اختار الله تعالى جيل الصحابة الكرام ليكونوا الرعيل المسلم الأول الذي يطبق الإسلام بصورته الأسمى والأنقى قولا وعملا، وكان في مقدمته الخلفاء الراشدون الأربعة الذين زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى باتباع سنتهم بعد سنته، وتنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم نتطرق إلى بعض جوانب التقوى وسنن تزكية النفوس المأثورة عن أحدهم، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذي اشتهر بعلمه الواسع وفقهه الغزير، وزهده، وتواضعه، وكرمه وجوده، وحيائه، وشدة عبوديته وصبره، وإخلاصه وشكره لله، وغير ذلك من صفات الهدى والتقى التي اتصفت بها حياته رضي الله عنه.
مارس علي رضي الله عنه مفهوم العبادة الشامل في حياته، فهذا ضرار بن ضمرة الكناني يصف علي بن أبي طالب لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم بقوله: " كان يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يتميل في محرابه، قابضا لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا! يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: أبي تغررت أم إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بنتك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق". فوكفت دموع معاوية على لحيته، ما يملكها، وجعل ينشفها بكُمِّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا يرقأ دمعها، ولا يسكن حزنها. ثم قام فخرج".
ودخل الأشتر النخعي على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو قائم يصلي بالليل، فقال له: يا أمير المؤمنين: صوم بالنهار وسهر بالليل وتعب فيما بين ذلك، فلما فرغ – علي – من صلاته قال له: سفر الآخرة طويل، فيحتاج إلى قطعه بسير الليل. وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يحث الناس على تقوى الله ومراقبته وخشيته، فقد قال: " أيها الناس، اتقوا الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، وإن أقمتم أخذكم ".
عبر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الخوف من الله تعالى بالخوف من الذنوب، لأن المراد هو الخوف من عاقبتها وهو عذاب الله تعالى، فهو إرشاد لأهم السبل الموصلة إلى تحقيق مقام الخوف من الله تعالى
وكان يقول: " يا أيها الناس خذوا عني هؤلاء الكلمات، فلو ركبتم المُطِيَّ حتى تُنضوها – يعني: تهزلوها – ما أصبتم مثلها: لا يَرْجُوَنَّ عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحي إذا لم يعلم أن يتعلم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له".
ففي هذه الوصية الجمع بين تصحيح التوحيد، والإرشاد إلى آداب العلم، حيث يوصي رضي الله عنه بتصحيح الاتجاه في مقامي الخوف والرجاء، فالمؤمن الحق لا يرجو إلا الله؛ لأنه وحده المنعم بسائر النعم، والذي يجري من النعم على أيدي المخلوقين، إنما هم وسائط وأسباب في وصول تلك النعم، أما منشئ النعم وموجدها فهو الله سبحانه وتعالى، والمؤمن الحق لا يخاف إلا من الله تعالى؛ لأنه هو الذي يملك ضره ونفعه، والمخلوقون الذين يتوهم الناس أنهم مصدر خوف إنما هم وجميع الخلق في قبضة الله تعالى، وإذا كان الله تعالى وحده هو الرازق وهو الخالق وحده، وهو المالك وحده القادر على كل شيء، فلم يرجو المؤمن سواه أو يخاف من غيره؟
ولقد عبر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الخوف من الله تعالى بالخوف من الذنوب، لأن المراد هو الخوف من عاقبتها وهو عذاب الله تعالى، فهو إرشاد لأهم السبل الموصلة إلى تحقيق مقام الخوف من الله تعالى. ثم بين شيئا من آداب التعلم؛ لأن أمور الدين إنما تؤخذ بالعلم، فيذكر من آداب المتعلم: أن لا يمنعه الحياء من التعلم حتى لو كان كبير السن، أو القدر. ويذكر من آداب المعلِّم: أن لا يمنعه الحياء من أن يقول: لا أعلم فيما لا علم له به؛ لأن ذلك يحفظ عليه دينه ودين من سأله.
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حريصا على أن تكون أعماله خالصة لوجه الله تعالى، فقد تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأعمال لا تقبل إلا إذا خلصت النية، فمعنى ذلك أن الإخلاص ركن أساسي في العبادة، وأن العبادة التي يفقد منها الإخلاص ترد على صاحبها
ثم يختم وصيته النافعة ببيان أصل من أصول الإيمان؛ ألا وهو الصبر، حيث يعتبره من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وذلك أن نجاح الأمور كلها يقوم على الصبر سواء في أمور الدنيا أو الآخرة. وقد مارس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مقام الصبر في حياته منذ نعومة أظافره، وإسلامه سرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرورا بما لاقاه في المغازي والسرايا وعهد الخلفاء الراشدين، وما صحبها من أحداث جسام، ومن ثم ما واجهه من صنوف الفتن في خلافته، إلى أن انتهى الأمر بقتله، كل هذه المراحل في حياته فيها الدروس البليغة لدعاة اليوم، والتنبيه لهم لما تحتاجه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من الصبر والتحمل ودفع الثمن ابتغاء مرضاة الله تعالى.
وكان رضي الله عنه يحث أصحابه على مقام الصبر، فقد قال رضي الله عنه للأشعث بن قيس: "إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور".
وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حريصا على أن تكون أعماله خالصة لوجه الله تعالى، فقد تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأعمال لا تقبل إلا إذا خلصت النية، فمعنى ذلك أن الإخلاص ركن أساسي في العبادة، وأن العبادة التي يفقد منها الإخلاص ترد على صاحبها، فقد كان رضي الله عنه محاربا للشرك بجميع أشكاله وأنواعه، سواء شرك الربوبية أو شرك الألوهية، وكان حريصا في سكناته وحركاته أن تكون أعماله خالصة لوجه الله تعالى، وكان يحث الناس خصوصا طلاب العلم على البعد عن الرياء، فقد قال رضي الله عنه: "يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون حلقا، فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه حين يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل".
لقد كانت عبـادة علي رضي الله عنـه قائمـة على كمال الإخلاص لله تعالى، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالله هو المستحق للعبادة وحده، فقد كانت حياته كلها عبادة، ينتقل فيها من نوع إلى نوع، ومن حال إلى حال، يمتثل قـول الله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 – 163]، إن العبادة بمعناها الشامل عامل مهم وأساسي في تزكية الأخلاق، والاستقامة على شرع الله تعالى، وكذلك كانت حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تطبيق عملي ومثال حي لهذا المعنى الجليل.