(قصة آدم عليه السلام أساسٌ لفهم الواقع والإنسان والملكات)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: السابعة
صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م
الصَلْصَال لم ينظر آدم إلى الوراء ليبحث عن شجرة نسبه، نظر إلى الأمام ليصنع امتداده العظيم بزواجه وإنجابه، وأفلح في بناء أسرته العريقة الواسعة الباسقة.. بمقدورنا أن نصنع الشيء ذاته.
انظر أمامك واصنع نسبك وشجرتك بنفسك، تزوّج وأنجب، فهذه أسرتك وهذا نسبك، واضرب في الأرض.
لن تُسأل عن غيرك، ولن يُسأل عنك غيرك:
كُنِ اِبنَ مَن شِئتَ وَاكْتَسِب أَدَبًا *** يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ
إِنَّ الفَتَى مَن يقُولُ: هَا أَنَا ذَا *** لَيسَ الفَتَى مَن يقُولُ: كَانَ أَبِي!
آدم هو الأب وليس له أب، لم يكن قلقًا أو مكتئبًا لأنه بلا أب، ولا حزينًا لأنه الرجل رقم (١) في أسرته.. هكذا أنت فكن!
لا تعرف والديك ولم ترهم لسبب ما؛ وفاة، وضع غامض، خلاف عائلي عميق أنت ضحيته، حروب، حالات لجوء، سرقة واختطاف، اتجار بالبشر، الأسباب متنوعة والمؤدّى واحد أنك أعزل لا تنتمي لأسرة معروفة..
أجدادك القدماء معروفون، وهم بلا أبوين؛ ولذا سلموا من فساد الطباع الذي كثيرًا ما ينتقل بالجينات من الآباء إلى الأبناء، وسلموا من سوء التربية وتأثير البيئة البشرية المحيطة.
الآبائية- أحيانًا- تشوِّه الخيال وتجعل الابن على مسار والديه طوعًا أو كرهًا، وتُحَجِّم فرص الاختيار الحُرِّ الرشيد: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾.
آدم يُشكّل مرجعية طبيعية تُمَكِّن من الانفكاك عن سلطة الآباء والأجداد والبيئة السابقة غير الرشيدة.
وقصة آدم ليست تشريعًا كلها، ولكنها أساسٌ لفهم الواقع والإنسان والملكات والمواهب والإبداع والفطرة..
القرآن يخاطبنا بـ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ تذكيرًا بالأصل، وتحقيقًا للمساواة الأولية، فهل نستشعر أننا أبناء آدم حقًّا؟ وهل نعي معنى كوننا أبناء نبي؟
كان أبواك في منتهى الجمال جسدًا وروحًا!
بنتي اليتيمة! جدتك حواء كانت بلا أب ولا أم، تخيِّلي عندما تعرض لها مشكلة، أو يطرأ سؤال، أو هَم أو ألم.. لمَن كانت تشكو وتبوح؟
تلك الوردة الأولى النابتة في الطين ومن الطين، تتفتح للحياة والحب والأمل، وتحمل وتنجب وتنفث عطرها الجميل..كانت تعرف ربها السميع الرحيم القدير، وتعرف زوجها الحنون، وتنشغل بحياتها وذريتها وتدبير معيشتها..
نوح عليه السلام كان أبًا ثانيًا للبشرية؛ لأن الطوفان عمَّ الأرض.
وقد ذكر تعالى قصة ابنه الذي غرق، وقال: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾؛ تأكيدًا على مبدأ مسؤولية الإنسان عن ذاته وانفكاك الابن عن أبيه والأب عن ابنه: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾.
عيسى عليه السلام بلا أب وقد ملأ الدنيا ذكرًا وحبًّا وسلامًا.
وقصة آدم مرجع في تفسير ما أَشْكَل في شأن عيسى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
أراد الله أن ينفي كون عيسى إلهًا أو ابنًا للإله، تعالى الله، وأبو عيسى هو آدم، والجد يسمى أبًا، كما قال صلى الله عليه وسلم : «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْـمُطَّلِبْ».
فَضَّل اللهُ عيسى بالنبوة والرسالة، ورفعه إليه في السماوات العُلى، وكان آية للعالمين، وقلَّما يرد ذكره في القرآن إلا مقرونًا باسم والدته: ﴿إِذْ قَالَتِ الْـمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْـمُقَرَّبِينَ*وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْـمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
أحاول استحضار ذكريات الطفولة مع يتيم أصبح أبًا وربًّا لأسرة، أعصر الذاكرة لعلي أجد في سجلاتها أثرًا عن أول احتكاك واعٍ محفوظ مع (فهد)..
خُيّل إليَّ أني أقرأ الفرحة على ملامح وجهه الطيب حين سمع: (أبْشرْ لكْ بوْليدْ)، وأجد دفء حضنه وآثار قبلاته على خدي .. وشعرات وجهه التي تلمس جلدي الناعم فأجهش بالبكاء!
أجد صحبة المسجد والتلاوة
وصحبة الآباء الكبار الذين توقَّف نموهم في خيالنا، فلا يبرحون تلك السن التي تقارب الثلاثين..
وصحبة المتجر الصغير في القرية
وصحبة القهوة والشاي والكعك اللذيذ.. والنار والدخان..
وصحبة استبطاء الانتقال للمدينة (بريدة) بعد وعدٍ أكيد وبناءٍ مشيد..
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾.
هل قعدتُ في حجره؟ هل ضمَّني؟ هل حضنني؟ هل حملني على كتفيه كما أصنع مع أطفالي؟ هل حكى لي حكايات ما قبل النوم؟
كل ذلك قد كان وأكثر منه، ولكن الذاكرة تخون، أو لعل تدوينها لم يبدأ بعد!
أيّ الأبوين أشد تأثيرًا؟
أكثر الناس يتأثر بأمه أكثر ويتنكَّر لها أكثر!
ميولي اللُّغوية وحبِّي للشِّعْر وحفظي للكثير منه، ومن المفردات العربية والشَّعْبية الجميلة هو بعض سرها.
تكراري لاسمها وحديثها كلما حانت مناسبة يكشف عمق الارتباط: ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، والآباء يشمل الأمهات.
إن لم يكن لك أب فلك رب، وكم من مربٍّ أو مربية حضنوا وحنوا وقاموا مقام الوالد، ورب أخٍ لك لم تلده أمك!
إِن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإِخَاءِ فَإِنَّنَا *** نَغْدُو وَنَسْرِي فِي إِخَاءٍ تَالِدِ
أَوْ يَختَلِف مَاءُ الوِصَالِ فَمَاؤُنَا *** عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِن غَمَامٍ وَاحِدِ
أَوْ يَفتَرِق نَسَبٌ يُؤَلِّفْ بَيْنَنَا *** أَدَبٌ أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الوَالِدِ(
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 37-40
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: