السبت

1446-10-28

|

2025-4-26

تأملات في الآية الكريمة: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 113

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1444ه / أكتوبر 2022م

وقد ذكر المرض وشفاء الله تعالى منه بعد الطعام والسقيا للإشارة إلى أن بعض الأمراض سببها الإفراط في الطعام، كما ورد في بعض الآثار: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، ومهما يكن من الطب والعلاج، فالشفاء دائماً من الله واهب القوى، والقادر على كل شيء، وكثيراً ما يقول الطبيب وقد عجز: إنّ الشفاء بمعجزة، ويفوض الأمر إلى الله تعالى القادر على لك شيء(1).

ونرى في الآية أن إبراهيم - عليه السّلام - نسب المرض لنفسه تأدباً مع الله سبحانه وتعالى، علماً أن الله تعالى هو الذي يُمرض ويُشفي، ولما كان المرض ضرراً نزهه عن نسبته إلى الله أدباً، وإن كانت نسبة الكل إليه سبحانه معلومة(2).

لقد أنعم الله على إبراهيم - عليه السّلام - بعقل راشد يعرف النعمة لصاحبها ويتفطن إلى مواضع النعم ظاهرها وخفيّها، فانظر إلى قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} كيف لخص في كلمتين وضع الإنسان ووضع الله تعالى؛ فوضع الإنسان هو الفقر والحاجة، ووضع الله هو العطاء والإمداد والإغاثة، هذا هو الوعي السليم بحقائق الأمور كما تجري في الواقع الموضوعي، لا كما تجري في أذهان وأخيلة أولئك المرضى من البشر الذين يدعون القدرة والإرادة ويتحدثون عن الإنسان القاهر للطبيعة والصانع للمعجزات، فإذا أصابهم أدنى ألم رأيت وجوههم مسودة وقلوبهم الصخرية فارغة ليس فيها سوى الهواء بعد أن ضيّعوها في الكبر والاستعلاء، وتركوا دعوة الله تعالى واستجداء رحمته وهؤلاء من أسباب ما ينزل على الناس من بلاء؛ فالله عزّ وجل لا يعالج هؤلاء إلا بالبلوى تلو البلوى، والمصيبة تلو المصيبة حجة منه عليهم؛ لعلهم يرجعون قبل أن يأخذهم الفزع الأكبر(3).

إنَّ معظم الأمراض التي يعاني منها الناس اليوم إنما يعود سببها إلى خلل في تطبيق منهج الله عزّ وجل، فيذهب الإنسان إلى الطبيب، فيصف له الدواء فيشفى، فيتوهم أن هذا الطبيب هو الذي شفاه؛ لأنه عالجه، وينسى أن الله عزّ وجل هو الذي شفاه، فيتوجه بالشكر بكل طاقته إلى الطبيب مع أن خطأً صغيراً من الطبيب قد يودي بحياة المريض، نعم؛ اشكر الطبيب إذا خدمك، لكن لا تنسى فضل الله عزّ وجل(4).

إن قوله تعالى {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} من أبلغ العبر، ولعلَّ بعض الأطباء يمرضون باختصاصهم، فإذا توهموا أنهم متمكّنون في اختصاصهم؛ لأنهم يأخذون بالأسباب أخذاً مبالغاً به، فإنهم يؤدّبون بأن يصابوا بأمراض هي من اختصاصهم، وينسب إلى الخليفة الرشيد قوله:

إنَّ الطَّبيبَ لهُ عِلْمٌ يُدِلُّ به

إنْ كانَ للمرءِ في الأيامِ تأخيرُ

حتّى إذا ما انتهتْ أيامُ رِحْلَتهِ

حَارَ الطبيبُ وخَانتهُ العَقَاقيرُ(((5)

وهناك ما يسمى عند الأطباء بالشفاء الذاتي، إذ يُحكم على المرض بأنه عضال، وأنه لا دواء له، وأن المريض لن يعيش إلا أسبوعين، فإذا به يعيش عشرين عاماً بعد قولهم، وإذا بهذا الطبيب الذي قال: لن يعيش إلا أسبوعين، يموت بعد خمس سنين فاسأل أهل الطب واسأل علماء الطب: كم من حالة شفاء ذاتي لا يستطيع العلم ولا الطب أن يفسّرها؟ يجب أن تعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يشفيك مما أنت فيه، فلا يستطيع أحد أن يحول دون هذا الشفاء لقوله سبحانه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ]فاطر:2[، فمهما كان المرض عضالاً، ومهما كانت المصيبة مؤلمة، فإن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، إذا أعطى أدهش.

ومن لوازم العلاج النفسي أن يقول الطبيب للمريض: ليس هناك دواء، فلا تتعب نفسك، فيلجأ المريض إلى الله عزّ وجل طالباً منه الشفاء، فإذا به يرى ما يدهشه، فهذه الآية تبثُّ الأمل في النفس، والإيمان يبثّ التفاؤل في النفس، ويبثُّ الرضا، ويبثُّ الإشراق، ولكن البعد عن الإيمان بلا إله يجعله منكمشاً على نفسه، لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ]يوسف:87[، فأحياناً يقول الطبيب هذه علة دائمة، وهذا المرض ليس له دواء، وذلك مبلغه من العلم، ولو علم العلم الكامل الشامل لقال: معلوماتي التي درستها تقول كذا، وعند الله ما ليس عندي، هذا ما يقوله الطبيب المؤمن الذي أعرفه أن هذا المرض لا شفاء منه، ولكن الله عزّ وجل قادر على أن يشفيك منه، فتوجّه إلى الله بالدعاء، وأما إذا جزم بذلك، فهذا الطبيب لا يعرف ما عند الله(6).

ونقف عند الضمير {فَهُوَ} الذي جاء للتوكيد، والتوكيد لا يأتي ابتداءً إنما يكون على درجات الإنكار، وقد أكّد الحق - تبارك وتعالى- نسبة الهداية والإطعام والسقيا والشفاء إليه تعالى؛ لأن هذه المسائل الأربع يدّعيها غيره سبحانه وتعالى، وقد يظنّ بعضهم أن الطبيب هو الشافي، أو أن الأب مثلاً هو الرازق؛ لأنه الجالب له والمناول، والهداية قد يدّعيها واضعو القوانين من البشر، وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية وغيرها وكلها تدّعي مصالح البشر، وأنها طريق هدايتهم(7)، لذلك أكدّ الله تعالى هذه المسائل بالضمير المنفصل "هو"؛ ليؤكد أن الهادي هو الله {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}، وأن الرازق هو الله {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}، وأن الشافي هو الله وحده {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}(8).

قال ابن كثير في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ]الشعراء:80[ أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه، ولكنه أضافه إلى نفسه أدباً، كما قال تعالى آمراً للمصلي أن يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} ]الفاتحة:6-7[، فأسند الإنعام إلى الله سبحانه، والغضب حذف فاعله أدباً، وأسند الضلال إلى العبيد كما قالت الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} ]الجن:10[، ولهذا قال إبراهيم - عليه السّلام -: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه(9).

 

مراجع الحلقة الثالثة عشر بعد المائة:

(1) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (10/5368).

(2) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، (5/369).

(3) درب إبراهيم عليه السلام، سعيد الشبلي، ص145.

(4) تفسير النابلسي؛ "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (8/369).

(5) المرجع نفسه، النابلسي، (8/370).

(6) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (8/370).

(7) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (17/10593).

(8) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (81/371).

(9) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (5/188-189).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022