الجمعة

1446-10-27

|

2025-4-25

(رعاية الأرامل في الدولة الحديثة المسلمة)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: السادسة والستون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021

جعلت الشريعة الإسلامية من ضمن أولوياتها المحافظة على كرامة هذه الشريحة الاجتماعية "الأرامل" فتكفلت بتغير نظرة المجتمع إليها فضلاً عن توفير العيش الكريم لها، وإحاطتها بالعطف والحنان للتخفيف من مصيبتها بفقد زوجها، بل ذهبت إلى أبعد من هذا، حين جعلت من خدمة هذه الشريحة قربة من القربات العظيمة تتساوى مع أجر المجاهد في سبيل الله، وأجر من واظب على قيام الليل وصيام النهار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة(1) والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل»(2).
ولم يكتف المصطفى صلى الله عليه وسلم بالتوجيه القولي، بل قام بكفالة بعض أبناء وأرامل المسلمين الذين استشهدوا في حركة الجهاد، فقد جاء في البخاري ومسند الإمام أحمد أنه بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة جاءت زوجته أسماء بنت عميس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بولديهما عبد الله ومحمد ابني جعفر، وجعلت تذكر ترملها ويتم ابنيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة»(3).
وانطلاقاً من هذا التوجيه النبوي الشريف أخذت الأمة تعمل على إيجاد آليات لتجسيد رعاية الأرامل في الواقع الملموس من خلال حركة اجتماعية مؤسسية تقوم على مبدأ التكافل الاجتماعي، لمساعدة هذه الشريحة في المجتمع، وقد كان حكام الدولة الإسلامية على رأس الرواد في مباشرة هذا العمل الاجتماعي السامي، فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطط قبل اغتياله لتقديم إعانة دائمة للأرامل، إلا أن استشهاده حال دون تحقيقه لهذا الهدف في حياته، فعن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة يقول: لئن سلمني الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً(4).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد بدأ بتقديم المعونات للأرامل في المدينة المنورة، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغاراً والله ما ينضجون كراعاً ولا لهم زرع ولا ضرع وخشيت أن تأكلهم الضباع وأنا بنت خفاف ابن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارين ملأها طعاماً وحمل بينها نفقة وثياباً، ثم ناولها خطامه ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها، قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها حاصرا حصناً زماناً ففتحاه(5).
ويعد الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه أول من أوقف وقفاً لصالح الأرامل والمطلقات من بناته، فقد جاء في صيغة وقفه لبعض دوره: وللمردودة من بناته أن تسكن غير مُضِرَّةٍ، ولا مُضَرٍّ بها(6).
وكان القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي يدرك بأن توفير الأمن الاجتماعي لهذه الشريحة "الأرامل" من العوامل المهمة لتحصين الجبهة الداخلية، وبالتالي تحقيق النصر في الجبهات الخارجية، فعندما يعلم الجندي أن زوجه وأطفاله بعد استشهاده سوف يعيشون حياة كريمة، يزداد حماساً في جهاده، وتقل توتراته النفسية ـ التي هي من طبيعة النفس البشرية ـ حين يتوجه لجبهات القتال، لذا نجد صلاح الدين يوقف الأوقاف الكثيرة لخدمة الأرامل والأيتام(7)، والتي منها على سبيل المثال: قرية نسترو بين دمياط والإسكندرية والتي كانت قيمة ضمانها خمسون ألف دينار(8.
وقد تطور العمل الجماعي في الحضارة الإسلامية لخدمة هذه الشريحة الاجتماعية إلى درجة إنشاء مؤسسات اجتماعية متخصصة لرعاية الأرامل والنساء المطلقات، أو اللواتي هجرن من قبل أزواجهن، أو اللواتي تقدم بهن السن وليس لهن من ينفق عليهن وكانت رائدة هذه اللمسات الإنسانية السيدة تذكار خاتون ابنة الظاهر بيبرس، التي شيدت في عام 684هـ /1258م رباط البغدادية للشيخة الفاضلة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية، وأنزلت فيها مجموعة من النساء، وظل هذا الرباط قائماً إلى زمن المؤرخ المقريزي 766هـ ـ 845هـ /1441م الذي أوضح بأن لهذا الرباط شيخة تعظ النساء وتفقههن، على أن أهم من هذا قوله: وأدركنا هذا الرباط، وتودع فيه النساء اللاتي طلقن أو هجرن، حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن، كما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات.. حتى أن خادمة الفقيرات.. تؤدب من خرج على الطريق بما تراه(9).
ويبدو أن فكرة إنشاء مؤسسة خاصة لرعاية النساء من الفئات الخاصة بمصطلح اليوم انتشرت من مختلف أرجاء الدولة الإسلامية على مر فترات التاريخ الإسلامي، فكان هناك على سبيل المثال رباطاً مخصصاً للنساء والعجائز في بغداد ومثله في مصر للأرامل والعجائز، فضلاً عن النساء المطلقات وفي القرافة بمصر عدة دور يقال للدار منها رباط لإقامة العجائز والأرامل والمنقطعات، وكانت لها مرتبات للصرف على المقيمات بها، وكان لهن مجالس وعظ مشهورة، وكان يختار لهذه الربط سيدات مثقفات لتهذيب وتعليم المقيمات فيه، منهن الشيخة زينب بنت عباس البغدادية والتي كانت تحضر مجالس ابن تيمية وكان يستعد لها لكثرة مسائلها(10).
ويذكر أنه كان في مدينة فاس ملجأ خاصاً بالنساء الشريفات الفقيرات، ويتكون هذا الملجأ من دارين تقع إحداهما من الماشطين قرب ساحة الصفارين، والأخرى في وادي الرشاشة جوار دار عديل.
وقد استمرت العناية بهذه الفئة من المجتمع في أحلك الفترات التي كانت تمر بها الحضارة الإسلامية، فها هو آخر خلفاء الدولة العباسية المستعصم والذي قتل على يد التتار سنة 656هـ / 1258م يوقف داراً لرعاية النساء المسنات رغم ما كان يتهدد الدولة من مخاطر التتار(11).
وهكذا تبلورت التوجيهات النبوية بشأن هذه الشريحة الاجتماعية إلى عمل اجتماعي مؤسسي(12).

مراجع الحلقة السادسة والستون
( ) الأرملة: المرأة التي فقدت زوجها.
(2) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 5660.
(3) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 5660.
(4) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 3497.
(5) فتح الباري (7/ 510).
(6) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 165).
(7) رعاية الفئات الخاصة، سلامة الهرفي ص: 20.
(8 المرأة والمؤسسات الاجتماعية في الحضارة العربية، سعيد عبد الفتاح عاشور ص: 77.
(9) الخطط للمقريزي (2/ 428).
(0 ) رعاية الفئات الخاصة، ص: 22.
(1 ) المصدر نفسه، ص: 23.
(2 ) المصدر نفسه، ص: 23.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022