الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

(عماد الدين زنكي والإمارات المحلية في ديار بكر)

الحلقة: 46

بقلم: د.علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444 ه/ أكتوبر 2022م

 

كان هدف زنكي، بعد أن تمَّ له الاستيلاء على حلب، واتخاذها قاعدة في بلاد الشام، والسيطرة على المناطق الممتدة بينها وبين الموصل، والتي كان يحكمها أمراء مستقلون، عملاً بخطته القاضية: بألا يبقى في بلاده ما هو ملك لغيره حزماً منه واحتياطاً. ذلك: أنَّه كان يستهدف ـ كما ذكرنا ـ إنشاء إمارة موحدة قوية، تمكِّنه من تحقيق انتصارات حاسمة ضدَّ الصليبيين. وكان عليه ـ لتحقيق هذا الهدف ـ اكتساح عدد من الإمارات المحلية في منطقة ديار بكر، والتي كانت تشكل خطراً على مواصلاته مع الشام، سيما في حالات صدامه مع الصليبيين.(1)

أ ـ ضمُّ نصيبين:

بدأ عماد الدين زنكي حركته التوسعيّة الهادفة إلى توحيد الإمارات الإسلامية بالهجوم على نصيبين التابعة لإمارة ماردين، وقد اختارها؛ أولاً بفعل كونها أقرب المواقع إلى الجهات التابعة لحكمه، فضرب عليها حصاراً مركزاً، فاستنجد حاكمها حسام الدين تمرتاش بداود بن لقمان صاحب حصن كيفا لصدِّه، وإرغامه على فك الحصار عنها، فوعده بالمساعدة(2)، كما بعث إلى أهاليها وحاميتها رسالة مستعجلة على جناح طائر يحثهم فيها على الصمود ريثما تصلهم النجدة الأرتقية خلال فترة لا تتجاوز الخمسة أيام، إلاَّ أن الرسالة وقعت بيد زنكي واطَّلع على ما فيها، ورأى أن ينتهز الفرصة لتدبير حيلة قد تساعده على تحقيق هدفه، فأمر بكتابة رسالة أخرى إلى أهل نصيبين بدلاً من الرسالة الأولى، جاء فيها: «من حسام الدين تمرتاش، إنني قد قصدت ابن عمي داود، وقد وعدني بالنجدة والمسير بالجيوش، وسوف لن يتأخر قدومه إلينا بأكثر من عشرين يوماً، لذا أطلب منكم الثبات طيلة هذه المدَّة»(3) وبعث الرسالة على جناح الطائر نفسه، ولم يشك النصيبيُّون لحظة واحدة بأنها وردت إليهم من أميرهم الأرتقي. فخافوا على نفوسهم، وأيقنوا أنهم يعجزون عن الدفاع عن البلد خلال هذه المدة الطويلة، لذا أرسلوا إلى زنكي، وصالحوه، وسلَّموا مدينتهم إليه، فبطل على حسام الدين وداود ما كانا قد عزما عليه(4)، وبفتح نصيبين انفسح الطريق أمام زنكي لتحقيق أهدافه ضدَّ إمارات ديار بكر؛ إذ اتخذ من هذا الموقع قاعدة عسكرية في المنطقة للهجوم على المواقع المجاورة((5)).

ب ـ معركة دارا:

مهَّد ضمُّ نصيبين الطريق أمام عماد الدين زنكي لتحقيق أهدافه في ديار بكر بعد أن تأكَّد من عجز الحكَّام المحليين عن مواجهته؛ إذ غدا هذا الموقع قاعدة انطلاق للانتشار في المنطقة.

ومن جهتهم أدرك أمراء هذا الإقليم مدى خطورة توسع عماد الدين زنكي على أملاكهم، فتداعوا في عام (524 هـ/1130 م) إلى عقد حلف للوقوف في وجهه، اشترك فيه الأميران الأرتقيان: حسام الدين تمرتاش، وابن عمه ركن الدولة داود، وانضمَّ سعد الدولة أبو منصور إيكلدي صاحب امد إلى الحلف، بالإضافة إلى عدد كبير من أمراء التركمان الموالين لداود(6)، ولما سمع عماد الدين زنكي بحشود الأمراء؛ قرر مباغتة القوم قبل أن يتهيؤوا للقتال، فانطلق على رأس أربعة الاف مقاتل، والتقى بهم بالقرب من دارا(7) التابعة لتمرتاش، وانتصر عليهم. كانت النتيجة الفورية للمعركة سيطرة عماد الدين زنكي على عدد من المواقع القريبة كحصن سرجي(8) ودارا(9)، وحتى يعرقل توغله في المنطقة، قرر داود مهاجمة جزيرة ابن عمر التابعة للموصل، ممَّا دفع عماد الدين زنكي إلى ترك ديار بكر، والتوجه إليه لإيقافه عند حده، لكنه لم يتمكَّن من التوغل بعيداً بسبب وعورة المسالك، وانتشار التركمان في المنطقة، فاكتفى باستقطاب السكان في الجهات التي بلغها، ثم قفل عائداً(10).

ج ـ أساليب سياسية من عماد الدين زنكي لإحداث انشقاق، وتنافر في صفوف الأراتقة:

أدرك زنكي إثر هذه الأحداث مدى الخطر الذي يشكِّله التحالف بين أمراء ديار بكر ضدَّ مطامحه في المنطقة، فرأى أن يلجأ إلى الأساليب السياسية علَّها تتيح له إحداث انشقاق، وتنافر في صفوف أولئك الأمراء كي يسهل عليه ـ بعد ذلك ـ اقتطاع أراضيهم، وممتلكاتهم. واعتقد: أنَّ خير ما يبدأ به خططه السياسية هو إيجاد تحالف متين مع أحد هؤلاء الأمراء، والاستعانة به ضد الاخرين، وكان من الصعب عليه تحقيق هذا التحالف مع غريمه اللدود ركن الدولة، لما كان يتميَّز به هذا من حقدٍ، ورغبة بإنزال الضربات بعدوه، وتحيُّن الفرص للانقضاض على ممتلكاته(11).

كما أنَّ زنكي لم يشأ أن يتخذ من صاحب امد حليفاً له لضعف إمكانياته، وعدم قدرته على تقديم مساعدات مجدية في حالة نشوب قتال بين أمير الموصل والأراتقة، ولم يبق أمامه إذاً سوى حسام الدين تمرتاش الذي كان أكثر مرونة من ابن عمه داود، لذا أخذ يتقرَّب إليه، وأوقف مهاجمته لممتلكاته، وسرعان ما أحسَّ الأمير الأرتقي اتجاه زنكي الودَّ منه، ورأى: أنَّ التضحية بابن عمه داود لا بد منها في سبيل كسب حليفه الجديد، وائتمان جانبه، والسعي ـ عن طريق هذا التحالف ـ للحصول على مزيد من المكاسب في المنطقة(12).

 

مراجع الحلقة السادسة والأربعون:

(1) عماد الدين زنكي ص 85.

(2) التاريخ الباهر ص 36.

(3) المصدر نفسه ص 36 ـ 37 عماد الدين زنكي ص 86.

(4) عماد الدين زنكي ص 87.

(5) عماد الدين زنكي ص 87.

(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 110.

(7) دارا: بلدة في لحف جبل بين نصيبين وماردين.

(8) سرجي أو سرجة: حصن بين نصيبين ودُنسير ودارا.

(9) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 111.

(10) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 111.

(11) مفرج الكروب (1/52).

(12) عماد الدين زنكي ص 88.

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

alsallabi.com/uploads/file/doc/106969.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022