العدل الإلهي، وسنة الجزاء من جنس العمل ..
مختارات من كتاب " الإيمان بالقدر "
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الأربعون
من أسماء الله الحسنى "العدل" ولم يأت هذا الاسم في القرآن الكريم وقد جاء في حديث الأسماء الحسنى وأجمعت عليه الأمة.
ومعناه: العادل: وهو الذي يصدر منه فعل العدل وهو المضاد للجور والظلم وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وإذا آمن العبد بأن الله هو العدل لم يعترض عليه في أحكامه وتدبيره وسائر أفعاله، وافق مراد العبد أو لم يوافق، لأن كل ذلك عدل وهو كما ينبغي وعلى ما ينبغي (1).
فالعدل كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل، وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكّن من أسباب الهداية والطاعة بالاسماع والأبصار والعقول وهذا عدله.
ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يُعينه ويُفقّه، فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلىّ بينه وبين نفسه، ولم يُرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله، ولم يحرمه عدله (2).
وقد اتفق أهل الأرض والسموات على أن الله تعالى "عدل" لا يظلم أحداً، حتى أعداءه المشركين الجاحدين لصفات كماله، فإنهم مقرّون له بالعدل، ومُنزّهون له عن الظلم، حتى إنهم ليدخلون النار وهم مُعترفون بعدله، كما قال تعالى: "فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ" (الملك: 11) .
وقال تعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ" (الأنعام: 130). فهو سبحانه قد حرّم الظلم على نفسه وأخبر أنه لا يُهلك: "الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ" (الأنعام: 131) .
فأفعال الله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً، فهي كلها بين الفضل والرحمة وبين العدل والحكمة، وما ينزل الله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة، فإنما فعل بهم ما يستحقونه، فإنه لا يأخذ إلا بذنب ولا يعذب إلا بعد قيام الحجة، وأقواله كلها عدل، فهو لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ولا ينهاهم إلا عمّا مضرته خالصة أو راجحة وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء ووزنه لأعمالهم لا جور فيه، كما قال تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء: 47)، فهو على صراط مستقيم في قوله، وفعله وحكمه (3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدل فِيّ قضاؤك (4). فالله عدل في جميع أقضيته في عبده، قضائه السابق فيه قبل إيجاده، وقضائه فيه المقارن لحياته، وقضائه فيه بعد مماته، وقضائه فيه يوم معاده (5).
وقال الله تعالى ـ على لسان نبيه هود عليه السلام : "إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (هود:56). فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم (6).
فالله يأمر بالعدل ويفعله وهو أعدل العادلين، فما قضى في عبده قضاء إلا هو واقع في محله الذي لا يليق به غيره، إذ هو الحكم العدل الغني الحميد (7).
فالله وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل فالشرع والقدر والخلق والأمر والثواب والعقاب قائم بالعدل "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً" (الأنعام: 115) .
والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها وتنزيلها منازلها، وإنه لم يخص شيئاً منها إلا بمخصص اقتضى ذلك وإنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ولا يمنع من يستحق العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقاً (8).
والله يفعل ما يريد، وحكمه ماض في العبيد، على النهج السديد (9). "وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف: 49) . وهذا الكمال عدل فإن النفي هنا لإثبات كمال الضد (10). قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَيَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ" (النساء: 40) . وقال تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا" (يونس: 44). وقال تعالى: "ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هود: 100 ـ 102) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم:"وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هود: 102) (11).
وقال تعالى:"وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" (الكهف: 59) .
وقال تعالى في شأن أصحاب السبت:"فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ" (الأعراف: 165) .
فالله لا يظلم الناس شيئاً في دنياهم وإنما يؤاخذهم بظلمهم، ولا يظلمهم في الآخرة (12). قال تعالى:"فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (يس: 54) . وقال تعالى في آخر آية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال:"ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (البقرة: 281) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا (13).
وعلى مستوى المعاملات بين الناس جاء الأمر الإلهي بتحري العدل، قال تعالى:"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ" (النحل: 90) . فالنصوص التي ذكرت في القرآن والسنة للدلالة على تحريم الظلم وتنزيه الله عنه، تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه، ووضعه العقوبة والثواب مواضعها (14).
قال الشاعر:
والعدل من أوصافه في فعله ومقاله والحكم في الميزان
فعلى الصراط المستقيم إلهنا قولا وفعلاً ذاك في القرآن (15)
ومن أكبر مظاهر عدل الله في خلقه في الدنيا والآخرة سنة الجزاء بجنس العمل وقد تكاثرت النصوص لهذا المعنى، وهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه، كله قائم بهذا الأصل (16).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الأربعون:
() أسماء الله الحسنى د. فاروق حمادة ص 128.
(2) جهود الإمام ابن القيم في توحيد أسماء الأسماء والصفات د. وليد محمد عبد الله العلي (2/ 1291) .
(3) الجزاء من جنس العمل د. سيد حسين العفاني (1/ 33) .
(4) صحيح ابن حبان رقم 972.
(5) الجزاء من جنس العمل (1/ 33) .
(6) جهود الإمام ابن القيم الجوزية في تقرير الأسماء والصفات (2/ 1292) .
(7) الجزاء من جنس العمل (1/ 34) .
(8) مدارج السالكين (3/ 457 ـ 460) .
(10) الجزاء من جنس العمل (1/ 34) .
(11) المصدر نفسه (1/ 34) .
(12) البخاري (4688) ومسلم (2583) .
(13) الجزاء من جنس العمل (1/ 35) .
(14) مسلم، رقم 2577.
(15) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود ص 287.
(16) الجزاء من جنس العمل (1/ 33) .
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: