صور من حياة التابعين (1)
جابر بن زيد الأزدي – رحمه الله تعالى -
أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي البصري (رحمه الله)، تابعي محدث وفقيه، وإمام في التفسير والحديث، وهو من أخص تلاميذ ابن عباس، وممن روى الحديث عن عائشة (رضى الله عنها). ولد عام 21 ه، زمن خلافة عمر بن الخطاب في منطقة تسمى الجوف، قيل إنها في عمان وقيل إنها في البصرة، وكان استقراره بالبصرة كعادة كثير من أهل بلاده، متنقلاً بينها وبين الحجاز حتى اختلط بأهلها وعاينهم وعاينوه. (الطبقات الكبرى لابن سعد، 7/ 134).
خلال فتوته وشبابه، نزح جابر بن زيد من عُمان إلى البصرة التي كانت من أكبر المعاهد الإسلامية حينها، ففي حلقات مساجدها يلتف ويتلاقى العشرات من صحابة رسول الله ﷺ وكبار التابعين، أمثال: جابر بن عبد الله والحسن البصري (رضى الله عنهم). أتاها جابر بن زيد وهو يتوقد ذهناً ويتلظى عطشاً إلى العلم، وكان فيه ذكاء وقدرة على الاستيعاب والحفظ والتَّلقي. فغشي المساجد، وجلس في الحلقات وسمع وحفظ، وناقش وساءل. وكان أكثر جلوسه إلى جابر بن عبد الله والحسن البصري. وله مع كل منهما مواقف تشهد بالعلم والحب والإيثار.
ويحدثنا أحد تلاميذه عن دعاء كان يردده جابر كلما أتى المسجد يوم الجمعة. كان يقف عند الباب ويقول: اللهم اجعلني اليوم أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من دعاك ورغب إليك.
ويحدثنا الحجاج بن أبي عيينة أحد تلامذته، فيقول: كان جابر بن زيد يأتينا في مصلانا فأتانا ذات يوم وعليه نعلان خلقان -باليان- فعاتبه بعضنا فقال: "مضى من عمري ستون سنة، نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى منه، إلا أن يكون خيراً قدمته". لا عن بخل أو تقتير على نفسه، ولكن زهداً وحرصاً وقناعة.
إني رأيت فلا تظنوا غيره أن التورع عند هذا الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم
هذا كان منهج جابر بن زيد رحمه الله في الحياة وسلوكه، فقيمة المال عنده في التقرب به إلى الله تعالى، ومن هنا كانت نشأة التورع لديه، وهو يعتبر ذلك قمة العبادة؛ وذروة التقوى. ورغم القدرة على الدرهم والحاجة إليه، كان يرى رضى الله عنه أن إنفاقه في سبيل الله أعظم أجراً وأطيب ذكراً؛ وأعطر في الأنام.
ومن هنا كان قوله (رحمه الله): لأن أتصدق بدرهم على يتيم ومسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام. (مواقف من حياة التابعين، محمد قطب، ص57)
وقد عاصر جابر بن زيد أحد كبار التابعين ورواة الحديث الشريف، وهو مالك بن دينار (رحمه الله)، وكان ورعاً تقياً نقياً. ولقد كان بينه وبين جابر صلة وثيقة وود، وتبادل محبة واحترام. وكان مالك من المعجبين بجابر وبعلمه وفضله، ولا يتأخر عن حضور مجلسه والانخراط في حلقته. وذات يوم، نظر جابر إلى الحضور متفرساً مستطلعاً، فلم ير مالكاً بينهم، فلما انقضى الدرس، وانتهت الموعظة، قام جابر يسعى إلى دار مالك لتفقده.
يقول مالك (رحمه الله): دخل علي جابر بن زيد وأنا أكتب المصحف، فقلت له : كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء؟ قال: نعم الصنعة صنعتك، تنقل كتاب الله ورقة إلى ورقة، وآية إلى آية، وكلمة إلى كلمة، هذا الحلال لا بأس به.
وكان مالك رضى الله عنه قد اتخذ من نسخ كتاب الله تعالى صنعة ومهنة يرتزق منها ويتكسب؛ فأحب أن يستفتى المفتي الفقيه فيما يفعل، فإذا كان فيه حرج تركه، وإن رأى منه حلاً ... استمر.
وصادف دخول جابر عليه قراءته ونسخه لقول الله تعالى: (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضَعْفَ الْحَيَاة وضعف الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تجد لَكَ عَلَيْنَا نَصيراً)، فسأله عن تفسيرها، فقال جابر (رحمه الله): ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة. (سير أعلام النبلاء (4/481
ومع دخول عام ثلاثة وتسعين للهجرة، مرض أبو الشعثاء جابر بن زيد ولزم الفراش، لا يقوى على حركة أو نشاط، ولما ثقل عليه وقارب المفارقة، قيل له: ما تشتهى يا أبا الشعثاء؟ قال رحمه الله: نظرةً إلى الحسن - الحسن البصري -، فقيه البصرة بلا مدافع ولا منازع؛ وثمال الباقين من رؤوس التابعين.
يقول الراوي: فأتيت الحسن فأخبرته، فركب إليه، فلما دخل عليه، قال - جابر - لأهله: أقعدوني. فجلس، فما زال يقول: أعوذ بالله من النار وسوء الحساب. يردد ذلك. ثم فاضت روحه، وأسلم وجهه لله تعالى. (تهذيب التهذيب، ابن حجر، ص 38).
وقد نقل الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (الزهد)، قال قتادة بن دعامة السدوسي عن جابر بن زيد عند وفاته: "اليوم مات أعلم أهل العراق".
المراجع:
- الطبقات الكبرى، لابن سعد ط1، دار الكتب العلمية – بيروت
- مواقف من حياة التابعين، محمد علي قطب، الدار الثقافية للنشر - القاهرة، ط1، 1420هـ - 2000م.
- سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين الذهبي.
- تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار صادر