنس العمل في الآخرة ..
مختارات من كتاب " الإيمان بالقدر "
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الثانية والأربعون
إن سنة الجزاء بجنس العمل حاكمة في معاملة الله خلقه في الحياة الدنيا، فهي كذلك في الآخرة، ومن ثم كانت سنة أساسية بين السنن، والتطبيقات القرآنية تترى في هذا المعنى، وتصل إلى حد التواتر، من حيث العدد، وإلى القطع من حيث المعنى والمراد من ذلك (1).
1 ـ معاملة أهل الفضل بالفضل:
ـ قال تعالى: "هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن : 60) ، أي: هل ثواب خوف مقام الله عز وجل لمن خافه فأحسن في الدنيا عمله، وأطاع ربه إلا أن يحسن إليه في الآخرة ربه بأن يجازيه على إحسانه ذلك في الدنيا ما وصف في الآيات من قوله تعالى: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (الرحمن : 46- 58) (2).
وقال تعالى: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة : 16 ـ 17) .
قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم وأخفى الله لهم ما لم ترعين ولم يخطر على قلب بشر (3).
وفي الحديث القدسي: قال تعالى: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ" (السجدة : 17) (4).
ـ وقال تعالى: "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ") النور : 22) . وقال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التغابن : 14) .
2 ـ ترك الإنسان وإهماله في العذاب، كما أهمل الحق ولم يتبعه:
قال تعالى: " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" (طه : 124 ـ 126) . أخبر تعالى أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عمياً، فإن الجزاء أبداً من جنس العمل (5).
وقال تعالى: " الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا" (الأعراف : 51) . وقال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ" (الجاثية : 32 ـ 34) .
3 ـ التهكم بالكفار والمنافقين كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا:
قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المطففين : 29 ـ 36) .
وقال تعالى: "يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" (الحديد : 13) . والشاهد في الآية قوله: "قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا"، فالظاهر من إسناد "قِيلَ" بصيغة المجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين (6)، وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكماً، إذ لا نور وراءهم، وإنما أرادوا إطماعهم ثم تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين، لأن الخيبة بعد الطمع أشد حسرة وهذا استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم (7).
ومما يؤيد أن هذا التخبط والحيرة الشديدة التي أصابت المنافقين في الآخرة هو جزاء لهم من جنس ما كانوا عليه في الدنيا أنهم كانوا كذلك في الدنيا في قلق دائم وحيرة مستمرة، وتخبط متواصل لأنهم كانوا"مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء" (النساء: 143) (8).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الثانية والأربعون:
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور ص 250.
(2) جامع البيان للطبري (27 / 198) .
(3) تفسير القرآن الكريم (3 / 260) روح المعاني (21 / 132) .
(4) مسلم في صحيحه (4 / 2174) .
(5) السنن الإلهية، د. مجدي عاشور ص 256.
(6) السنن الإلهية د. مجدي عاشور ص 262.
(7) المصدر نفسه ص 263.
(8) المصدر نفسه ص 263.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: