الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(ابن باديس في مواجهة الفرنسة)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 161
بقلم: د.علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021



ظهرت حركة ابن باديس التي كان فيها وفياً لاتجاهاته وأفكاره، وظهر له أن الأمر يحتاج إلى خطة للمواجهة، خطة محكمة البناء، متعددة الأوجه، وإلى وسائل مادية وتنظيمية وبشرية، فصمم على الشروع في العمل، وانطلق في تنفيذ الخطة التي تمّ شرحها في هذا الكتاب، ونشر التعليم واهتم بتربية الأجيال وتثقيف الناس ونشر اللغة العربية وترقية تعليمها، وجعل من التعليم بالجامع الأخضر بقسنطينة مدخلاً جريئاً لتنفيذ هذا المشروع، فقد كان الجامع الأخضر بمثابة جامعة من ناحية ومعهد لتكوين المعلمين والأساتذة الذي يحتاج إليهم الجزائر في نهضتها الجديدة من ناحية أخرى، وتمكنت الكوادر التي ساهم في تعليمها مع جمعية العلماء من الاطلاع على تاريخها وتراثها وفهم دينها وكتاب ربها، وغرس ابن باديس محبة اللغة العربية في نفوس المتعلمين، وجعلهم يحسون بأنها جزء من كيانهم ورمز معبر عن شخصيتهم.
وانطلق ابن باديس مع الصعاب والعوائق هو ورفاقه وتلاميذه يعملون في المدارس الحرة في شتى أنحاء القطر الجزائري، ولقيت هذه الجهود المخلصة نجاحاً منقطع النظير، كما يصور ذلك ابن باديس حيث يقول:
الشعب الجزائري شعب مسلم طبعه الإسلام على تعظيم التعليم وحب التعليم واحترام المتعلمين، فلما دبت فيه الحياة وهب للنهوض، واندفع للتعلم اندفاعاً أدهش قوماً وحيّر اخرين، فقدم له علماؤه المسلمون قبساً من نور الإيمان الذي هو في حنايا ضلوعه، وناغوه بلغة دينه التي تتصل بروحه ليفهم ذلك الدين ويتذوق معانيه وتتشرب روحُه حقائقَه وأحكامه.. وإذا كنا نصرف أكثر جهدنا للتعليم العربي فذلك لأنها اللغة المهملة بين أبنائها المحرومة من ميزانية بلدها، المطاردة في عقر دارها، المغلقة مدارسها، المحارب القائمون على نشرها من أبنائها، اللهم إلا قليلاً نادراً على خوف يحتج به عند مقتضى الحال وإلا المدارس الرسمية الثلاث التي لا تقبل إلا عدداً محدوداً، فإلى المسؤولين الذين يقدّرون مسؤوليتهم نوجه نداءنا من أجل حرية ولغة الدين.
وهكذا نجد الإمام ابن باديس قد اتجه بكل جهده إلى العناية بالتعليم الإسلامي وتعليم اللغة العربية، وإنشاء المدارس في طول البلاد وعرضها في مدنها وقراها، وكان ابن باديس معاصراً في استعمال أداة التربية والتعليم، لتحقيق مقاصده، وقد أدرك قيمة المدرسة في خدمة الأهداف العقيدية الفكرية على المدى الطويل، وكان معاصراً في إدراك ما يحتاجه الشعب الجزائري بالذات في ذلك الوقت الذي يهدده خطر الابتلاع والاحتواء من قبل السلطة الاستعمارية.
إن حرص ابن باديس على التعليم عموماً، وعلى تعليم اللغة العربية وادابها خصوصاً ؛ كان الدافع إليه الحفاظ على الشخصية الجزائرية، وفطنت السلطة الاستعمارية للغاية التي كان يتوخاها من جهوده المتواصلة في مجال تعليم الناس لغتهم وأساسياً دينهم وتاريخهم، فجدّت في وضع العراقيل أمام تلك الجهود، ومن ذلك إلزام كل معلم باستصدار ترخيص بذلك وإلا تعرض للغرامة والسجن بمقتضى قانون 8 مارس سنة 1938م والقوانين التي سبقته.
وكانت قد عمدت من قبل إلى التضييق على ابن باديس في أحاديثه ومحاضراته وكتاباته. وقد كتب ابن باديس في جريدة البصائر يوم 8 أفريل 1938م مقالاً بعنوان أعداء الأمة الجزائرية يجمعون أمرهم ويدبرون كيدهم فيستصدرون من الحكومة قراراً وزارياً بعقوبات صارمة على التعليم، ليهدموا الشخصية الإسلامية من أصلها، وليقضوا عليها بالقضاء على مادة حياتها، علموا أن لا بقاء للإسلام إلا بتعليم عقائده وأخلاقه وادابه وأحكامه، وأن لا تعليم له إلا بتعليم لغته، فناصبوا تعليمها العداء، وتعرضوا لمن يتعاطى تعليمها بالمكروه والبلاء، فمضت سنوات في غلق المكاتب القرآنية ومكاتب التعليم الديني العربي والضن بالرخص واسترجاع بعضها حتى لم يبقوا منها إلا على أقل قليل، ولما رأوا تصميم الأمة على تعلم قرانها ودينها ولغة دينها، واستبسال كثير من المعلمين في القيام بواجبهم، واستمرارهم على التعليم رغم التهديد والوعيد ورغم الزجر والتغريم ؛ لما رأوا هذا كله سعوا سعيهم حتى استصدروا قانون العقاب الرهيب. لقد فهمت الأمة من هم المعلمون المقصودون، فهم معلمو القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام.. بينما غيرهم من معلمي اللغات والأديان المروجين للنصرانية في السهول والصحارى والجبال بين أبناء وبنات الإسلام في أمن وأمان، بل في تأييد بالقوة والمال. إلى أن يقول: سنمضي بعون الله في تعليم ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا وإننا على يقين من أن العاقبة ـ وإن طال البلاء ـ لنا، وأن النصر سيكون حليفنا، لأننا قد عرفنا إيماناً وشاهدنا عياناً أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودها ولو أجتمعوا كلهم على محاربتهما.
ويؤكد الشيخ البشير الإبراهيمي هذه الروح النضالية وهذا التصميم على خوض المعركة مهما كان الثمن فيقول: والأمة الجزائرية من أوفى الفروع العربية لهذه اللغة، وأكثرها براً بها وتمجيداً واعتزازاً لها إلى أن يقول: جاهدت هذه الأمة في سبيل لغتها جهاداً متواصلاً كان من ثمرات النصر فيه هذه النهضة التعليمية التي ولدت الكتاب والشعراء والخطباء والوعاظ، وهي نهضة لم تعتمد الأمة فيها إلا ما في نفسها من حيوية موروثة، ولم تلتمس فيها عوناً من أجنبي، بل لم تلق من الأجنبي إلا المعارضة الحادة والتثبيط القاتل، وكان من نتائج هذه النهضة إلحاح الأمة في المطالبة بمظهر سياسي وطني للغتها،وهي أن تكون رسمية في المدارس والدواوين والأقلام.. والأحكام، وأن يعترف لها بمكانتها في وطنها وأن تمحى عنها تلك الوصمة التي لم تسبّ بأبشع منها وهي أنها أجنبية في دارها.
إن هذه العراقيل التي كانت تضعها السلطة الفرنسية أمام جمعية العلماء والإمام ابن باديس خاصة ؛ لم تفت في عضدهم، ولم تثنهم عن عزمهم، بل زادتهم قوة لأنهم تأكدوا أن عملهم أصبح يخيف الحكام ويقلقهم، وهذا دليل على أنهم في الاتجاه السليم.
ويشخص البشير الإبراهيمي هذه الروح المعنوية فيقول: بدأت دعوة المعلمين إلى المحاكم، ونقدر أنها ستعم، وأن أول المطر قطرة، وأن الأحكام ستكون بالغرامة والسجن، ولكننا سندخل هذه المحاكم برؤوس مرتفعة. وهو هنا يتحدث بلسان جميع معلمي اللغة العربية، ونستقبل هذه الأحكام بنفوس مطمئنة بالإيمان، وسندخل السجون بأعين قريرة، وسنلتقي بإخواننا المجرمين في مجالس الأحكام ومقاعد الاتهام. وحسبنا شرفاً أن يكون ذلك في سبيل ديننا ولغتنا، وحسبنا فخراً أن تكون التهمة «فتح مدرسة دينية وقرانية بدون رخصة» وحسب الاستعمار ديمقراطية أن يحاكم معلمي العربية والإسلام ويسجنهم على التعليم، كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الإجرام في محكمة واحدة وسجن واحد.

 

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022