الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

نماذج عُلمائية مُلهمة (40)

"الحافظ ابن عساكر ال" محدث الشام ومؤرخها الكبير

الكاتب: د. علي محمد الصلابي

هو الإمام الحافظ والمؤرخ والشيخ الكبير، إمام المحدثين، والعالم القدوة، حافظ الشام وحافظ الدنيا، الثقة الثبت الحجة، ناصر السنة وخادمها، صَاحب تَارِيخ دمشق وأطراف السّنَن الْأَرْبَعَة، شيخ الشافعية فخر الدين الإمام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الشافعي (رحمه الله).

أولاً: اسمه ونسبه وشهرته ومولده:

هو علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي المولد والنشأة والدار والوفاة. كان يلقب (رحمه الله): ثقة الدين، ويكنى أبا القاسم .

وأما شهرته بابن عساكر : فقد قال أبو شامة المقدسي: «ليس في أجدادهم من اسمه عساكر، وإنما هي تسمية اشتهرت عليهم في بيتهم. (ذيل الروضتين، للذهبي، ص136)، وقال الإمام الذهبي: وما علمت هذا الاسم في أجداده ولا مَنْ لقب به منهم . (سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج11 ص405)

أما ولادته، فقد قال السمعاني: سألته عن مولده فقال: في العشر الآخر من محرم سنة تسع وتسعين وأربعمئة، وقال الذهبي: ولد في المحرم في أول الشهر سنة تسع وتسعين وأربعمئة . (خريدة القصر، الأصبهاني، ج1 ص274) ، (معجم الأدباء، ياقوت الحموي، ج13 ص73).

ثانياً: نشأته ورحلته في طلب العلم:

نشأ ابن عساكر (رحمه الله) وعاش طفولته وشبابه في أسرة علمية ذات شرف وتقدم، فوالده كان محباً للعلم وأهله. ووجد ابن عساكر العلم يحيط به من كل جانب، فتهيأت له كل أسباب النبوغ والتلقي منذ صغره، أخذ عن علماء دمشق ورحل في طلب العلم إلى بغداد، ودرس وحدّث وأفتى، وكان تقياً ورعاً متواضعاً، وكان له فضل كبير في رعاية أخيه وتوجيهه. فأخذ عن هؤلاء أولاً، وروى عنهم في كتبه، فسمع أباه وأخاه، وسمعه أبوه وأخوه، وسمع بإفادتهما من شيوخه منذ أن بلغ ست سنوات، إلى حين أن عزم على الرحلة لبغداد. (الحافظ ابن عساكر، محمد الحافظ، ص95)

فأسرته أسرة علم وفضل، والرحلة عندهم لطلب العلم جزء كبير من حياتهم، فجده القاضي يحيى سمع ببغداد، وخالاه محمد وسلطان رحلا إلى بغداد، وكذلك أخوه الصائن رحل إلى بغداد وأخذ عن شيوخها. وقال الإمام الذهبي : وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل يحيى بن علي القرشي في النحو. (سير أعلام النبلاء، مرجع سابق، ج20 ص565).

وبعد وفات والده الحسن سنة (519ه) عزم على الرحلة. فيقول الحافظ بن النجار البغدادي: وحج سنة إحدى وعشرين، وسمع بمكة أبا محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل المصري، ورحل إلى العراق في سنة عشرين وسمع الكثير ببغداد عن ابن الحصين وأبي الحسن الدينوري، وسمع بالكوفة الشريف أبا البركات عمر بن إبراهيم الزيدي، وعاد إلى بغداد فأقام بها يسمع ويكتب ويحصّل خمس سنين، ثم عاد إلى دمشق، ورحل إلى خراسان عن طريق أذربيجان، ودخل نيسابور في سنة تسع وعشرين، وسمع أبا عبد الله الفراوي، وأبا محمد السيدي، وبمرور يوسف الهمذاني، ثم عاد إلى دمشق يملي ويحدث ويصنف، وسمع منه جماعة من شيوخه وكان إماماً ثقة نبيلاً، حدث ببغداد وروى عنه من أهلها أبو بكر بن كامل وكان أسن من مئة. (الكلمات والبحوث الملقاة في الاحتفال بابن عساكر، ص69 - 70)

ثالثاً: عـــــــــــــــــلمه ومكانته:

إن العلوم التي أتقنها الحافظ ابن عساكر (رحمه الله) متشعبة، فهو عالم موسوعي متقن لعلوم عدة، ألف فيها وأملى وحدث.

ولقد أعطي الحافظ موهبة فائقة في القدرة على الحفظ والاستيعاب، وحسن الفهم، والذكاء الكبير، مع الهمة الكبيرة والدأب المتواصل، مما جعله علماً كبيراً ينتشر اسمه في الآفاق كما تنتشر كتبه في البلدان لتصل إلى كبار العلماء والطلبة. فالحافظ واحد من أولئك العلماء القلة الذين نبغوا في عدة علوم، وعرف عنه بأنه الحافظ المحدث المؤرخ الفقيه القارئ الشاعر الأديب، وبهذه الصفات يعد الحافظ ابن عساكر عالماً موسوعياً. (الحافظ ابن عساكر، مرجع سابق، ص348)

ومن المعروف عن الحافظ أنه بدأ حياته بحفظ القرآن ومبادئ العلوم، وجمع معها القراءات، فقرأ بقراءة أبي عمرو بن العلاء، وهي القراءة السائدة في بلاد الشام في عصره، كما أنه تلقى عدداً من كتب القراءات وعلوم القرآن عن مشايخه بسندهم إلى مؤلفيها، وبعد أن أتقن هذه الكتب وأصبح عالماً، قرأ عدداً من كتب القراءات وعلوم القرآن على تلاميذه، وكمثال على ذلك فقد قرأ عليه تلميذه عبد الله ابن منصور الواسطي كتاب (الوسيط في التفسير) للواحدي. (تاريخ دمشق ، ابن عساكر، ج37 ص76)

وأما عن الفقه وعلم الخلاف، فالحافظ (رحمه الله) فقيه شافعي متقن، تلقى هذا العلم عن أسرته، وتلقاه أيضاً عن شيخه الفقيه الكبير أبي الحسن السلمي شيخ المدرسة الأمينية، وفي رحلته إلى بغداد درس الفقه والأصول على عدد من شيوخها. وأما مقدار فضله ونبوغه في في علم الحديث، فهو محدث ومؤرخ على طريقة المحدثين .

بدأ الحافظ تلمذته وسماعه للحديث وهو في السادسة من عمره، فسمع الحديث بصحبة أخيه على عدد من شيوخ دمشق الكبار أصحاب الأسانيد العالية، منهم: سبيع بن قيراط، وأبو القاسم النسيب، وأبو الفرج الصوري وغيرهم،

وبعد هجرته إلى بغداد وخراسان، عاد (رحمه الله) بعلم غزير، وكتب وافرة، وسماعات عالية، وتراث زاخر جمعه في صدره وكتبه، وأصبح محدثاً حافظاً من أعيان فقهاء الشافعية، فجلس إلى أحد سواري مسجد دمشق وبدأ بإملاء الحديث الشريف، ثم أملى مؤلفاته ومجالسه وعكف على التأليف والجمع والرواية حتى في نزهه وخلواته، فجمع وأملى ما لم يجمعه غيره، وكانت مؤلفاته كلها على طريقة المحدثين بالإسناد إلى صاحب الخبر، وخير دليل على ذلك كتابه "تاريخ دمشق" الذي هو كتاب تراجم على طريقة المحدثين في إيراد الأسانيد، ويعتبر مرجعاً لكل من أراد البحث عن تاريخ دمشق حتى القرن السادس الهجري، كما أنه المرجع الكبير بأخباره النادرة، وخاصة في تاريخ العالم الإسلامي.

ووصل الحافظ إلى هذه المنهجية الفريدة اعتماداً على التربية التي نشأ عليها من الصدق والأمانة والتحري، والتدين والعفة، وبذلك يظهر لنا هذا العمل بخصائص عظيمة؛ من سماتها: الاحتياط والتثبت والدقة في النقل والرواية، والأدب مع أصحاب الأخبار. وأما عن الفروع التي ألف فيها الحافظ في علم الحديث فهي متعددة الجوانب. ولم يكن كتابه "تاريخ دمشق" الكتاب الوحيد في التاريخ، فقد ألف عدداً آخر من الكتب في هذا الفن ومنها : كتاب أمراء مصر، وكتاب في الزلازل، وتاريخ المزة. (الحافظ ابن عساكر، مرجع سابق، ص249 - 253).

رابعاً: ثناء العلماء على الإمام الحافظ:

من يتتبع أقوال العلماء في الحافظ ابن عساكر يجد أن علماء الدنيا قد أجمعوا على حسن تقدير الإمام الحافظ، فقد أثنى عليه شيوخه وزملاؤه في الطلب، ومعاصروه، والذين جاؤوا بعده، وكثير من معاصريه وصفوه بأفضل الصفات، وأجمل الفضائل الخلقية، والمنزلة العلمية الرفيعة. (طبقات الشافعية، السبكي، ج7 ص217)

يقول العماد الأصبهاني في وصف الحافظ: "هو الحافظ الذي قد تفرد بعلم الحديث، والاعتقاد الصحيح، المنزه عن التشبيه، المحلى بالتنزيه، المتوحد بالتوحيد، المظهر شعار الأشعري بالحد الحديد، والجد الجديد، والأبد الشديد". (سير أعلام النبلاء، للذهبي، مرجع سابق)

وقال الإمام الذهبي في العبر: "وساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ في ذلك الذروة العليا، ومن تصفح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ". (العبر في خبر من غبر، الذهبي، ج4 ص212)

وقال الحافظ ابن النجار: "أبو القاسم إمام المحدثين في وقته، انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان والثقة والمعرفة التامة، ويه ختم هذا الشأن". (طبقات الشافعية، مرجع سابق، ج7 ص217)

خامساً: وظائــــــــــــــــــــفه:

لما دخل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي دمشق اجتمع بالحافظ بن عساكر (رحمه الله) وأعجب كل واحد منهما بالآخر، وحضر كل منهما مجلس الآخر، واستمع السلطان نور الدين إلى الحافظ، فكانت بينهما صلة قوية مبنية على المحبة من السلطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الحافظ، ووجد نور الدين أنه لا بد من السعي لجمع شمل الأمة ووحدتها، فحث الحافظ على إتمام كتابه العظيم "تاريخ دمشق"، وبنى له دار الحديث النورية "وتسمى أيضاً دار السنة"، وكان ذلك سنة (٥٦٦هـ) تقريباً، وجعله شيخاً لها، وقام الحافظ بعدها بالتدريس فيها ورواية الحديث والإشراف على هذه الدار، فأملى فيها بعض كتبه وبعضاً من تاريخه. (الحافظ ابن عساكر، مرجع سابق، ص582)

سادساً: وفاته:

توفي الحافظ الحافظ ابن عساكر (رحمه الله) بدمشق ليلة الأحد حادي عشر من رجب سنة (571 هـ)، ودفن بمقبرة باب الصغير، قريباً من قبر الصحابي معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنهما). وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي في ميدان الحصا، ومات (رحمه الله) وقد بلغ من السن اثنتين وسبعين سنة وستة أشهر. (خريدة القصر، مرجع سابق، ج1 ص274 - 280)

المراجع:

• ذيل الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، لأبي شامة المقدسي، دار الجيل – القاهرة. الطبعة: الأولى، ١٤١٨ هـ/ ١٩٩٧م.

• الحافظ ابن عساكر = محدث الشام ومؤرخها الكبير، "سلسلة أعلام المسلمين"، د. محمد مطيع الحافظ، دار القلم – دمشق، الطبعة الأولى، 1424هـ - 2003م.

• سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي، بإشراف: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت.

• تاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر، دار الفكر - بيروت.

• العبر في خبر من غبر، شمس الدين الذهبي، تحقيق: صلاح الدين المنجد وفؤاد السيد – الكويت، 1404هـ - 1984.

• خريدة القصر وجريدة العصر، عماد الدين الأصبهاني، قسم شعراء الشام، تحقيق: د. شكري فيصل، المجمع العلمي العربي بدمشق، 1375هـ - 1955م.

• معجم الأدباء، شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، المحقق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الأولى، ١٤١٤ هـ - ١٩٩٣ م.

• طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، المحقق: د. محمود محمد الطناحي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، دار إحياء التراث العربي – بيروت.

• لكلمات والبحوث والقصائد الملقاة في الاحتفال بمؤرخ دمشق الكبير ابن عساكر: ابن عساكر في ذكرى مرور تسعمائة سنة على ولادته.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022