الجمعة

1446-10-27

|

2025-4-25

(ضرورة رعاية ذوي العاهات والأمراض المزمنة في المجتمع المسلم)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: التاسعة والستون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1443 ه/ نوفمبر 2021

نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولما يجبه عن سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة(1).

فنزل قول الله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ (عبس، آية : 1 ـ 11).

لقد باشر المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد ما تلقى العتاب من ربه في سورة عبس إلى توجيه أنظار الأمة لأهمية رعاية هذه الشريحة من المجتمع فكان على سبيل المثال، يعهد لعبد الله بن أم مكتوم الذي عاتبه فيه ربه ليصلي بالناس أثناء غيابه عن المدينة المنورة في بعض غزواته(2).

وكان ابن عباس يؤم الناس بعدما فقد بصره وروى البخاري والنسائي أيضاً أن عتبة بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى(3).

وبعد تعددت صور توجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذه الشريحة "العميان" وللأمة، فكان دوماً يعرض على رفع معنوياتها ويحثها على العمل من خلال تعظيم الأجر لها إذا صبرت واحتسبت ومارست دورها في الحياة دون أن تجعل من هذه العاهة عائقاً وعقبة أمام أخذها لدورها المناسب في المجتمع، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من فقد إحدى عينيه أو كلاهما بالجنة، فقال: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبته فصبر عوضته عنهما الجنة»(4).

وكعادة الصحابة الكرام ما إن رأوا سلوك النبي صلى الله عليه وسلم تجاه هذه الفئة الاجتماعية حتى بدأوا يتسابقون في مد يد العون لها، فقد روى الإمام الأوزاعي رحمه الله عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج في سواد الليل فرآه الصحابي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟، قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، قال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرت عمر تتبّع(5)، وكان عمر رضي الله عنه شديد البر لأصحاب العاهات، خاصة العميان، وسار على هذا النهج حكام المسلمين وأهل الخير في الأمة فها هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك "86 ـ 96هـ /705 ـ 715م" يصدر مرسوماً حضارياً راقياً يعبّر عن احترامه لهذه الفئات، فقد أعلن بأن رعاية الفئات الخاصة في المجتمع هي من واجبات الدولة، لذا نجده يأمر بتخصيص قائد لكل أعمى يسهر على راحته، فضلاً عن راتب شهري يغطي نفقاته((6)، كما ثبت عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أمصار الشام: أن ارفعوا إلى كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج، أو من به زمانة "داء مزمن" يحول بينه وبين القيام إلى الصلاة فرفعوا إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمن بخادم(7).

ويروي الرحالة المسلم الشهير ابن بطوطة في رحلته أنه شاهد في بغداد جماعة من العميان يؤمر لكل واحد منهم بكسوة وغلام يقوده ونفقة تجري عليه(?.

ولعل تسابق أهل الخير حكاماً ومحكومين على وقف الأوقاف لصالح هذه الفئات الاجتماعية خير شاهد على نضج الحس الاجتماعي للأمة الإسلامية وسمو حضارتها إذ يندر أن نرى بقعة معمورة كانت تفيء بظلال الحضارة الإسلامية لا يوجد فيها وقف لأصحاب العاهات(9).

وقد خصصت الدولة الإسلامية مستشفيات لرعاية المحتاجين، وأفردت غرفاً خاصة في المستشفيات العامة لمداواتهم سريرياً ونفسياً(10)، كما ذكر المؤرخون أنه جاء في نفقات الخليفة العباسي المعتضد بالله أنه خصص لمستشفى الصاعدي الذي كان قد أسسه القائد صاعد بن مخلد أموالاً للنفقة عليه، لأثمان الأدوية والأطعمة والأشربة لخدمة المغلوبين على عقولهم(11).

وجاء في وقف أحد المستشفيات المخصصة للأمراض العقلية أن: كل مجنون خصص له خادمان يخدمانه فينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد ثم يلبسانه ثياباً نظيفة ثم يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في الآخر الأصوات الجميلة(12).

وقد انتشرت مستشفيات المجانين في كل المدن الإسلامية في بغداد والقاهرة ودمشق وفاس وغيرها، وفي العصر المريني اهتم أبو يوسف يعقوب عبد الحق "656 ـ 685هـ / 1258 ـ 1286م" برعاية المجانين، فقد كان ـ حسب ما ورد عن ابن أبي زرع ـ كثير الخير، والرأفة على الضعفاء والمساكين، صنع المارستان للمرضى والمجانين، وأجرى عليهم النفقات، وجميع ما يحتاجون إليه من الأغذية والأشربة، وأمر بتفقد أحوالهم في الصباح والمساء(13).

واستمرت عناية الدولة الإسلامية المتعاقبة بالمجانين حتى فترة متأخرة من الدولة العثمانية، فنرى على سبيل المثال بمارستان السلطان العثماني سليمان بن السلطان سليم عاشر سلاطين آل عثمان "ت هـ 22 صفر 974 هـ / 1566م" في القسطنطنية، قد خصص لمداواة المرضى وتربية المجانين بأنواع الأشربة والأطعمة والمعاجين(14)، علماً بأنه كان يخصص لكل مجنون في معظم المستشفيات مرافقاً خاصاً يأخذه باللين والرفق ويصحبه بين الزهور والرياض الخضراء، ويسمعه ترتيلاً هادئاً من آيات الذكر الحكيم(15).

وتؤكد المصادر أن المسلمين أدركو ما للترويح والتسلية من أثر في إدخال البهجة على المرضى والمصابين بالأمراض النفسية، فكان في بعض المستشفيات على سبيل المثال فرقاً للإنشاد تقوم بإنشاد الأناشيد الجميلة للترفيه عن المرضى الذين لا يستطيعون النوم(16).

وفي بعض الأحيان كان يعزل المؤرقين في قاعات منفردة عن بقية المرضى حيث تشنف آذانهم بالأصوات الندية فضلاً عن تسليتهم بالأقاصيص التي يلقيها عليهم القصاص، إلى جانب مشاهدة بعض التمثيليات المضحكة، وكان أيضاً المؤذنون في المسجد الملاصق للمستشفى يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين، وينشدون الأذكار بأصوات ندية من أجل تخفيف الألم عن المرضى الذين يضجرهم السهر وطول الوقت(17).

وكان المسلمون يهتمون بأثر العوامل النفسية في معالجة المرضى، وخاصة المصابين بالأمراض النفسية، لذا نجد أهل الخير والإحسان يبادرون إلى وقف الأوقاف لخدمة هذا الهدف الإنساني السامي، فقد أوقف أحد المحسنين في مدينة طرابلس اللبنانية وقفاً يخصص ريعه لتوظيف اثنين يمران بالمستشفيات يومياً فيتحدثان بجانب المرضى حديثاً خافتاً ليسمعه المريض بما يوحي له بتحسن حالته واحمرار وجهه وبريق عينيه(18). وكما هو معلوم فقد ثبت علمياً اليوم بأن روح المعنوية لها أثر كبير على حالة المريض، فالمريض الذي يتمتع بروح معنوية عالية يتعافى أسرع من المريض الذي يتصف بضعف المعنوية(19).

وأما أصحاب الأمراض المزمنة والخطيرة، ممن ليس لهم أقارب يقومون بأمرهم، فقد وجدت الكثير من الأوقاف في مختلف المدن الإسلامية لخدمة هذه الشريحة الاجتماعية فقد خصص الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على سبيل المثال مصحات لمرض الجذام لرعايتهم والإنفاق عليهم ومنعهم من الاحتكاك بالناس(20).

وأوقف في تونس أبو فارس عبد العزيز بن السلطان أبي العباس الحفصي " 796هـ / 1393م" بيمارستان للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين وأوقف على ذلك أوقافاً كثيرة(21).

وكان الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، يفرض للزمني من بيت مال المسلمين فريضة الصحيح لكفاية حاجته، وقد بدأ لأحد ولاة عمر في دمشق ألا يكون لهؤلاء فريضة كاملة كفريضة الصحيح، فقال في رده على الخليفة: الزمن ينبغي أن يحسن إليه، فأما أن يأخذ فريضة رجل صحيح فلا، فكتب عمر بن عبد العزيز: إذا أتاك كتابي هذا فلا تعنت الناس ولا تعسرهم ولا تشق عليهم(22)، ويستند عمر بن عبد العزيز في فعله هذا على ما كان في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي كتب إلى عامله المعين على مصر الأشتر النخعي بوصية بأن يعتني بأهل الزمانة والمرضى، حيث قال: ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، وأحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه ولا يشغلنك عنهم بطر ولا تصعر خدك لهم وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعاية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه(23).

وتعهد أهل اليتيم، وذوي الرمة في السن ممن لا حيلة له.. ثم احتمل الخرق منهم والعيي وانح عنهم الضيق والأنف يبسط عليك الله بذلك أكناف رحمته(24) إن التعاليم الإسلامية قدمت برنامجاً شمولياً لرعاية الفئات الخاصة، فقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية واضحة جلية في إلزام الأمة برعايتهم والأخذ بيدهم ودمجهم في المجتمع.

مراجع الحلقة التاسعة والستون:

([1]) السيرة النبوية للصلابي (1/ 239).

(2) البداية والنهاية لابن كثير (3/ 260).

(3) نيل الأوطار (3/ 160).

(4) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 5221.

(5) صفة الصفوة لابن الجوزي (1/ 107).

(6) الخطط (2/ 405) للمقريزي.

(7) سيرة عمر ابن عبد العزيز لابن الجوزي، ص: 154 ـ 155.

(8 رحلة ابن بطوطة، ص: 107.

(9) رعاية الفئات الخاصة، ص: 61.

(0[1]) الخطط والآثار للمقريزي (2/ 405).

(1[1]) الوقف ودوره في التنمية عبد الستار الهيتي، رعاية الفئات، ص: 70.

(2[1]) خطط الشام/ محمد كرد علي (6/ 165، 166).

(3[1]) روض القرطاس لابن أبي زرع، ص: 298.

(4[1]) من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، ص: 112.

(5[1]) المصدر نفسه، ص: 112. رعاية الفئات الخاصة، ص: 72.

(6[1]) من روائع حضارتنا، ص: 112.

(7[1]) المصدر نفسه، ص: 112.

(8[1]) المصدر نفسه، ص: 113.

(9[1]) رعاية الفئات الخاصة، ص: 73.

(20) تاريخ البيمارستانات، أحمد عيسى بك، ص: 278.

(21) تاريخ البيمارستانات، ص: 280.

(22) الطبقات الكبرى (5/ 380).

(23) شرح نهج البلاغة نقلاً عن رعاية الفئات الخاصة، ص: 75.

(24) رعاية الفئات الخاصة، ص: 75.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022