من كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة
(عيسى عليه السلام من أولي العزم)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ يناير 2021
قال تعالى:﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾(الأحقاف: 35).
وأما أولو العزم من الرسل فهم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم جميعاً، وقد كانت وصية الله تعالى لعيسى عليه السلام وأولي العزم من الرسل ما ذكره الله تعالى في سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: 13) .
فعيسى عليه السلام من أولي العزم الذين أقاموا الدين الذي أمر الله به الأنبياء والمرسلين، وهذا خطاب من الله سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول لهم فيه:
- (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) ارتضى ونهج وأوضح لكم هذا الدين.
- (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) الذي ارتضاه ووصاه لنوح.
- (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فهذا الدين هو نفسه الذي ارتضاه إليك يا محمد وارتضاه لعباده.
- (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) ارتضى هذا الدين -أي الإسلام-لإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله، بعد أن ارتضاه لنوح أبو البشر بعد آدم، ومحمد آخر رسول وخاتم النبيين، وهم أولو العزم من الرسل.
- (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أوصاهم جميعاً بإقامة هذا الدين والتمسك به، ونهاهم عن ترك هذا التوحيد والإسلام.
- (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) شقَّ على المشركين دعوتهم إلى الإسلام، وإلى توحيد الله، وقولهم لا إله إلا الله ونبذ الوثنية وعبادة الله وحده لا شريك له، والإسلام والانقياد والطاعة له سبحانه وتعالى.
- (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يعلم الله الصالح من عباده فيهديه إلى طريق الرشاد، ويجتبيه من بين الناس جميعاً، أي أمرتهم رسلهم بتوحيد الله والإيمان بملائكته واليوم الآخر، وبالبعث النشور وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج والتقرب إلى الله بصالح الأعمال من الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم القتل والكفر والزنا والأذية للخالق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات فهذا كله مشروع ديناً واحداً وملَّة متحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم، وأما تفصيل العبادات فهذا يختلف باختلاف الشرائع .
وما شرعه الله لأولي العزم صادر عن كمال العمل والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم السلام تنبيه على كونه ديناً قديماً أجمع عليه الرسل والخطاب لأمته عليه السلام، أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام، وأمرهم به أمراً مؤكداً، وتخصيص المذكورين بالذكر أشير عليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الاتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام.
كما أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أخذ على النبيين جميعهم الميثاق وخصَّ بالذكر أولو العزم من الرسل، وقد أخذ الله ميثاق النبيين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عليهم الصلاة والسلام أجمعين في حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه وتبليغه للناس والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها، وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ (الأحزاب: 7).
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ميثاق واحد ومنهج واحد، وأمانة واحدة يتسَّلمها كل منهم حتى يسلمها، وقد عمَّم النص أولاً:
- (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ)، ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين.
- (وَمِنْكَ) ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل، وهم أصحاب أكبر الرسالات ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه.
- (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق -وهو الحبل المفتول -الذي استعير للعهد والرابطة، وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر، وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده، ليتلقوا وحيه، ويبلغوا عنه، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة.
- (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) والصادقون هم المؤمنون، فهم الذين قالوا كلمة الصدق واعتنقوا عقيدة الصدق ومن سواهم كاذب، لأنه يعتقد بالباطل ويقول كلمة الباطل ومن ثم كان هذا الوصف دلالته وإيحاؤه.
وسؤالهم عن صدقهم يوم القيامة كما يسأل المعلم التلميذ النجيب الناجح عن إجابته التي استحق بها النجاح والتفوق أمام المدعوين بحفل النتائج، سؤال للتكريم وللإعلان والإعلام على رؤوس الأشهاد وبيان الاستحقاق، والثناء على المستحقين للتكريم في يوم الحشر العظيم، فأما غير الصادقين، الذين دانوا بعقيدة الباطل وقالوا كلمة الكذب في أكبر قضية يقال فيها الصدق أو يقال فيها الكذب، قضية العقيدة، فأما هؤلاء فلهم جزاء آخر حاضر مهيَّأ، يقف لهم في الانتظار وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.
يمكنكم تحميل كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/626
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
https://alsalabi.com