(خطبة الفاروق لما تولى الخلافة: أفكار وتعهدات)
الحلقة: 30
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
اختلف الرواة في أول خطبة خطبها الفاروق عمر، فقال بعضهم: إنه صعد المنبر فقال: اللهم إني شديد فليّنّي، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخّني.
وروي أن أول خطبة كانت قوله: إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فالو فيه عن أهل الجزء ـ يعني الكفاية ـ والأمانة، والله لئن أحسنوا لأحسن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم، فقال من شهد خطبته ورواها عنه: فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا.
وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر، وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر، فنزل مرقاة فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: اقرؤوا القرآن تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وليس من الغريب أن يمزج الفاروق في أول خطبة له بين البيان السياسي والإداري والعظة الدينية،فذلك نهج هؤلاء الأئمة الأولين الذين لم يروا فارقاً بين تقوى الله والأمر بها وسياسة البشر تبعاً لمنهجه وشريعته، كما أنه ليس غريباً على عمر أن يراعي حق سلفه العظيم أبي بكر، فلا يجلس في موضع كان يجلس فيه فيساويه بذلك في أعين الناس، فراجع عمر نفسه رضي الله عنه، ونزل درجة عن مكان الصديق رضي الله عنه.
وفي رواية أخرى: أنه بعد يومين من استخلافه تحدث الناس فيما كانوا يخافون من شدته وبطشه، وأدرك عمر أنه لابد من تجلية الأمر بنفسه، فصعد المنبر، وخطبهم، فذكر بعض شأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، وكيف أنهما توفيا وهما عنه راضيان، ثم قال :... ثم إني قد وليت أمركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم علي ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه ، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه ، ولكم عليّ أن أزيد في عطاياكم وأرزاقكم ـ إن شاء الله تعالى ـ، وأسُد ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمّركم في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وجاء في رواية: إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق، وفي هذه الروايات لخطبة عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة يتضح منهجه في الحكم الذي لم يحد عنه، وأبرز ملامحه:
أ ـ أنه ينظر إلى الخلافة على أنها ابتلاء به سيحاسب على أداء حقه، فالحكم عند الراشدين تكليف وواجب وابتلاء، وليس جاهاً وشرفاً واستعلاء.
ب ـ وهذا الاستخلاف يتطلب منه أن يباشر حمل أعباء الدولة فيما حضره من أمرها، وأن يولي على الرعية التي غابت عنه أفضل الأمراء وأكفأهم، غير أن ذلك ـ فيما يرى عمر ـ ليس كافياً لإبراء ذمته أمام الله تعالى، بل يرى أن مراقبة هؤلاء العمال والولاة لا فكاك منه، فمن أحسن منهم زاده إحساناً، ومن أساء عاقبه ونكل به.
ج ـ إن شدة عمر التي هابها الناس سيجعلها لهم ليناً ورحمة، وسينصب لهم ميزان العدل، فمن ظلم وتعدى فلن يجد إلا التنكيل والهوان «ولست أدع أحداً يظلم أحداً ويتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض..» أما من اثر القصد والدين والعفاف فسيجد من الرحمة ما لا مزيد عليه: «أضع خدي لأهل العفاف».
واتضح عدل عمر في سيرته مع رعيته من خلال المواقف، واهتمامه بمؤسسة القضاء وتطويرها؛ بحيث سيطر العدل على كل ولايات الدولة.
د ـ وتكفل الفاروق بالدفاع عن الأمة ودينها، وأن يسد الثغور، ويدفع الخطر، غير أن ذلك لن يتم بظلم المقاتلين، فلن يحبسهم في الثغور إلى حد لا يطيقونه، وإن غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة وجهازه الإداري أبناءهم وأسرهم.
ولقد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتطوير المؤسسة العسكرية، حتى أصبحت قوة ضاربة لا مثيل لها على مستوى العالم في عصره.
ه ـ وتعهد ابن الخطاب رضي الله عنه بأداء الحقوق المالية للرعية كاملة.. من خراج وفيء لا يحتجن منه شيئاً، ولا يضعه في غير محله، بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم، باستمرار الجهاد والغزو، والحض على العمل، وضبط الأداء المالي للدولة، وقد قام بتطوير المؤسسة المالية، وضبط مصادر بيت المال، وأوجه الإنفاق في الدولة.
و ـ وفي مقابل ذلك يطالب الرعية بأداء واجبها من النصح لرئيسها، والسمع والطاعة له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مما يشيع الرقابة الإسلامية في المجتمع.
ز ـ ونبه إلى أنه لا يعين على ذلك إلا بتقوى الله، ومحاسبة النفس، واستشعار المسؤولية في الاخرة.
ح ـ وعلق الشيخ عبد الوهاب النجار على قول عمر رضي الله عنه: إنما مثل العرب كمثل جمل أنف . والجمل الآنف: هو الجمل الذلول المواتي الذي يأنف من الزجر والضرب، ويعطي ما عنده من السير عفواً وسهلاً. وهذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية في عهده، فإنها كانت سامعة مطواعة، إذا أمرت ائتمرت، وإذا نهيت انتهت، ويتبع ذلك المسؤولية الكبرى على قائدها، فإنه يجب عليه أن يرتاد لها ويصدر في شأنه بعقل، ويورد بتمييز حتى لا يورطها في خطر، ولا يقحمها في مهلكة، ولا يهمل شأنها إهمالاً يكون من ورائه البطر. قد أراد بالطريق: الطريق الأقوم الذي لا عوج فيه، وقد برّ بما أقسم به.
ط ـ مضت سنة الله في أحوال الناس واجتماعهم، وفي إقبالهم على الشخص واجتماعهم عليه، وقبولهم منه، وسماعهم قوله، وأنسهم به أن ينفضوا عن الفظ الغليظ القلب حتى ولو كان ناصحاً، مريداً للخير لهم، حريصاً على ما ينفعهم، وقد دل على هذا قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ *} [ آل عمران: 159] .
ولذلك كان دعاء الفاروق لما تولى الخلافة: اللهم إني شديد فليّني، وقد استجاب الله هذا الدعاء، وامتلأت نفس عمر بالعطف والرحمة واللين، وأصبحت من صفاته بعد توليته الخلافة، فقد عرف الناس عمر في عهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شديداً حازماً، وصوره لنا التاريخ على أنه الشخص الوحيد الذي مثل ـ منذ دخل الإسلام حتى تولى الخلافة ـ دور الشدة والقوة بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم وبجانب أبي بكر، حتى إذا ال إليه الأمر انقلب رخاء ويسراً ورحمة.
ي ـ كانت البيعة العامة في سيرة الخلفاء الراشدين مقيدة بأهل المدينة دون غيرهم، وربما حضرها وعقدها الأعراب والقبائل التي كانت محيطة بالمدينة، أو نازلة فيها، أما بقية الأمصار فكانت تبعاً لما يتقرر في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يطعن بالبيعة، ولا يقلل من شرعيتها؛ لأن جمع المسلمين من كل الأقطار والأمصار كان أمراً مستحيلاً، ولابد للدولة من قائم بها، ولا يمكن أن تعطل مصالح الخلق، أضف إلى ذلك أن الأمصار الأخرى قد أيدت في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ما جرى في المدينة تأييداً صريحاً أو ضمنياً، ولاشك أن الأساليب التي لجأ إليها الناس في صدر الإسلام كانت تجارب تصب في حقل تطوير الدولة ومؤسساتها.
ك ـ وكان أول قرار اتخذه عمر في دولته رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب. وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء، وأنه لا فضل لقبيلة على قبيلة إلا بحسن بلائها وما تقدمه من خدمات للإسلام والمسلمين، وتلت تلك الخطوة خطوات أخرى هي السماح لمن ظهرت توبتهم من أهل الردة بالاشتراك في الحروب ضد أعداء الإسلام، وقد أثبتوا شجاعة في الحروب، وصبراً عند اللقاء، ووفاء للدولة لا يعدله وفاء.
ل ـ تجذر منصب الخلافة في قلب الأمة، وأصبح رمزاً للوحدة ولقوة المسلمين، ونلاحظ القدرة الفائقة التي كان يتمتع بها الصحابة الكرام، ومدى الأصالة في أعمالهم؛ بحيث إن ما أقاموه في سويعات قليلة من يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم احتاج هدمه إلى ربع قرن في المخطط البريطاني، على الرغم من أن البريطانيين أنفسهم كانوا يطلقون على الخلافة العثمانية في تلك الفترة الرجل العجوز، فأي شموخ هذا لتلك الخلافة، وأي رسوخ لها حيث تحتاج لهدمها ـ بعد أن أصبحت شكلاً لا موضوعاً ـ ربع قرن كامل، وبعد حياة استمرت قروناً من الزمن.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي