الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

(البيان ميزة الإنسان...)

اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الحادية عشر

صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م

استمعتُ لمحاضرة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله عن أقدم اللغات، فأعجبني إيمانه العميق بالعربية وحديثه الروحاني عنها، كان يعدّها فرعًا عن السُّريانية المنسوبة لسوريا والشام القديم؛ الذي يشمل بعض العراق أيضًا..

واستشهد بما يقول إنه أقدم مخطوط وعمره أربعة آلاف سنة، وهو موجود في مناجم الفيروز بسيناء..

وأفاض بسرد الكلمات ذات الأصول العربية الموجودة في اللاتينية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، وخاصة الكلمات العلمية والطبية والتشريحية، والتي غالبها عربي ويوجد في تتبعها كتب مفردة..

العربية لغة الكتاب الأخير والرسول الخاتم، ولأمرٍ ما جمع الله بين العربية وبين التعقُّل في قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.

فما بال العرب اليوم أبعد شعوب الأرض عن الحكمة والبصيرة بمصالح دينهم ودنياهم؟

العربية من أوسع اللغات وأكثرها ثراء بالمفردات، والأسماء، والقواعد، والاشتقاقات، والبدائل..

ومع كثرة الكلمات الدَّالة على معنى واحد؛ إلا أن هذا لا يعني الترادف المحض، فلكل اسمٍ معنى خاص، ومستوى يحدِّد الاستخدام؛ كما يسمَّى الماء النازل من السماء بالسيل، والمطر، والغيث، والوَدْق، والحَيَا، والوابل، والْـمُزْن، والرَّش، والرَّذاذ، والدِّيمة.

في التنزيل امتنَّ الله تعالى على الإنسان باللغة فقال: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾.

اللغة رحمة، ومنَّة ومنحة من الرحمن الرحيم..

والتدرُّب على جودة الكلام وانتقاء العبارات والسلامة من آفات اللسان اللفظية؛ كالتردد في نطق بعض الحروف من تمام النعمة، ومثلها السلامة من اللَّحْن في اللسان العربي، والسلامة من الآفات المعنوية؛ كالبذاءة والثرثرة واللَّغْو والتأثيم!

زرتُ مرة مدارس الصُّمِّ، فأحسست بالكلام يحشرج في صدورهم، وصوت النفس يتردد في حلوقهم من غير أن يستطيعوا البوح فيتحول إلى ألمٍ عميق.

وأشد منهم ألمًا مَن يعرض له جلطة، أو حادث، فيعجز عن الحديث والرد والجواب والتعبير، فترى وجهه يتمعَّر ويتغيَّر ويتلوَّن.

وقريب من هذا وذاك مَن لا يجد أنيسًا يثق به، ويطمئن إليه، ويبثه شكواه، فينطوي على نفسه: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾.

﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.

فضجيج الصمت هو الكلام الثقيل الذي لم يقل، وبكاء القلب هو الحزن الذي لا يندلق من العيون.. بل يتراكم في القلب حتى يذيبه.. كما قال الأديب الزيَّات في رثائه الموجع لابنه «رجاء»:

«أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغَرِد، ويسكن البيت اللاعب، ويقبح الوجود الجميل؟!

حنانيك يا لطيف! ما هذا اللَّهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومَراقِّ البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب؟!

إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول! فهل لبيان الدمع ترجمان ولعويل الثاكل ألحان. إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية؟!».

والصمت الطويل على الأحزان قد يتحوَّل إلى علة تُثقل القلب، وتعمي البصر، وتصم الأذن، وتطرد النوم، وتُذهِب القدرة وتعجل بالموت:

كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى الْـمَوتَ شَافِيَا!

البيان ميزة الإنسان، وله أدوات حسية جسدية مادية؛ الحنجرة واللسان والأسنان والحنك وتوابع ذلك؛ ولذا تختلف حنجرة الإنسان عن باقي الكائنات..

وله أدوات عقلية معرفية تظهر في الحفظ، والفهم، والوعي، والتمييز بين الأشياء، وإدراك الرموز.

سمعت مرةً من شيخي الراحل صالح الحصين رحمه الله من مقوله أو منقوله أن اللغة تفكير ناطق، والتفكير لغة صامتة.

والذين يزعمون أن أصل اللغة هو تقليد الإنسان لمَن حوله من الطيور والحيوانات، وما حوله من أصوات الطبيعة؛ كحفيف الأشجار، وخرير المياه.. ينسون أن الطيور والحيوانات لم تأخذ لغتها مما حولها، بل ألهمها خالقها منطقًا معبِّرًا عن حاجتها: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمـُبِينُ﴾.

وسمَّى الله ما صدر من النملة: (قولًا)، ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ... فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا﴾.

وأصوات الحيوانات تكون تعبيرًا عن الخوف أو طلب النجدة أو الجوع أو طلب التزاوج أو الاحتجاج، وهي تتواصل بينها بهذه اللغة، ويتلقَّى عنها هذه الرسائل رعاتها والقريبون منها.

ولا يزال علماء الحيوان والطير يبحثون في طبيعة تواصلها فيما بينها مما لا يزال محجوبًا عن البشر..

لغة آدم إلهامٌ ربَّاني وتفَرُّدٌ إنساني.

وهي الركن الأساس في الحضارة والخلافة والعمران.

وتنوع اللغات كتنوع الشعوب والقبائل، أداة للتواصل والتثاقف والتبادل المعرفي، وبغض النظر عن كلام الإمام ابن تيمية في كراهة التحدث بغير العربية وضرره، إلا أن الظروف الإنسانية والحضارية تغيَّرت اليوم وأصبح تعلُّم اللغات ضرورة للشعوب الراغبة في خوض السباق الحضاري والاستعداد للتأثر والتأثير الإيجابي، وتدريسها للصغار مهم؛ لأن الطفولة هي الفترة الذهبية لتَلقِّي اللغة.

حجب كثيرين منا عن تعلم اللغات مبكرًا حديثٌ مكذوبٌ يتداوله العامة: «لا تتكلَّموا بالأعجمية؛ فإنه يورثُ النفاقَ».

وطالما شعرتُ بالندم على فوات تعلم اللغة الإنجليزية مما صنع حاجزًا كبيرًا عن أناس كان من الممكن أن أستفيد منهم أو أفيدهم، والمحاولات المتأخرة قد لا تعطيك أكثر من (أمشّي نفسي!)..

على أن هذا التعلُّم المهم والضروري يجب ألا يُضعف اعتزازنا بلغة الضاد، لغة القرآن، لغة أهل الجنة، لغة آدم؛ كما يقول بعضهم..

فاللغة هوية وانتماء.. اللغة أم.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 61-64

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://alsallabi.com/books/view/777


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022