الأربعاء

1446-04-27

|

2024-10-30

سلسلة "التمكين والشهود الحضاري" (2)

(أهمية البناء العقديّ في الدعوة النبوية)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

جاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصَّحيحة وتثبيتها في قلوب المؤمنين، وإيضاحها للنَّاس أجمعين، وذلك ببيان توحيد الرُّبوبيَّة وتوحيد الألوهيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات، والإيمان بكلِّ ما أخبر الله به من الملائكة والكتاب والنَّبيِّين، والقدر خيره وشرِّه، واليوم الآخر، وإثبات الرِّسالة للرُّسل - عليهم السَّلام - والإيمان بكلِّ ما أخبروا به (العلياني، 1985، ص 47).

فقد عَرَّف القرآن المكيُّ الناسَ مَنْ هو الإله الَّذي يجب أن يعبدوه، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يربِّيهم على تلك الآيات العظيمة؛ فقد حرص صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأوَّل على أن يعطي النَّاس التَّصوُّر الصَّحيح عن ربِّهم، وعن حقِّه عليهم مدركاً أنَّ هذا التَّصوُّر سيورث التَّصديق واليقين عند مَنْ صفت نفوسهم واستقامت فطرتُهم. ولقد كان تركيز النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا التَّصوُّر المستمدِّ من القرآن الكريم قائماً على عدَّة جوانب، منها:

1 - أنَّ الله منزّهٌ عن النَّقائص، موصوفٌ بالكمالات الَّتي لا تتناهى؛ فهو سبحانه واحدٌ لا شريك له، لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولداً.

2 - وأنَّه سبحانه خالق كلِّ شيءٍ ومالكه، ومدبِّر أمره: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54] .

3 - وأنَّه تعالى مصدر كلِّ نعمةٍ - دَقَّت أو عظمت، ظهرت أو خفيت - في هذا الوجود: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53] .

4 - وأنَّ علمه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، فلا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السَّماء، ولا ما يُخفي الإنسان وما يُعلن: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12] .

5 - وأنَّه سبحانه يقيِّد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتابٍ لا يترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] .

6 - وأنَّه سبحانه يبتلي عباده بأمورٍ تخالف ما يحبُّون وما يَهوون؛ ليعرف النَّاسُ معادنَهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطناً، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط، فيكون جزاؤه غضبَ الله وعدمَ إسناد شيءٍ إليه: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، وذلك مع علم الله تعالى بالشَّيء قبل وقوعه.

7 - وأنَّه سبحانه يوفِّق ويؤيِّد، وينصر من لجأ إليه ولاذ بحماه، ونزل على حكمه في كلِّ ما يأتي: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196] .

8 - وأنَّه - سبحانه وتعالى - حقُّه على العباد أن يعبدوه ويوحِّدوه، فلا يشركوا به شيئاً: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66] .

9 - وأنَّه - سبحانه - حدَّد مضمون هذه العبوديَّة وهذا التَّوحيد في القرآن العظيم (نوح، 1990، ص 10 - 16).

وقد جاء القرآن المكِّيُّ موضِّحاً عقيدة التَّوحيد، ومثبِّتاً لرسالة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجنِّ كافةً. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].

وقد تربَّى الرَّعيل الأوَّل رضي الله عنهم على فهم صفات الله وأسمائه الحسنى، وعبدوه بمقتضاها؛ فَعَظُمَ الله في نفوسهم، وأصبح رضاه سبحانه غايةَ مقصدهم وسعيهم، واستشعروا مراقبتـه لهم في كلِّ الأوقـات، فكبحوا جماح نفوسهم من أن تـزلَّ؛ والله مطَّلعٌ عليهـا، وتطهَّر صحابـة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشِّرك بجميع أنواعه، سواءٌ من اعتقاد متصرِّف مع الله - عزَّ وجلَّ - في أيِّ شيءٍ من تدبير الكون، من إيجادٍ أو إعدامٍ أو إحياءٍ أو إماتـةٍ أو طلب خير أو دفـع شرٍّ بغير إذنٍ من الله سبحانه، أو اعتقاد منازعٍ له في شيءٍ من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب وكالعظمة والكبرياء، وكالحاكميَّة المطلقة وكالطَّاعة المطلقة ونحو ذلك.

إنَّ التَّربية النَّبويَّة الرَّشيدة للأفراد على التَّوحيد هي الأساس الَّذي قام عليه البناء الإسلاميُّ، وهي المنهجيَّة الصَّحيحة الَّتي سار عليها الأنبياء والمرسلون من قبل، فكلُّ رسولٍ دعا قومه إلى إفراد الله بالعبادة وتوحيد الألوهيَّة، واجتناب الطَّاغوت والأصنام. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36].

وقد ربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على تجريد التَّوحيد بأنواعه كلِّها، وكان هو صلى الله عليه وسلم مثالاً حيَّاً للمؤمن الموحِّد غاية التَّوحيد: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام: 161 - 164].

وقد آتت تربية الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ثمارها المباركة؛ فتطهَّر الصَّحابة في الجملة ممَّا يضادُّ توحيد الألوهيَّة وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده، ولم يطيعوا غير الله، ولم يتَّبعوا أحداً على غير مرضاة الله، ولم يحبُّوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله، ولم يتوكَّلوا إلا على الله، ولم يلتجئوا إلا إلى الله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم يذبحوا إلا لله، ولم ينذروا إلا لله، ولم يستغيثوا إلا بالله، ولم يستعينوا - فيما لا يقدر عليه إلا الله - إلا بالله وحده، ولم يركعوا أو يسجدوا أو يَحُجُّوا أو يطوفوا أو يتعبَّدوا إلا لله وحـده، ولم يُشَبِّهُوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات؛ بل نزَّهوه غاية التَّنزيه، وأثبتوا له ما أثبته لنفسـه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريفٍ أو تعطيلٍ أو تأويلٍ، ولم يخافوا خوف السِّرِّ إلا من الله وحده، ولم يصرفوا الطَّاعة المطلقة إلا لله وحده، ولم يشركوا أحداً من خلقه في خاصِّيَّةٍ من خصائص ربوبيَّته؛ كالإحياء والإماتة والرِّزق والعلم المحيط والقدرة الباهرة والقيُّوميَّـة، والبقاء المطلق والتَّحليل والتَّحريم ونحو ذلـك (العلياني، 1985، ص 54 - 55).

لقد اهتمت التربية النبوية اهتماماً بالغاً بغرس عقيدة التوحيد في قلوب وعقول الصحابة الكرام، لأن رسوخ تلك العقيدة هو الشرط الأساسي لصحة كل ما يتبع ذلك من عبادات وأقوال وأفعال المسلم، وصلاح عقيدة التوحيد هي القاعدة التي تبنى عليها الأخلاق الفاضلة والقيم الرفيعة التي يتصف بها المسلم الملتزم، ولذلك يجب على الأباء والفقهاء والمعلمين غرس تلك العقيدة بصورتها الصحيحة والصافية في جماهير المسلمين الناشئة وتربيتهم عليه، لأن في ذلك صلاح الأمة في الدنيا وفلاحها في الآخرة.

 

المراجع:

1. الصلابي، علي محمد، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 123 -128.

2. العلياني، علي، (1985)، أهمِّية الجهاد في نشر الدَّعوة، دار طيبة، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ 1985م.

3. نوح، محمد، (1990)، منهج الرَّسول في غرس الرُّوح الجهاديَّة في نفوس أصحابه، الطَّبعة الأولى، 1411 هـ 1990 م، نشرته جامعة الإمارات العربيَّة المتَّحدة.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022