(منهج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في إدارة الشورى)
الحلقة: 33
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
أ ـ اجتماع الرهط للمشاورة:
لم يكن يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما، وقيل: إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين ـ بعد وفاة عمر ـ وقد تكلم القوم، وبسطوا اراءهم، واهتدوا بتوفيق الله إلى نتيجة رضيها الخاصة والكافة من المسلمين.
ب ـ عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: جعلت أمري إلى عليّ، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون الثلاثة: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه، فسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن ابن عوف: أفتجعلونه إليّ أن لا الو عن أفضلكما؟ قالا: نعم.
ج ـ تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الأحد، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى فجر يوم الأربعاء الرابع من محرم، وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بعلي بن أبي طالب، فقال له: إن لم أبايعك فأشر علي، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب عبد الرحمن إلى عثمان وقال له: إن لم أبايعك، فمن ترشح للخلافة؟ فقال عثمان: علي بن أبي طالب.. وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الاخرين واستشارهم، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاورته النساء في خدورهن، وقد أبدين رأيهن كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان ابن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي منتصف ليلة الأربعاء ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى بيت ابن أخته المسور بن مخرمة، فطرق البيت فوجد المسور نائماً، فضرب الباب حتى استيقظ فقال لي: أراك نائماً؟!
فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع علياً، فدعوته، فناجاه حتى ابهار الليل، ثم قام عليّ من عنده. ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح.
د ـ الاتفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة «اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ /6 نوفمبر 644م) وكان صهيب الرومي الإمام، إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، وصاحبوه إلى المدينة.
وجاء في رواية البخاري:.. فلما صلى الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبلاً فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.
وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان): أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف.
ه ـ حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشورى:
نفذ عبد الرحمن خطة الشورى بما دل على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثار مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمع إليه إنسان في الدنيا؛ ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة، ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالآتي:
-بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حدده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يُدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم ومرماه، فسار في طريقه على بينة من أمره.
-خلع نفسه، وتنازل عن حقه في الخلافة ليدفع الظنون، ويستمسك بعروة الثقة الوثقى.
-أخذ في تعرف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه وشركائه في الشورى، فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئي، فاز فيه عثمان برأي سعد بن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت له أغلبية اراء الأعضاء الحاضرين معه.
-عمد إلى معرفة كل واحد من الإمامين: عثمان، وعلي في صاحبه بالنسبة إلى وزنه من سائر الرهط الذين رشحهم عمر، فعرف من كل واحد منهما: أنه لا يعدل: بصاحبه أحداً إذا فاته الأمر.
-أخذ في تعرف رأي من وراء مجلس الشورى من خاصة الأمة وذوي رأيها، ثم عامتها وضعفائها، فرأى أن معظم الناس لا يعدلون أحداً بعثمان، فبايع له، وبايعه عامة الناس.
لقد تمكن عبد الرحمن بن عوف بكياسته، وأمانته، واستقامته، ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة، والزهد بأعلى منصب في الدولة أن يجتاز هذه المحنة، وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد مما يستحق أعظم التقدير.
قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم النهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محابياً فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص.
وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى؛ ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامة، ثم البيعة العامة.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي