القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي وجهوده في التوحيد والتحرير (41)
نتائج الحملة الصليبية الثالثة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
يَعُدُّ المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصَّليبية؛ لأنها لم تحقق من النتائج ما يتناسب مع ما بُذل فيها من جهدٍ ضخمٍ؛ فضلاً عن أنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من يد المسلمين. فبرحيل ريتشارد قلب الأسد إلى بلاده بعد صلح الرملة بلغت الحملة الصَّليبية الثالثة نهايتها، ولن يتوجَّه إلى الشرق الأدنى الإسلامي مرَّة أخرى هذا الحشد من الملوك والأمراء، ومع أنَّ أوروبا الغربية اتَّحدت في ذلك العمل، وجهَّزت حملةً كانت من أكبر الحملات الصليبية؛ فإنَّ ما حصلت عليه من نتائج كان ضئيلاً، وما حدث من إنقاذ صور على يد كونراد دي مونتفيرات، ومن نجدة طرابلس من قِبل الأسطول الصقلِّي إنما جرى قبل وصول أفراد الحملة الصليبية الثالثة، وكلُّ ما أسهم به هؤلاء لم يتعدَّ الاستيلاء على عكا والمدن الساحلية حتى يافا، فضلاً عن جزيرة قبرص، على أنَّ أمراً واحداً قد تحقَّق للصليبيين، وهو توقف نشاط صلاح الدِّين في الفتح.
وشاركت الظروف السياسية والعسكرية التي واجهت هذه الحملة، وأحاطت بها في هذه النهاية الفاشلة؛ إذ ليس في استطاعة جيش تجرَّد من القيادة الموحدة، وفرَّقته المنازعات السياسية، وقاتل في أرضٍ أجنبية أن يحرز النَّصر على جيوشٍ جمع بينها وحدة الصَّفِّ والهدف، وانضوت تحت قيادة رجلٍ واحدٍ، مثل صلاح الدين.
كما كان من بين عوامل الفشل أنَّ ملكيْ إنكلترا وفرنسا حملا معهما إلى الشرق ما بينهما من منازعات سياسية محلِّية، وذلك على الرغم من اتفاقهما على التغاضي قبل أن يتحرَّكا من أوروبا الغربية. وقد اختلف الطابع الرُّوحي للحملة؛ إذ لم يكن للبابا دورٌ كبير في توجيهها، كما حدث في الحملة الصليبية الأولى، وطغى عليها الطَّابع السياسي بما يحمل من خلفياتٍ متناقضة.
وقد استمر تماسك الجبهة الإسلامية بعد أن اختفت المنازعات الدِّينية والسياسية؛ على الرغم من تراجع قوة المسلمين العسكرية بسبب الإرهاق والتعب؛ إذ تحتَّم على القوات الإسلامية أن تقوم بأعمال عسكرية مستمرة مدة ثلاث سنوات، وفي ظروفٍ غير عادية، بالإضافة إلى ما حصل من تشنُّجات سرعان ما امتصها صلاح الدين بحكمته، ونذكر منها النزاع الذي حصل بين العناصر التركية والعناصر الكردية في جيشه (تاريخ الأيوبيين، محمد طقوش، ص205)، ولولا رحمة الله، ثم قيادة صلاح الدين؛ لكانت الخسائر كبرى، وبشكلٍ غير متصوَّر، ولكن حسن قيادة صلاح الدين وصمود المسلمين في وجه هذه الحملة الشرسة أربك ملوك أوروبا وأفشل مخطَّطاتهم، ولم يستطيعوا إرجاع بيت المقدس، وهذا يعتبر انتصاراً عظيماً لصلاح الدِّين على الرغم من الخسائر؛ التي لحقت بالمسلمين. وتميَّزت هذه الحملة الصليبية بحدوث تفاهمٍ كبيرٍ مع المسلمين، فكان الطرفان شديدي الصلة ببعضهما، وتعَدَّى ذلك إلى طرح مشروع المعاهدة، وإرسال الفواكه والثلج لريتشارد قلب الأسد أثناء مرضه، وحضور طبيب صلاح الدين الخاص لمعالجته (الفتوح الإسلامية عبر التاريخ، عبد العزيز العمري، ص 299).
يقول جوستاف لوبون: ولكنَّا إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية؛ تجلَّت لنا أهميَّة تلك النتائج، فقد كان اتصال الغرب بالشرق مدَّة قرنين - أي: مدَّة التواجد الصليبي في بلاد المسلمين - من أقوى العوامل على نمو الحضارة في أوروبا، وتكون الحروب الصليبية قد أدَّت بهذا إلى نتائج غير التي نشدتها، فأما الشرق؛ فكان يتمتَّع بحضارةٍ زاهرةٍ بفضل المسلمين ـ وأما الغرب؛ فكان غارقاً في بحر الهمجية.
ذلكم هو ما أفادته أوروبا من الحروب الصليبية، وهي وإن منيت بخسائر فادحة وهزائم قاتلة لم تحقِّق الهدف الذي جاءت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين؛ إلا أنَّها كسبت من وراء ذلك هذه المكاسب العظيمة؛ التي نهضت بأوروبا، وأسرعت في إيصال الحضارة إليها، وأما المسلمون؛ فإنه لم يكن لدى الصليبيين ما يمكن أن يستفيد منه المسلمون، فقد كان الصليبيون في سلوكهم وحوشاً ضاريةً، وكانوا ينهبون الأصدقاء والأعداء، ويذبحونهم على حدٍّ سواء (أسباب الضعف في الأمة الإسلامية ص 219).
ولقد وصف أسقف عكا الصَّليبي (جاك دوفيتري) الغزاة بقوله: وكان لا يُرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والزناة، والقتلة والخائنين والمهرِّجين، والرهبان الدُّعَّار والراهبات العواهر.
وقد ظهرت العديد من دلالات فقه المصالح والمفاسد خلال تلك الحملة، فقد جاء صلح الرملة بسبب ظروف عسكرية واقتصادية جعلت صلاح الدين يقبل به، مع علمه بأنَّ الموقف الفرنجي كان ضعيفاً، فقد كانت تقديرات رجاله ومستشاريه بأنَّ مغادرة القوى العسكرية الفرنجية إلى بلادهم هي من صالحهم، وإن بقاءهم سيؤدي إلى قدوم قوات أوروبية جديدة ستحدث الضرر بالمعسكر الإسلامي.
وإذا نظرنا في تاريخ المعاهدات والاتفاقات والهدن التي عقدها المسلمون مع الفرنج، كعماد الدين ونور الدين محمود زنكي وصلاح الدين نلاحظ: أنها كانت محددة الأهداف، وهو إعطاء فرصة للقوات الإسلامية للاستعداد، وزيادة إمكاناتها القتالية للقيام بجولة أو جولات قادمة ضدَّ الفرنج، ومعظم هذه الاتفاقات كانت بطلب من الفرنج أنفسهم، ولم يكن الزُّعماء المسلمون يتوانون عن عقدها؛ لما فيها من مصلحةٍ لهم، إمَّا لمحاربة إمارات أخرى لم تعقد معهم المعاهدات، أو للتَّسهيل على المسلمين، وحرية تنقُّلهم، وسفرهم بين مصر وبلاد الشام، ولتسهيل مهمة تنقل القوافل التجارية عبر المنطقة العربية، أو لتوفير الأمن ، والاطمئنان لقوافل الحجَّاج لأداء مناسك الحج دون خطرٍ (معاهدات الصلح والسلام بين المسلمين والفرنج، ص43).
المراجع:
1. الفتوح الإسلامية عبر التاريخ، د. عبد العزيز بن إبراهيم العمري، دار إشبيليا، الطبعة الأولى 1418 هـ 1997 م.
2. تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999 م.
3. معاهدات الصلح والسلاح بين المسلمين والفرنج.
4. صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، 2009م.