تأثير الفطرة في استجابة الدعاء
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة التاسعة والثلاثون
قال تعالى: "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (النمل: 62). فالآية صريحة الدلالة على أن دعاء المضطر هو السبب في إجابة سؤاله وكشف السوء عنه وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والألوهية ولهذا أعقبه بقوله:"أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (1).
والإنسان من طبيعته إذا وقع في شدة وضيق عليه تحركت فطرته ومشاعره، واتجه إلى الله ونسى ما كان يدعو من قبل وهنا يوقن أنه لا منقذ إلا الله، وتنكشف عنه الحجب، ويزول الرين، وتذهب الغشاوة وينطرح بين يدي الله منكسراً متواضعاً مبتهلاً متضرعاً باكياً ويجأر إلى الله كاشف السوء مجيب المضطرين غياث المغيثين منقذ الهالكين، وجابر المنكسرين ومنقذ الغرقى، وسامع النجوى، فكم من ملحد نزلت به ضائقة آب إلى الله (2)، وكم من شارد فاسق وقع في مأزق تاب إلى الله ورجع إلى طاعته، فالفطرة خير شاهد وأقوى دليل وأنصع برهان، وأوضح حجة لأنها لا تحتاج إلى تركيب مقدمة وإقامة أدلة جدلية واستنتاج ودليلها لا يمكن مقاومته، ولا دفعه بالشبهات والوساوس، ألا ترى الإنسان إذا ما وقع في معصية يتجه مباشرة إلى السماء ويرفع يديه قائلاً: يا رب يا رب وهذه الحالة تهجم عليه وتسيطر على تفكيره وشعوره وتجعله يشعر أنه لا منقذ ولا منجي ولا مغيث إلا الله سبحانه وتعالى، فلو لم تدل الفطرة على تأثير الدعاء لما اتجهت إلى الدعاء ولكانت تلجأ إلى وسائل أخرى للاستغاثة والاستعانة (3).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان هذه في عدة آيات منها: قوله تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ" (يونس: 12) وقال سبحانه: "وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ" (الزمر: ٨) . وقوله تعالى: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ" (فصلت: 51) . وقوله تعالى:"وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ" (النحل: 53) . وقوله تعالى:"هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" (يونس: 22) . وقوله تعالى: "وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا" (الإسراء: 67) . وقوله تعالى:"وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ" (لقمان: 32) .
فالإنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك الأشياء التي كان يتعلق بها، ويرجع إلى ربه، فتحصل له معرفة قوية من أقوى مايكون المعارف، فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال (4).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة التاسعة والثلاثون:
(1) المصدر نفسه (1/ 359) .
(2) العقيدة في الله لعمر الأشقر ص 67، الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 368) .
(3) المصدر نفسه (1/ 368) .
(4) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 369) .
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: