الحذر والحسّ الأمني منهجُ المؤمنين ودرعُ دولتهم
بقلم: د. علي محمد الصلابي
إنَّ الحذرَ والحسَّ الأمنيَّ ليسا مجرّد سلوكٍ عابر أو تدبيرٍ وقتي، بل هما منهجٌ أصيلٌ من مناهج الإيمان، وركيزةٌ راسخة في سياسة دولة المسلمين عبر العصور. فالمؤمن الحقّ يزن خطواته بوعيٍ وبصيرة، ويتحرّى مواضع الخطر قبل وقوعه، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء:71]. ومن هنا فإنّ بناء الأمة وحماية كيانها لا يكتملان إلا بوعيٍ أمنيٍّ يقظ، يجمع بين حسن التوكّل على الله وحسن الأخذ بالأسباب، فيتحوّل الحذر إلى سلوكٍ يوميٍّ يحفظ الفرد والمجتمع، ويصون سلامة الدولة من كيد الأعداء. فأخذ الحيطة والاحتراز، وتحرّي سبل التثبّت والسلامة والأمان، والتحوّط للحادثات ومختلف الاحتمالات، وتقصّي الحقائق، والاستعلام عن صحّة الأخبار والأنباء، وجمع المعلومات عن الأعداء والخصوم، منهجٌ إسلامي أصيل وقاعدة أساسية في في زمن الحرب والسلم معاً عند المسلمين. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا الجانب في آيات عديدة منها:
أ ـ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ (التوبة، آية : 120)، وتشير الآية على أن كل نيل من العدو عليه جزاء، وأن استطلاع أخبار العدو، ومعرفة مواطن الضعف فيه، ومواقع آليته ومنشآته، يعتبر نيلاً لأنه يوصل للتخطيط السليم المؤدي إلى الظفر به (سيد قطب، 4/11).
ب ـ قال تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف، آية : 87)، ووجه الاستدلال أن يعقوب عليه السلام قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه، وفي هذا إقرار من أحد أنبياء الله في جمع المعلومات عن الآخرين، ويعتبر جمع المعلومات من العناصر الأساسية في علم الاستخبارات ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات قوله: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ﴾ (عبدالله علي المحمد، ص 105).
ج ـ وقال تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل، آية : 22). إن الآية الكريمة ذكرت مبدأً من مبادئ الاستخبارات، وهو مبدأ جمع المعلومات، حيث إن الظروف التي جمعت فيها المعلومات هي ظروف حرب بدليل قوله تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل، آية : 17). ونلحظ من هذه الآية تطبيق عناصر الاستخبارات وهي:
- إقرار مبدأ الحصول على المعلومات، إذ أقر سليمان الهدهد ثم أرسله مرة أخرى: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النمل، آية : 27)، ثم قال : ﴿اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ (النمل، آية : 28).
- ثم عرض المعلومات المجمعة، قال تعالى: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ** وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ (النمل، آية : 23 ـ 24).
- تقسيم المعلومات المعروضة وتقرير مدى صحتها، قال تعالى: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النمل، آية : 27). ثم تحليل ودراسة المعلومات واستخلاص النتائج منها.
ـ إمداد المسؤولين وإطلاع القادة على المعلومات، فالهدهد كجندي من جنود سليمان رأى أن من واجبه أن يأتي بما حصل عليه من معلومات إلى مسؤوله وهو سليمان عليه السلام : ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل، آية : 22). (عبدالله علي المحمد، ص 108).
د ـ وقال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (النمل، آية : 17، 18). ونلحظ في هذه الآيات أن المعلومات السابقة لا تقتصر على بني البشر، فقد يستفيد منها الحيوان والطير، إذ استفاد النمل من المعلومات السابقة، فاستعمل وسائل الإنذار المبكر، إذ قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات، ادخلوا مساكنكم حفاظاً على حياتكم، لأن سليمان وجنوده ربما يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير قصد، فقد بيّنت السبب في توجيه هذا الإنذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات المسبقة التي حصلت عليها (سيد قطب، 4/141).
هـ ـ قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * *وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ (القصص، آية : 11 ـ 12).
ونلحظ في الآيات الآتي:
- إستخدام أم موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها في حفاظها على ابنها: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾، والتقصي إنما هو تتبع الأثر وجمع المعلومات.
ـ اختيار العنصر الأمين والحريص في جمع المعلومات لتكون صحيحة وموثقة وأمينة على ذلك، حريصة على تلك المعلومات: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾، فأم موسى لم تختر غير أخته، لأن الأخت تعتبر من الحريصين والأمناء على تلك المصلحة، وهي تندفع من ذاتها في جمع المعلومات وتحصيل الأخبار، والمهم بمكان أن يكون العنصر المرسل في عملية الاستخبارات أن يكون مندفعاً من ذاته حريصاً على المصلحة المرسلة إليه.
ـ التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار: ﴿قُصِّيهِ﴾ إذ نفهم من كلمة التقصي الانتباه وعدم إشارة الأنظار، ودليل ذلك أنها بصرت به دون أن يشعروا بها.
- دقة الملاحظة وقوة الفراسة وإتقان التخفّي أثناء جمع المعلومات: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (القصص، آية : 11).
- استعملت أخت موسى شكلاً من أشكال الاستخبارات العصرية، وهو التخريب الفكري، فبعد أن نظرت إليهن وهن غير قادرات على إرضاعه قالت: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ (القصص، آية : 12). وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع، ليخلص إلى أمها دون إشعارهم أنها منه بسبيل.
- محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات، فأخت موسى لم تكتف بأن تعرف مكان موسى لتخبر أمها بمكانه، وإنما هي تقصت الأخبار، وتوصلت إلى مكانه وحاولت إعادته إلى أمه وقد نجحت في هذا (عبدالله علي المحمد، ص 111-112).
و ـ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ (النساء، آية : 71)، وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ﴾ (المائدة، آية : 92)، وقال سبحانه: ﴿وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾ (النساء، آية : 102).
إن الإعداد الأمني والاستخباراتي عن المجتمع الإسلامي أفراداً وجماعات شرطٌ لأمنه وسلامته، وهو للدولة الإسلامية شرطٌ لضمان أمنها وتعزيز قوتها وزيادة مناعتها، لأنها تحول دون مفاجآت الأعداء، وتطبيق لآيات القرآن السابقة، كما أن السعي للحصول على المعلومات عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساس من أسباب القوة ومظاهرها التي أمر الإسلام بإعدادها من أسباب حماية الدولة والمجتمع والمواطنين. وإن من أهم أسباب حماية وبناء الدول أن ينشأ الحس الأمني لدى المواطنين منذ تفتح أعينهم على الحياة، وأن تقوم الدول بتأسيس مؤسسات أمنية على أسس راسخة من المعرفة والعلم والحذر واليقظة.
المصادر والمراجع:
1. سيد قطب، في ظلال القرآن.
2. عبدالله علي المحمد، الاستخبارات العسكرية في الإسلام.
3. علي محمد الصلابي، الدولة الحديثة المسلمة، دار المعرفة، لبنان، ص 120-130.