دفن الحسن بن علي (رضي الله عنه) في البقيع
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الرابعة و الخمسون (الأخيرة)
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
لما احتضر الحسن بن على قال للحسين: أدفنونى عند أبى -يعني النبى - صلى الله عليه وسلم -- إلا أن تخافوا الدماء، فإن خفتم الدماء فلا تهريقوا فىّ دمًا، ادفنونى فى مقابر المسلمين فلما قبض تسلح الحسين وجمع مواليه، فقال له أبو هريرة: أنشدك الله وصية أخيك فإن القوم لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، وكان مروان بن الحكم قد عارض دفنه فى جوار النبى -صلى الله عليه وسلم- وقال: لا يدفن هناك أبدًا، فلم يزل به أبو هريرة وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر، والمسور بن مخرمة وغيرهم حتى رجع ثم دفنوه فى بقيع الغرقد بجانب أمه الزهراء البتول ، وقد اختلطت الروايات الضعيفة فى حادثة دفن الحسن بن على رضي الله عنه، ووجد أصحاب الأغراض مجالاً للدس والتشويه والتزوير، فقد زعم بعضهم بأن السيدة عائشة رفضت دفن الحسن بجانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وقالت: لا يكون لهم رابع أبدًا، وإنه لبيتي أعطانيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى حياته، فإنه هذا لا يثبت وإسناده مظلم . وقد أثبت ابن تيمية بأن السيدة عائشة أذنت للحسن بأن يدفن فى حجرتها، ولكن كره ذلك ناس آخرون، ورأوا أن عثمان -رضي الله عنه- لما لم يدفن فيها فلا يدفن فيه غيره، وكادت تقوم فتنة ، وما تزعمه كتب التاريخ بأن أبان بن عثمان بن عفان قال: إن هذا لهو العجب العجاب يدفن ابن قاتل عثمان مع رسول الله وأبى بكر وعمر، ويدفن أمير المؤمنين المظلوم الشهيد ببقيع الغرقد ، فهذا إسناده ضعيف جدًا، وفى متنه نكارة ، وهناك روايات ذكرت اعتراض مروان بن الحكم على دفن الحسن بجانب النبى -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أسانيدها ضعيفة، وقد ذكرها الدكتور محمد صامل السلمى فى تحقيقه لكتاب الطبقات ، وإنما الرواية الصحيحة فى هذا المقام هى ما رواه أبو حازم حيث قال: لما حضر الحسن، قال للحسين: ادفنونى عند أبى -يعنى النبى -صلى الله عليه وسلم-- إلا أن تخافوا الدماء، فإن خفتم الدماء فلا تهريقوا فيّ دمًا، ادفنونى عند مقابر المسلمين، قال: فلما قبض تسلح الحسين وجمع مواليه، فقال أبو هريرة: أنشدك الله ووصية أخيك فإن القوم لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، قال: فلم يزل به حتى رجع. قال: ثم دفنوه فى بقيع الغرقد ، فقال أبو هريرة: أرأيتم لو جيء بابن موسى ليدفن مع أبيه فمنع أكانوا قد ظلموه؟ قال: فقالوا: نعم، قال: فهذا ابن نبى الله قد جيء به ليدفن مع أبيه ، وقد صلى على الحسن بن على سعيد بن العاص وكان يبكى، وكان مرضه الذى مات فيه أربعين يومًا ، وقد قدم الحسين بن على سعيد بن العاص للصلاة على الحسن، لأنه كان واليًا على المدينة لمعاوية وقد اعتزل الفتنة ولم يقاتل مع معاوية وقد ولى إمارة الكوفة لعثمان بن عفان وفيه يقول الفرزدق:
ترى الغُرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر ذو الحدثان عالا
قيامًا ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلال
وقد كان سعيد بن العاص أحد من ندبه عثمان لكتابة المصحف لفصاحته، وشبه لهجته بلهجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووقف أبو هريرة على مسجد رسول الله يبكى وينادى بأعلى صوته: يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابكوا ، وقد اجتمع الناس لجنازته، حتى ما كان البقيع يسع أحدًا من الزحام ، ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على رأس إنسان ، وقد كان الحسن رضي الله عنه، حليمًا ورعًا فاضلاً، دعاه ورعه إلى ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله، وقال عنه الذهبى: وكان هذا الإمام سيدًا وسيمًا، جميلاً عاقلاً، رزينًا، جوادًا، ممدَّحًا، خيرًا، دينًا، ورعًا، محتشمًا كبير الشأن ، فرحمة الله ورضوانه على هذا السيد الجليل وجمعنا الله به مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين. ففى سيرته عبرة لمن اعتبر، وتبصرة لمن أدَّكَر ورحم الله العلامة محمد إقبال إذ قال:
فى روض فاطمة نما غصنان لم ... ينجبهما من النيرات سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة ... الوئام والاتحاد ابناها
حسن الذى صان الجماعة بعدما ... أمسى تفرقها يحل عُراها
ترك الإمامة ثم أصبح فى الديار ... إمام ألفتها وحسن عُلاها
التحقيق فى سنة وفاته وعمره:
كانت وفاة الحسن بن عليٍّ على أكثر الآراء فى سنة تسع وأربعين من الهجرة ، وقيل: سنة خمسين ، وقيل: سنة إحدى وخمسين ، وقد رجح الدكتور خالد الغيث بأن وفاة الحسن بن على فى سنة 51هـ وهو قول البخارى ، وإليه أميل وقال جعفر بن الصادق: عاش الحسن سبعًا وأربعين سنة ، وعلق الذهبى بقوله: وغلط من نقل عن جعفر أن عمره ثمان وخمسون سنة ، وقال الدكتور خالد الغيث: توفى وعمره ثمانٍ وأربعون ، وأكد ما ذهب إليه بقول ابن عبد البر: أن ولادة الحسن بن على: فى النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، هذا أصح ما قيل فى ذلك ، وبذلك جزم ابن حجر ، وبذلك يكون عمر الحسن عند وفاته ثمانى وأربعين سنة، وأنه توفى سنة 51هـ، والله تعالى أعلم .
وهكذا خرج الحسن بن على من الدنيا شهيدًا رضي الله عنه بأيدى الغدر والخيانة بعد أن قدم عملاً جليلاً ومشروعًا إصلاحيًا فبريدًا ساهم فى وحدة الأمة وأعاد دورها الحضارى فى نشر دين الله فى الآفاق، وستظل الأمة الإسلامية مدينة لهذا السيد الجليل الذى حمل لواء الوحدة والألفة وحفظ الدماء وساهم فى الإصلاح بين الناس، وقدم بجهاده الرائع، وبصبره الجميل، مثالاً يقتدى به على مر العصور، وكر الدهور وتوالى الأزمان، فمواقفه الشامخة واستعلاؤه الكبير على حطام الدنيا، حفظها لنا التاريخ ولم تهملها الليالى ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf