(الروح التي نُفخت في آدم هي روح خاصة)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: التاسعة
صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م
تعرف كتاب «الروح» لابن القيم؟
كنتُ أسمع مَن يشكِّك في نسبته لابن القيم حتى قرأته قبل سنة، فأدركتُ أن روح ابن القيم تسري في الكتاب، وطريقته في التأليف وسرد الأقوال والترجيح، حتى إنه ذكر اسم شيخه «ابن تيمية» عدة مرات في الكتاب، ولا يوجد ما يدعو للشك في صحة نسب الكتاب، فهو ابنٌ صريح لابن القيم لا يختلف عن سائر أبنائه!
ووجدت أن الروح عند ابن القيم: جسم نوراني علوي خفيف حيّ متحرِّك يسري في الأعضاء سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم.. وساق نحو مئة دليل على ما ذهب إليه.
واليوم بمقدورك أن تقول: تسري الروح في الجسد سريان الكهرباء في الموصلات، أو النت في الأجهزة!
ويظل النص المحتكم إليه هو: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
فالروح في ماهيتها وجوهرها من عالم الغيب الذي استأثر الله به، وهذا لا يمنع البحث في تأثيراتها وأنواعها وصلتها بالجسد وعلاقتها بالنفس.. وهو موضوع كتاب ابن القيم، وبَحْث الغزالي في «الإحياء»، وفي «معارج القدس في مدارج النفس».
ومع تقدم العلوم الطبية والمادية ظلت الدراسات المتعلقة بالنفس والروح بعيدةً عن تحقيق تقدم ملموس أو اختراق علمي يناسب ما تحقق في سائر العلوم!
حتى يقال: إن علم النفس أقرب إلى الملاحظات من كونه علمًا قائمًا بذاته، وهو في الحقيقة علم مهم، ولكنه لم ينضج بعد.
ولا يبعد أن يطلق لفظ الروح على معنى عام وآخر خاص، فالروح التي نُفخت في آدم هي روح خاصة، سرت في الطين سريان الماء في الورد، فحوَّلته خلقًا آخر.
وليست من ذات الله تعالى الله، فقصة آدم مثل قصة عيسى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾، ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾.
نفخةٌ علوية مخلوقةٌ حادثة قطعًا بعد أن لم تكن، وليست جزءًا من الله كما يتوهَّم مَن لا يعلمون.
وهي بهذا (معنى عام) تحقق به شيئان:
أولهما: الحياة، فتحول الطين اليابس إلى حيٍّ متحرِّك يأكل ويشرب ويحس..
وهذا قدر يشترك فيه مع غيره من الدواب والبهائم الحيَّة، ولذا تسمَّى: (ذوات الأرواح)، وتُقاسِم الإنسان بعض خصائصه وأحكامه، مثل: عدم إيذاء ذوات الروح أو العدوان عليها أو حرمانها من حقها المشروع، حتى يحرم إزهاق روحها إلا لمصلحة من أكل أو نحوه، ويجب توفير المأكل والمشرب والمكان وسائر الاحتياجات اللازمة لها، ويؤجر العبد على رحمتها والإحسان إليها، و«فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». والكبد الرطبة هي الحياة.
«وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ».
و«مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ».
وبعض الفقهاء يُحرِّمون تصوير (ذوات الأرواح)، فهو حكم عندهم يشترك فيه الإنسان وغيره من الطير والحيوان.
فالروح بهذا العموم تعني الحياة فوق النباتية أيًا كان مستواها، حيوانيًّا أو إنسانيًّا..
وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبيَّ‑ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا». فيحرم جعل الطير أو الحيوان هدفًا للتدريب على الرمي، أو السباق والتنافس في إصابة الهدف.
فهذه الروح هي التي بها يحيا الإنسان، ويصبح عقله وقلبه وجسده وسائر مضامينه في وضعية الجاهزية والقدرة على أداء المهمات الموكولة إليه أيًّا كانت، إذا لم يكن ثمَّ عائق آخر.
الثاني: المعنى الذي به تميَّز الإنسان عن الحيوان وأحدث عنده قابليةً واستعدادًا للتعقُّل والفهم والإدراك، وهذا ما حدث بالنفخة ذاتها وليس بشيء آخر، والله أعلم، مع اختلاف الجهاز البشري عن بقية الحيوان.
ولأن النفخة علوية تحقَّق بها الأمران؛ أمر الحياة العادية الموجودة في سائر الأحياء، وأمر التميز الخاص الذي به تفوق الإنسان عن بقية المخلوقات وهو موجب السجود لآدم والتكريم والاستخلاف.
ويُضرب المثل بمسؤولية الجسد والروح معًا برجل أعمى حمل رجلًا مقعدًا فدخل به بستانًا فسرق ثمرة فأكلاها معًا، فالذنب عليهما معًا، وكأن الأعمى يمثِّل الجسد والمعاق يمثِّل الروح!
ومع أن الروح مخلوقة محدثةٌ فهي باقية لا تفنى، والموت هو انتقال فحسب، فالنعيم والعذاب يكون عليها وعلى البدن، وقد يضمحل البدن ويتلاشى وتبقى الروح؛ كما نصَّ ابن القيم، وابن حزم في مواضع من كتبهما
ومن الجميل الرائع أن بقاء أرواح الصالحين في النعيم السَّرمدي الأبدي يوم الدين هو قول كافة العلماء، فهو إجماعٌ معروف مقطوع: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾.
بينما أرواح المجرمين والطُّغاة قد يلحقها الفناء والانقراض والزوال على قول طائفةٍ من أهل العلم.
الروح أثمن ما يملك آدم، وأثمن ما ورثت ذريته، وحين نريد التعبير عن حبِّنا العميق لولد أو صديق أو حبيب نناديه: (يا روحي)، وأرقى مستويات التضحية أن تفدي مَن تحب بروحك:
مَا لِي سِوَى رُوحِي وَبَاذِلُ نَفْسِهِ *** فِي حُبِّ مَن يَهْواهُ لَيْسَ بمُسْرِفِ
فلَئِنْ رَضِيتَ بِهَا فَقَدْ أَسْعَفْتَنِي *** يَا خَيْبَةَ المَسْعَى إِذَا لَمْ تُسْعِفِ
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 49-52
يمكنكم تحميل كتاب "علمني أبي" من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:
http://www.alsallabi.com/uploads/books/16630862370.pdf