(ظروف ترشيح أبي بكر لعمر رضي الله عنهما)
الحلقة: 29
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأول 1443 ه/ ديسمبر 2021
في شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية مرض الخليفة أبو بكر رضي الله عنه، واشتد به المرض، فلما ثقل ـ واستبان له من نفسه ـ جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحلّ عنكم عقدتي، وردّ عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي.
وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الرئيس القادم، ومن ذلك:
أ ـ استشار أبو بكر كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار:
تشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكلٌّ يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه، إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبوبكر عبدَ الرحمن بن عوف فقاله له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال: أنت أخبرنا به، فقال: على ذلك يا أبا عبد الله. فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، ولو تركته ما عَدَتك.
ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
وكذلك استشار سعيد بن زيد، وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟! فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفوني؟! خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك.
وبين لمن نبه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه.
ب ـ كتب أبو بكر عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار عن طريق أمراء الأجناد، فكان نص العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في اخر عهده في الدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالاخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم ال الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرأئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ *} [الشعراء: 227].
وفي رواية: أن أبا بكر أشرف على الناس وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا.
ونقف مع هذا النص نستجلي عدة أمور:
-إن أبا بكر يسأل الناس عن رضاهم بمن يقترحه ليكون خليفة عليهم، فالمبايعة رضا من كل الأطراف، والأمة لم تكن بعد قد عرفت «بيعة الإكراه»، و«إمارة الاستيلاء»، وإنما المبايعة كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صفقة يد وثمرة قلب، قال عليه الصلاة والسلام: «من بايع إماماً فأعطاه صفق يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء اخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
-إن أبا بكر استفرغ الجهد في استشارة الصحابة ذوي السابقة حول استخلافه ابن الخطاب، فقد ذكر أنه لما أراد العقد لعمر دعا عبد الرحمن بن عوف فاستشاره في الأمر، ثم فعل ذلك مع عثمان بن عفان، وغيره.
-إن أبا بكر لم يسند الخلافة إلى ذي قرابة.
إن عمر هو نصيحة أبي بكر الأخيرة للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا بها استشرفتهم شهواتها، فتكلمت بهم، واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم».
لقد أبصر أبو بكر الداء، فأتى لهم رضي الله عنه بدواء ناجع.. جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست، وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك».
إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، وهذه القواسم خير شاهد على فراسة أبي بكر، وصدق رؤيته في العهد العمري، فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: أفرس الناس ثلاثة: صاحبة موسى التي قالت: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ *} [القصص:26]، وصاحب يوسف حيث قال: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، وأبو بكر حين استخلف عمر، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن.
ج ـ أنه أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة: فقد دخل عليه عمر، فعرفه أبو بكر بما عزم، فأبى أن يقبل، فتهدده أبوبكر بالسيف، فما كان أمام عمر إلا أن يقبل.
د ـ أنه أراد إبلاغ الناس بلسانه، واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس، فأشرف أبوبكر على الناس، وقال لهم: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
ه ـ أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فاخلفني فيهم فهم عبادك.
و ـ أنه كلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس، وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه بخاتمه لمزيد من التوثيق ، والحرص على إمضاء الأمر دون أي اثار سلبية ، وقال عثمان للناس:
أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، فأقروا بذلك جميعاً، ورضوا به.
ز ـ البيعة لعمر بن الخطاب قبل أن يتوفى أبو بكر الصديق، فبعد أن قرأ العهد على الناس ورضوا به، أقبلوا عليه وبايعوه.
ولم تتم البيعة بعد الوفاة، بل باشر عمر بن الخطاب أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ونلاحظ أن عمر ولي الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد، وإرادتهم، فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاورهم، ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه، وأمضوه، ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب «الطبيعيون» عن هذه الأمة، وإذاً فلم يكن استخلاف عمر رضي الله عنه إلا على أصح الأساليب الشورية وأعدلها.
إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه.
وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة.
ح ـ وصية الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
فقد اختلى الصديق بالفاروق رضي الله عنهما، وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعدأن بذل قصارى جهده واجتهاده، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل وعملاً بالليل لا يقبله النهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحُق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم وإن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء؛ ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت، ولست تعجزه.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي