الوطن ولوطنية في فكر ابن باديس
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 164
بقلم: د.علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021م
الجزائر بالنسبة إلى ابن باديس هي وطنه الخاص، وهي عنده ليست إقليماً جغرافياً فحسب، ولكنه كيان حي من البشر الذين يعيشون فيه وتؤلف بينهم روابط الدين واللغة والتاريخ، يقول في الشطر الثاني من السؤال «لمن أعيش» أعيش للإسلام والجزائر.
أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص ـ وتفرض عليه تلك الروابط لأجله ـ كجزء منه ـ فروضاً خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة، وكما أني كلما أردت أن أعمل عملاً وجدتني في حاجة إليه، إلى رجاله وإلى ماله، وإلى آلامه وآماله وكذلك أجدني أعمل ـ إذا عملت ـ قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه وهكذا.
هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال، وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لابد أن يجد لنفسه مع وطنه الخاص مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال.
نعم، إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطاناً أخرى عزيزة علينا هي دائماً منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها وأوصلنا إليها النفع والخير، عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص. وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ما هما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد لغة وعقيدة واداباً وأخلاقاً وتاريخاً ومصلحة، ثم الوطن الغربي والإسلامي، ثم وطن الإنسانية العالم ولا نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر.
وما مثلنا في وطننا الخاص ـ وكل ذي وطن خاص ـ إلا كمثل جماعة ذوي بيوت في قرية واحدة، فبخدمة كل واحد لبيته لتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية، ومن ضيع بيته فهو لما سواها أضيع، وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط، فنحن إذا كنا نخدم الجزائر ؛ فلسنا نخدمها على حساب غيرها، ولا للإضرار بسواها ـ معاذ الله ـ ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان، الأقرب فالأقرب، هذا أيها الإخوان مرادي بقولي: إنني أعيش للجزائر.
ثم ختم إجابته بقوله: والان أيها الإخوان وقد فهمتموني وعرفتم سمو فكرتي «أعيش للإسلام والجزائر» فهل تعيشون مثلي للإسلام والجزائر؟
وكان الجواب بالإجماع: نعم نعم.
الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء:
بهاتين الجملتين منذ نيف وعشر سنين توجنا جريدة «المنتقد» الشهيرة وجعلناهما شعاراً لها تحمله في رأس كل عدد منها، هذا أيام كانت كلمة الوطن والوطنية كلمة إجرامية لا يستطيع أحد أن ينطق بها، وقليل جداً من يشعر بمعناها، وإن كان ذلك المعنى دفيناً في كوامن النفوس، ككل غريزة من غرائزها، لا سيما في أمة تنسب إلى العروبة وتدين بالإسلام مثل الأمة الجزائرية ذات التاريخ المجيد.
أما اليوم وقد صارت كلمة الوطن والوطنية سهلة على كل لسان، وقد يقولها قوم ولا يفقهون معناها، وقد يقولها اخرون بألسنتهم ولا يستطيعون أن ينتسبوا لها في المكتوب من رسمياتهم، ويفزع منها من يتخيلون فيها ما يعرفون في وطنياتهم، وينكرها اخرون زعماً منهم أنها ضد إنسانياتهم وعمومياتهم، فكان حقاً لقراء «الشهاب» علينا أن نقول لهم كلمة مختصرة نبين بها حقيقة هذه الكلمة وأقسامها وأقسام الناس إزاءها، ومن أي قسم نحن من تلك الأقسام؟
من نواميس الخليقة حب الذات للمحافظة على البقاء، وفي البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير، فإذا تقدم شيئاً في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صوره بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ؛ شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته، ولما فيه ـ كما تقدم ـ من غريزة حب الذات وطلب البقاء وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية.
فإذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية، وكانت الأرض كلها وطناً له وهذا وطنه الأكبر. هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه، فلا يعرف ولا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف وأحب الوطن الصغير. والناس إزاء هذه الحقيقة أربعة أقسام:
ـ قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة، وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم، كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان، وهم في الغالب لا يكون منهم خير حتى لأقاربهم وأهل بيتهم.
ـ وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعملون في سبيله كل ما يرون فيه خيره ونفعه ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى، بل يعملون دائماً على امتصاص دماء الأمم والتوسع في الملك، لا تردهم إلا القوة، وهؤلاء شر وبلاء على غير أممهم، بل وعلى أممهم فهم مصيبة البشرية جمعاء.
ـ وقسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر، وأنكروا وطنيات الأمم كما أنكروا أديانهم ـ وعدوها مفرقة بين البشر. وهؤلاء عاكسوا الطبيعة جملة وما عرفته البشرية منذ الاف السنين. ودلائل الفشل على تجربتهم حيث أجروا تجربتهم ولا تكاد تخفى.
ـ وقسم اعترف بهذه الوطنيات كلها ونزلها منازل غير عادية ولا معدو عليها، وترتيبها الطبيعي في تدرجها كل واحدة منها مبنية على ما قبلها ودعامة لما بعدها. وامن ـ هذا القسم ـ بأن الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في بيته ووطنه الصغير، وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير، ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر. وهذا الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة. إذ هي التي تحافظ على الأسرة بجميع أجناسها وأديانها.
فهي تخاطب البشرية كلها في جميع أجناسها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً *} [الإسراء : 70]. وتخاطبها في جميع أديانها بقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ *} [الكافرون : 6]. وتخاطب الأمم والأوطان بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [الأنفال : 61]. وبقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ *} [البقرة : 194].
وهذه هي وطنيتنا معشر المسلمين الجزائريين الأفارقة ووطنية كل مسلم صادق في إسلامه ووطنيته، وقد أعلناها يوم قلنا على رأس جريدة «المنتقد»: الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء، وسرنا على مقتضاها إلى اليوم في كل ما قلنا وكتبنا، وسنبقى عليها ـ ككل مسلم جزائري ـ حتى نلقى الله إن شاء الله.
أشعـــــب الجــــــــزائر روحي الفدا لما فيــــــــــك من عـــــــــــزة عربيــــــــــــــة
بنيت على الدين أركانــــــــــــــها فكانت سلاماً على البشرية
وكتلخيص لفكرة ابن باديس في موضوع الوطن والوطنية نورد التعليق التالي للأستاذ الميلي:
فابن باديس في هذا النص يفسر ما يعنيه بالوطنية الإسلامية، فهو لا يتحدث عن الوطن الإسلامي الذي نجده عند كثير من علماء الدين، ولكنه يتحدث عن وطن عربي إسلامي، ومعنى ذلك أنه لا يعتبر الإسلام مرادفاً للقومية، ولكنه يعتبره من حيث علاقته بالوطن عنصراً أساسياً في تكوين الوطن الجزائري أو الوطن المغربي أو الوطن العربي، كما يعتبر الإسلام من حيث علاقته بالإنسانية نوعاً من «الهومانيزم».
ويجب أن نشير هنا إلى حقيقة، وهي أن ابن باديس يمزج بين الجزائر والعروبة والإسلام، فالجزائري هو عربي مسلم، وهو إنسان قبل كل شيء.
ويؤكد ابن باديس هذا المعنى في العدد الأول من جريدة المنتقد حين يقول: إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلاًّ، ونحب وطننا ونعتبره جزءاً، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها، ونبغض من يبغض الإنسانية ويظلمها، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائري وتحبيب بنيه فيه، ونخلص لكل من يخلص له، ونناوأئ كل من يناوئه من بنيه وغير بنيه.
إن ابن باديس كان يعمل على تأكيد عروبة الجزائر وإسلامها وهويتها الوطنية وانتمائها الحضاري «كأمة لها تاريخ حافل» لا يجهله إلا الجاحدون، تلك القضية التي خاض من أجلها معارك سياسية وفكرية ضد أطراف عديدة ضد حكام فرنسا وساستها وصحافييها من جهة وضد النخبة الجزائرية المفرنسة من جهة أخرى. تلك النخبة التي انساقت بسذاجة إلى أطروحات الفرنسيين التي تنكر وجود الكيان الجزائري، وتعتبر العرب الموجودين في الجزائر عناصر دخيلة قذفت بهم موجة الفتح الإسلامي الذي يعدونه غزواً، كما قذفت موجات الغزو الأخرى بعناصر شتى من مختلف الأجناس.
ولهذا اعتبر ابن باديس أن الجهاد من أجل الجزائر والذود عن الشخصية الجزائرية باللسان والفكر والمواقف ودحض كل الشبهات والأكاذيب واجب ديني ووطني، يجب أن يضطلع به كل المؤمنين بقضية الجزائر وكل العلماء والمفكرين الشرفاء والنزهاء، والذين يستلهمون دروس التاريخ ويستنطقون الأحداث الحضارية.
إن ابن باديس استطاع أن يقنع كل من كان يبحث عن الحقيقة أن الجزائر كيان إسلامي وثقافي وحضاري، وليست مجرد قطعة جغرافية تقترب أو تبتعد عن فرنسا، وليست فقط تجمع بشري يعيش على هذه الأرض من غير أن تكون له روابط تربط بين عناصره، ومن ثم لا يمكن إلحاقه بفرنسا، لأن كل المبررات التي استند عليها دعاة الاندماج باطلة، وإنما أوهام بعيدة كل البعد عن الواقع والحقائق.
لقد دافع ابن باديس عن الجزائر دفاع الأبطال في معارك الفكر والثقافة والتاريخ والحضارة والعقائد، لقد أثبت بالبراهين أن الجزائر لها تاريخ عظيم وهوية مستمدة من الإسلام وشعب رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com