الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

(ميّز الله تعالى آدم بمعرفة الأسماء...)

اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الثانية عشر

صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م

قصة تعلُّق قيس بن المُلَوِّح بليلى العامرية؛ من الأخبار العجيبة المعروفة تاريخيًّا؛ كما ذكر الذهبي، والمؤرِّخون، وكانوا بنجد زمن الدولة الأُموية، ومن جميل معانيه قوله:

تَعَلَّقْتُ لَيْلَى وَهِيَ غِرٌّ صَغِيرَةٌ *** وَلَمْ يَبْدُ لِلأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ

صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا *** إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبُرْ وَلَمْ تَكْبُرِ الْبَهْمُ

يُروى أن ابن أبي مُليكة المؤذِّن سمع مغنِّيًا من دار العاص بن وائل يترنَّم بهذه الأبيات فأعجبته، ثم ذهب ليؤذِّن فأراد أن يقول: حيَّ على الصلاة، فقال: حيَّ على البَهم، حتى سمعه أهل مكة، فغدا يعتذر إليهم.

يُروى أن والد قيس حجَّ به لعله يرعوي ويفيق، فسمع وهو بمنى رجلًا ينادي بنته: يا ليلى.. فصاح قائلًا:

وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى *** فَهَيَّجَ أَشْجَانَ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِيْ

دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا *** أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِيْ

كانت حبيبته ليلى العامرية، وكان يحب ترديد اسمها ويقول:

وَلَمَّا تَلَاقَيْنَا عَلَى سَفْحِ رَامَةٍ *** وَجَدتُ بَنَانَ العَامِرِيَّةِ أَحْمَرَا

وكان يقول:

أُحِبُّ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا وَافَقَ اسْمَهَا *** وأَشْبَهَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ مُدَانِيَا

ولا تكاد قصيدة من قصائده تخلو من ذكر اسمها، وله ديوان مطبوع.

ولا غرابة أن يدخل في شعر المجنون ما ليس منه، ولكن أصل القصة ثابت مشهور، خلافًا لما زعمه الدكتور طه حسين.

الإنسان يحب الشخص فيحب الاسم، ويحب كل ما يتصل به؛ ولذا خلَّدت البشرية أسماء الأنبياء والعظماء والأبطال والمبدعين، ولكنها خلّدت أيضًا- ولكن بالذم- أسماء المجرمين والقتلة والطغاة..

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾.

علَّم تعالى آدم أسماء الأشياء وألهمه توليد الأسماء، وفكرة التسمية ذاتها، وأعطاه القدرة على ابتكار الأسماء المناسبة للأشياء، فلو لم يكن لها أسماء فكيف نعرفها وكيف نحدِّدها للآخرين؟ سنكون مضطرين لجلبها والإشارة إليها، وكيف لنا أن نجلب البحر أو القمر أو الصحراء أو الأموات؟!

ولذا صرنا نسمِّي كل شيء حتى الشوارع، والبيوت، والغرف، والقطط، والأشجار، وما لا يحتاج إلى أسماء؛ لأن فكرة التسمية تريحنا من عناء طويل!

بعضهم يقول: علَّم آدمَ أسماء كل شيء، والأقرب: أنه علَّمه أسماء الأشياء المتاحة المتوافرة عنده، وأهمها: أسماء الله الحسنى، ومنها معرفته باسم نفسه، ومعرفته باسم حواء؛ لأنها خلقت من حيٍّ؛ كما قال ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما.

معرفة الأسماء ليست منشطًا صوتيًّا لغويًّا فحسب، كلا؛ بل هي منشط إدراكي معرفي يعني القدرة على معرفة خصائص الأشياء، ووظائفها، ومكوناتها، والفروق بينها، فهي معرفة تقوم على أساسها الحضارة، وواضح أن هذا التعريف هو لتأهيل آدم للخلافة في الأرض.

معرفة الأسماء تقتضي معرفة الدلالة واللغة والقدرة على تخيُّل الأشياء وتصوُّرها، وعلى النطق بحروفها وأسمائها.

ميَّز الله آدم بالعلم، وأراد منه أن يسعى ويطلب المزيد، أما رواية العهد القديم فهي توحي بذم المعرفة، وأن الأبوين أكلا من شجرة معرفة الخير والشر فطردا من الجنة، المعرفة الحقة سبب للنجاة، وليست سببًا للحرمان والطرد.

نجح آدم فيما عجزت عنه الملائكة، واعتذرت بأنه لا علم لها لأن الله لم يُعَلِّمْها.

إدراك آدم للأشياء التي حوله والمتعلِّقة بالخلافة في الأرض تفصيلي، وإدراك الملائكة كُلِّي تعميمي، فهي ميزة آدمية وفضيلة بشرية واصطفاء ربَّاني؛ ولذا تولَّى آدم مهمة إخبار الملائكة بأسماء الأشياء!

ولذا كانت الموسوعية والمعرفة متصلة بحفظ الأسماء وإدراك معانيها، والذين يحفظون أسماء الناس ومعلوماتهم هم الأكثر قربًا منهم وتأثيرًا فيهم.

معظم كلامنا أسماء، وروابط بين الأسماء؛ ولذا كان أول ما نطق به آدم: «الحمد لله رب العالمين».

(الحمد) اسم، و(الله) اسمٌ لذاته سبحانه، و(الربّ) اسم، و(العالم) أو (العوالم) أو (العالمون) أسماء.

وحين نقول: الكلام اسم وفعل وحرف، فهذا يحتمل أن الاسم هو الأصل، وأن الأفعال والحروف مشتقة منه، والأفعال صادرة عن أشخاص، والحروف روابط..

حين أخبرني طفلي بأنه يحفظ أسماء صغار الغنم والإبل والبقر، بُهرت من ذاكرته، وأدركت أنه يتكلم بمعلومات صحيحة، ولكني لم أكن أحفظ تلك الأسماء، فذهبت أتعرَّف أسماء صغار الحيوانات والطيور وألقابها عند العرب مثل: صغير المعز: العَنَاق، صغير الأسد: الشِّبْل...

اسألنا نحن الفلاحين عن التمر تجد أسماء أنواعه، وخصائص كل نوع، وما نطلقه عليه في كل مرحلة، واسم الرَّطب واليابس منه، واسم المتفرِّق والمتجمِّع.. بينما عامة الناس لا تعرف إِلَّا التمر فحسب.

واسألنا نحن البدو عن المطر، وأشجار البادية ونباتاتها، وهوامها وحيواناتها، وألوانها وأمراضها وأعراضها..

اذهب لليابان تجد معرفة أسماء المخترعات؛ كما قال حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:

وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظًا وَغَايَةً *** وَمَا ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ

فَكَيْفَ أَضِيقُ اليَوْمَ عن وَصْفِ آلَةٍ *** وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لمُخْترَعَاتِ

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 65-72

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://alsallabi.com/books/view/777


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022