(رعاية كبار السن في الدولة الحديثة المسلمة)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الخامسة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
ـ قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير﴾(الروم، آية : 54).
ـ وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (غافر، آية : 67).
وأما الشيخوخة نفسها فإن القرآن الكريم يورد طرفاً من صفاتها في هذه الآيات الكريمة:
ـ قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام الذي يذكر وهن عظمه، وشيب شعره في شيخوخته : ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ (مريم، آية : 4).
ـ وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام الذي يخشى أن يوصف في شيخوخته بالتفنيد وهو الخرف: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ (يوسف، آية : 94). والتفنيد نفسه مشار إليه في القرآن الكريم باعتباره ممّا يطرأ في الكبر، قال تعالى: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ (الحج، آية : 5).
ـ والضعف العام في البدن مذكور في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ (يس، آية : 68).
ـ وعدم القدرة على العمل اضطرت شعيباً عليه السلام أن ينيب عنه ابنتيه للسُّقيا، فحكى القرآن الكريم قولهما: ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾(القصص، آية: 23).
ـ والعجز عن الإيلاء حكاه القرآن الكريم على لسان زوج إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ (هود، آية : 72).
وبالإضافة إلى إيجاد هذا الوعي فإن التوجيه النبوي يتضمن الحض على العمل بما يناسب تطورات الحياة وذلك بالمبادرة إلى الأعمال النافعة استفادة من الفترة التي يبلغ فيها الإنسان "أشده" لمصلحة فترة "التنكيس، والضعف، والشيبة". قال صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مُجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ»(1)، والعمارة وطول العمر ليس مذمومين، إذا أكرم الله المُعمّر بالصحة والقدرة على العمل الصالح، قال صلى الله عليه وسلم: خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله(2)، ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا».
وأوصى الشيخ الكبير أن يقول: «اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي»(3).
أ ـ حقوق للمسنين على أبنائهم وذويهم ومعارفهم، وكذلك على المجتمع: متمثلاً في ولي الأمر في الأمور التي تحِق للمسنين وليس في مقدورهم ولا في مقدور أهليهم أن يوفروها لهم، ومن هذه الحقوق:
*ـ حقوق أدبية في الاحترام والبر والمودة، لقوله تعالى فيما يجب على الأبناء: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (العنكبوت، آية : 8.
وقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾(الإسراء، آية : 23).
وقال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة»(4). وأما الأقارب من غير الأبناء فبرهم للمسنين هو من صلة الأرحام لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَصِل رحمه»(5).
وأما غير هؤلاء ممن لا تربطهم بالمسنين إلا صلة الإسلام والإنسانية، فواجب عليهم أيضاً بذل المودة والإكرام والتوقير، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم»(6)، وقوله: «ليس منَّا من لا يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا»(7).
*ـ حقوق اجتماعية: في الزيارة والمؤانسة وقضاء حاجاتهم وتفقد أحوالهم، خاصة عند حصول المرض والضعف عن الحركة، وقد كان ضمن الثلاثة الذين سُد عليهم الغار، ففرّج الله عنهم لأعمالهم الصالحة رجل سهر الليل كله ليقدم لوالديه شراب الغبوق قبل أن يسمح لنفسه أن ينال منه شيئاً.
*ـ حقوق مادية: في النفقة على المسنين من قبل أبنائهم بصفة أساسية، في الصحة والمرض، والإعسار إلى نهاية العمر، وقد نص الفقهاء على أن النفقة التي تجب على الأبناء نحو والديهم المسنين تتخطى مستوى الملاطفة والبر والمجاملة، لتدخل في نطاق الحقوق المفروضة التي يأثم من يغفل عنها، وقد ثبت وجوب النفقة بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ (الإسراء، آية : 26).
قال ابن القيم: إذا لم يكن ذلك حق النفقة فلا ندري أي حق هو: ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بمن تعول أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك حق واجب ورحم موصولة»(8)، وقد أجمع علماء المسلمين من عهد الصحابة حتى عصرنا على أن نفقة المعسر تجب على قريبه الموسر أصلاً كان أم فرعاً، ولا يوجد بين الفقهاء من هذا الإيجاب خلاف وإنما تختلف الآراء في تفسير القرابة ومدى ما تشمل عليه من أفراد سعة وضيقاً ومن أبواب النفقة على المسنين ما قد ينالهم من ميراث، لأن الأب يرث ابنه كما أن الابن يرث أباه كما هو مفصل في كتب الفقه(9).
فإذا لم تف أموال الأبناء والأقارب بحق المسنين المعسرين، فعلى ولي الأمر أن يلبي حاجاتهم من بيت مال المسلمين، خاصة فيما يتعلق بالضرورات وهي الغذاء والكساء والمأوى والعلاج عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «من خلف مالاً أو حقاً فلورثته، ومن خلف كلاً أو ديناً فكله إليّ دينه علي»(10). وللقاعدة الفقهية: «الحاكم ولي من لا ولي له»(11).
وللدولة في سبيل توفير الأموال اللازمة لهذه الرعاية المادية للمسنين، أن توظف ما قد يوجد من أوقاف أو وصايا أو زكوات، وقد استوعبت قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية هدي الشريعة في النفقة فأوردت أحكاماً مفصلة تؤكد دور الدولة في رعاية حقوق رعاية المسنين(12)، والدولة ذات المرجعية الإسلامية تعمل على:
ـ تأهيل كبار السن ذوي الاحتياجات الخاصة للاحتفاظ بالحد الأقصى من القدرات الوظيفية طيلة حياتهم والعمل على مشاركتهم في المجتمع وتوفير الرعاية المناسبة لهم.
ـ التأكد من وصول الخدمات الطبية والتمريضات للمسنين.
ـ تحسين صحة المسن والتأكد من نمط حياته، بما يؤدي إلى راحته الاجتماعية والنفسية.
ـ تأمين تحسن متواصل للحالة الغذائية للمسن.
ـ إعادة تأهيل كبار السن ذوي الحاجات الخاصة.
وضع خطة شاملة لرعايا كبار السن في منازلهم على أن يقوم فريق متكامل بالإشراف على كبار السن في منازلهم لإجراء الكشف الدوري عليهم ومساعدة القائمين على خدماتهم وتدريبهم على اتباع طرق الرعاية الصحية.
ـ إقامة وتحديث قواعد شاملة للبيانات الخاصة بالمسنين في كل مناطق وبلديات الدولة.
ـ إقامة تواصل على المستوى الوطني والإقليمي بين المنظمات والمؤسسات والأفراد النشيطين في مجال رعاية المسنين.
ـ دمج الرعاية الصحية للمسنين في مستويات الرعاية الصحية الأولية، ووضع برامج تدريبية للعاملين في هذا المجال.
ـ توفير المعلومات والمهارات المناسبة للمسنين وأسرهم والمجتمع بأكمله للعناية بأنفسهم والحفاظ على صحتهم وتنميتهم.
ـ زيادة عدد العيادات التي تقدم الرعاية الصحية للمسنين وبخاصة في المناطق النائية والمحرومة.
ـ العمل على رفع نسبة المسنين المراجعين للعيادات الخاصة.
ـ تفعيل دور كافة الجهات المعنية حكومية وغير حكومية في مجال رعاية المسنين.
ـ توفير الرعاية الصحية والاجتماعية والنفسية.
ـ مد مظلة التأمينات والمعاشات لتشمل كافة المواطنين المحتاجين.
مراجع الحلقة الخامسة والستون:
([1]) سنن الترمذي، حديث حسن.
(2) رواه أحمد والترمذي، حديث حسن صحيح.
(3) رواه أصحاب السنن.
(4) مسلم: أي: أذل الله امرءاً أدركهما فلم يحسن إليهما فلم يدخل الجنة.
(5) البخاري ومسلم، والرحم: القرابة، وصلتها: كل صنوف البر بالأقارب.
(6) سنن أبي داود، السنوات المتأخرة من العمر، عز الدين إبراهيم، ص: 47.
(7) سنن أبي داود والترمذي.
( السنوات المتأخرة من العمر، عز الدين ابراهيم ص: 48.
(9) السنوات المتأخرة من العمر، ص: 49.
(0[1]) البخاري ومسلم، والكل: الضعيف الذي يحتاج إلى من يعوله.
(1[1]) السنوات المتأخرة من العمر، ص: 49.
(2[1]) المصدر نفسه، ص: 43 ـ 50.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: