التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (26)
"صور الولاء والبراء في غزوة بدر"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
رسمت غزوة بدر لأجيال الأمَّة صوراً مشرقةً في الولاء والبراء، وجعلت خطّاً فاصلاً بين الحقِّ والباطل، فكانت الفرقان النَّفسيَّ والماديَّ، والمفاصلة التامَّة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسَّدت هذه المعاني، فعاشها الصَّحابة واقعاً مادِّياً وحقيقةً نفسيَّةً، وفيها تهاوت القيم الجاهليَّة، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه:
1 - كان أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة في صفِّ المسلمين، وكان أبوه عُتبة، وأخوه الوليد، وعمُّه شيبة في صفِّ المشركين، وقد قُتلوا جميعاً في المبارزة الأولى.
2 - كان أبو بكر الصِّدِّيق في صفِّ المسلمين، وكان ابنه عبد الرَّحمن في صفِّ المشركين.
3 - كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صفِّ المشركين، ثمَّ وقع أسيراً في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاريِّ: شُدَّ يدك به؛ فإنَّ أمَّه ذاتُ متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي! هذه وصيَّتك بي؟! فقال مصعب: إنَّه أخي دونك، تلك كانت حقائق، وليس مجرَّد كلمات: إنَّه أخي دونك (ابن كثير، 1988، ص 3/307)!. إنَّها القيم المطروحة لتقوم الإنسانيَّة على أساسها، فإذا العقيدة هي آصرةُ النَّسب والقرابة، وهي الرِّباط الاجتماعيُّ (الشامي، 1992، ص 213).
4 - كان شعار المسلمين في بدرٍ: (أحَد... أحَد) وهذا يعني: أنَّ القتال في سبيل عقيدةٍ تتمثَّل بالعبوديَّة للإله الواحد، فلا العصبيَّة ولا القبلية، ولا الأحقاد ولا الضَّغائن، ولا الثأر هو الباعث والمحرِّك؛ ولكنَّه الإيمان بالله وحدَه. ومن هذا المنطلق كانت صور الإيمان مختلفة المظاهر، واحدةً في مضمونها (الشامي، 1992، ص 213).
وللإيمان فقهٌ عظيمٌ، ومن هذا الفقه حينما هاجر رسول الله (ﷺ) إلى المدينة، وهاجر إليها كلُّ من استطاع ذلك من المسلمين في مكَّة، وحُبِس من كان مضطهداً، ولم يستطع ذلك، فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صفِّ المشركين؛ منهم: عبد الله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكِه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعليُّ بن أميَّة بن خلف، والعاصُ بن مُنبِّه. فأما عبد الله بن سهيل بن عمرو؛ فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله (ﷺ)، فشهد المعركةَ، وكان أحدَ الصَّحابة الذين نالوا هذا الشَّرف العظيم (الشامي، 1992، ص 217).
وأمَّا الآخرون؛ فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صفِّ المشركين، وقد أُصيبوا جميعاً (ابن هشام، د.ت، ص 2/253)، فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقِّهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، [البخاري (4596)].
قال ابن عباس: كان قومٌ من المسلمين أقاموا بمكَّة - وكانوا يَسْتَخْفُون بالإسلام -، كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا على الخروج، فنزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾، إنَّهم لم يُعْذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صفِّ المؤمنين، ولم يكن الفاصل كبيراً بين الصَّفين، ولن يُعدموا - لو أرادوا - الفرصة في الانتقال إلى رسول الله (ﷺ) كما فعل عبد الله بن سهيل (الشامي، 1992، ص 217).
إنَّ للإيمان مستلزمات تعبِّر عن صدقه وقوَّته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كلِّ القيم ممَّا سواه، فإذا كان كذلك، كان لصاحبه الأثرُ الفعَّال، والقوَّة الفاعلة في بناء الحقِّ والخير؛ الَّذي أراده الله، فإنَّ الإيمان يصبُغ السُّلوك، فإذا به يشعُّ من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السَّمْتِ والانفعال، ولذا لم يُعذَرِ الَّذين كانوا في صفِّ المشركين؛ لأنَّ الإيمان الَّذي ادَّعوه لم توجد له مستلزماتٌ، فلم يُـؤتِ ثمارَه (الشامي، 1992، ص 218).
وبهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم في بدرٍ مُثُلاً عليا لصدق الإيمان، الَّتي تدل على أنَّهم اثروا رضاء الله ورسوله (ﷺ) على حبِّ الوالد والولد، والأهل والعشيرة، فلا يعجبُ المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصَّادقة في قوله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
المراجع:
1. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 30-33.
2. ابن كثير، أبو الفداء بن كثير الدمشقي، (1988)، البداية والنِّهاية، الطَّبعة الأولى - 1408 هـ 1988 م، دار الرَّيان للتُّراث.
3. الشامي، أحمد، (1922)، مِنْ معين السِّيرة، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413 هـ 1992م.
4. ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، دار الفكر، بدون تاريخ.