(ضرورة رعاية اللقطاء في الدولة الحديثة المسلمة):
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثامنة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
نص الفقهاء على أن رعاية اللقيط واجب مقدس على الأمة، فإن لم تقم به وقعت في الإثم، ولذا قالوا: إن من وجد صغيراً منبوذاً، ففرض على من بحضرته أن يقوم به.. ولا إثم أعظم من إثم من أضاع نسمة ولا ذنب لها حتى تموت جوعاً أو برداً أو تأكلها الكلاب وهو قاتل نفس عمداً لا شك(1)، وإن امتنع أهل القرية أو البلدة على أن ينفقوا على اللقيط وجب على الإمام قتالهم(2). لأنهم تقاعصوا عن القيام بواجبهم الاجتماعي المقدس الذي كلفهم به الشارع، فالقاعدة تقول: إنه من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، يقول الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة، آية : 32).
إن إهمال هذه الفئة الاجتماعية "اللقطاء" يعني فتح باب مفسدة عظيمة على المجتمع ومخالفة صريح لروح الإسلام التي جاءت رحمة للعالمين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء، آية : 107). وصح عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله : «من لا يَرحم لا يُرحم»(3).
وعليه فقد نص الفقهاء على إلزام الدولة بالإنفاق على اللقيط، وإن عز ذلك، كلفت مجموعة تعاونية بمساعدة الدولة للإشراف على الإنفاق عليه(4).
وكان عمر بن الخطاب الخليفة الراشد 13 ـ 23هـ /634 ـ 643م كان من أوائل حكام الدولة الإسلامية الذين خصصوا أموالاً من بيت مال المسلمين لرعاية اللقطاء وتوفير الجو الأسري المناسب لهم، فقد روى الصحابي سنين أبو جميلة(5)، قال: أخذت منبوذاً على عهد عمر رضي الله عنه، فذكره عريف لعمر رضي الله عنه فأرسل إليّ فدعاني والعريف عنده فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: وجدت نفساً بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيه، فقال عمر: هو حر، ولاؤه لك، وعلينا رضاعته(6).
وفي حادثة أخرى رفع لقيط إلى الفاروق رضي الله عنه أثناء خلافته، فدفعه إلى امرأة صالحة لتتولى إرضاعه وتربيته مقابل أجر يدفع لها من بيت مال المسلمين وفي نفس الوقت قام بالتحريات اللازمة حتى تعرَّف على أمه، التي اعترفت للخليفة بأنه ثمرة زنا أجبرت عليه مما جعلها تقتل الشاب الذي اغتصبها، ومن ثم طرح هذا الطفل على قارعة الطريق(7).
وعندما تعددت حالات وجود اللقطاء استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة في نفقة اللقيط، فقالوا: لم يكن له مال وجبت نفقته من بيت مال المسلمين(8.
فكان رضي الله عنه إذا أتى بلقيط فرض له مائة درهم وفرض لوليه رزق يصله كل شهر، وجعل رضاعته، ونفقته وما يلزمه من بيت المال، على أن يزيد عطاؤه سنة فسنة، وكان يوصي بهم خيراً(9)، وقد سار الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه على هذا النهج(10).
وحفظت الشريعة الإسلامية حقوق هذه الشريحة في الحرية والكرامة، والرعاية والتربية وحق النفقة، بل إن الدول الإسلامية كالعباسية، والأيوبية، والمماليك والعثمانية، كانت تشتري هؤلاء الأطفال من أسواق الرقيق من مختلف العالم، ومن ثم تربيتهم تربية عسكرية إسلامية، حولتهم إلى حراس للحضارة الإسلامية بعدما أصبحوا جنوداً مدربين يؤمنون بالإسلام ديناً وعقيدة، ومنهج حياة(11).
مراجع الحلقة الثامنة والستون
([1]) المحلى لابن حزم (5/ 273).
(2) المجموع للنووي (15/ 291).
(3) أخرجه البخاري في الأدب، رقم: 2318.
(4) رعاية الفئات الخاصة، سلامة الهرفي ص: 42.
(5) من الصحابة الذين شهدوا حجة الوداع وروا عن أبي بكر وعمر وروى عنه الإمام الزهري.
(6) رعاية الفئات الخاصة، ص: 49.
(7) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص: 78 إلى 79.
(8 المجموع النووي (15 / 288).
(9) أخبار عمر، علي طنطاوي، ص: 124 ـ 125.
(0[1]) الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، ص: 339.
(1[1]) رعاية الفئات الخاصة، ص: 50.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com