الخميس

1446-06-25

|

2024-12-26

(حتى الملائكة تسأل...)

اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: السادسة و العشرون

ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م

ظل جفري لانج مسيحيًّا بحكم النشأة حتى بلغ الثامنة عشرة حيث تحوَّل إلى ملحد؛ لعدم قدرة عقله على استيعاب فكرة الألوهية المثلَّثة، وفي سن الثامنة والعشرين قرأ كتابًا في تفسير القرآن، فوجد إجابات متماسكة ومنطقية دعته إلى إعلان إسلامه..

وهو بهذا يتفق مع ما يقوله محمد أسد؛ من أن فكرة التثليث والتجسد الإلهي لا تبعد الناس عن الكنيسة فحسب، بل عن الإيمان برمته.

عنوان الكتاب الذي اقتبسته منه: (حتى الملائكة تسأل) جاذب ومعبِّر وواقعي، ففي سورة البقرة تجد الملائكة تسأل ربَّها عن الحكمة في خلق آدم..

وهذا إلهام للبشر أن يتأمَّلوا ويتفكَّروا في حكمة خلقهم، وفي أنفسهم، وفي الكون من حولهم.

سألت الملائكة، ولم يسأل آدم ولا حواء.. لم؟

لم يبدآ بالسؤال، بل حاولا الاكتشاف وفق الإلهام والقدرة على التفكير، وقد سأل إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمـَوْتَى﴾، وسأل موسى عليه السلام: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾.

حين يكون السؤال معنى متحرِّكًا داخل الإنسان فهو لا يُطرح للاستعراض أو التعجيز أو التعنت أو الترف الفكري أو المغالطة أو التكلُّف.. ولا يتقحَّم ما لا سبيل له إليه من الغيوب والمتشابهات..

حين يكون السؤال ضرورةً معرفية وحقًّا إنسانيًّا بل وواجبًا إيمانيًّا فلن يتوقف موسى عند شرط الخضر عليه السلام: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾، على أنه وعده ابتداءً بالكشف عما أشكل، ولكنه لم يصبر!

حين يكون السؤال استزادةً من الفهم، وتوسيعًا لدائرة الوعي؛ فهو منهج نبوي يسمع ولا يقمع، وحين قال ضِمام بن ثعلبة رضي الله عنه: إنِّي سائلُك فمُشَدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تَجِدْ عليَّ في نفسك. أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»!

وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل كثيرة وأجابهم عليها، ومنها ما جاء جوابه في القرآن: ﴿يَسْأَلُونَكَ.. ﴾، وما أرشد الله نبيه صلى الله عليه وسلم إليه: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ... ﴾، ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾.

توجيهٌ مذهلٌ في معالجة الشك بالسؤال.. والغالب أن المراد به أمته صلى الله عليه وسلم، وتقرير أن المعرفة الصادقة تُؤخذ من أربابها مَنْ كانوا..

حين يكون السؤال كُوَّةً ينبثق منها النور؛ لأنه بحث في الممكن والمقدور، وليس في المتشابهات والغيبيات؛ التي لا سبيل للعقل إليها.. فهو يستدعي الجواب الحكيم المناسب، ولا يجعل العالم رهينة الجاهل، ويبقي الباب مفتوحًا للمزيد من التحرِّي والتدقيق والبحث، فختام الجواب: (والله أعلم)، وقد يكون الجواب كله: (لا أعلم.. لا أدري..).

من الخير أن تبقى بعض الأسئلة مفتوحة؛ لتنشيط حركة العقل، وترك فراغات معرفية تحفز على التزوُّد: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.

مشكلة العلم، ومشكلة الإيمان، ومشكلة الحياة هي: التقليد الأعمى، والتوقف عن النمو، والغرور بقليل المعرفة وظاهرها: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.

ثَمَّ مسائل عويصة وشائكة من الغرور التسرُّع فيها بجواب يُغلق الباب ويشل الفكر، أو الخروج منها بحالة من الانسلاخ ونبذ الإيمان.

أبقِ للمستقبل حقًّا.. وربما عثرت على الجواب، أو عدلت عن السؤال، أو نقلته إلى ميدان آخر..

أمر الله بالسؤال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وعَدَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم شفاء للعِيِّ، وسمَّاه الخليل بن أحمد مفتاحًا لأقفال العلوم، وتواصى به العلماء، حتى لحظ عبد الله بن المبارك طالبًا لا يسأل فمازحه وقال:

إِنْ تَلَبَّثْتَ عَنْ سُؤَالِكَ (عَبْدَ اللـ *** ـــهِ)تَرْجِعْ غَدًا بِخُفَّيِّ حُنَيْنِ

أَعْنِتِ الشَّيْخَ بِالسُّؤَالِ تَجِدْهُ *** سَلِسًا يَلْتَقِيكَ بِالرَّاحَتَيْنِ

وَإِذَا لَمْ تَصِحْ صِيَاحَ الثَّكَالَى *** رُحْتَ عَنْهُ وَأَنْتَ صِفْرَ الْيَدَيْنِ

شيوخ كانوا يُعلِّمون تلاميذهم كيف يلحُّون في السؤال، وليس التلقِّي والتلقين وهز الرؤوس والسمسمة!

المعرفة الإنسانية هي حرث الأسئلة الملغومة داخل كل جوابٍ جاهز، وتوليد الأسئلة في رحم كل تقليدٍ أعمى، واستفهام البرهنة خلف كل ادعاءٍ مطلق.

وقد عقد القاضي ابن خلَّاد الرَّامَهُرْمُزي بابًا (القول في السؤال) وذكر آثارًا وأخبارًا، من أحسنها قول الزُّهري وابن سِيرين: «للعلم خزائن وأقفلة، مفاتيحها المسألة».

ليس صحيحًا أن الله أحرق أولئك الملائكة الذين سألوا..

سؤال الملائكة جاء منسوبًا لجميع الذين خُوطبوا بالنبأ العظيم، خلافة آدم، وهل كان سؤالهم قياسًا على مشهد أثار استغرابهم من قبل، وعلى الأرض ذاتها؟ محتمل.

وسؤالهم يفتح للإنسان ميدان البحث عن معناه، وسر كينونته، ومقصد وجوده.

لم يُخلق آدم للتسبيح والتقديس المجرَّد كمَلَك، خُلِقَ ليعمر ويبني ويكتشف ويبدع ويحاول، ويحقِّق ذاته عبر السعي المتواصل للخير والحق والحب والعمل والعطاء، وصلته بالله زاده ووقوده وعصمته من اليأس والضياع، ومن البغي والعدوان.

سؤال الملائكة يبدو اليوم، وعبر الأحقاب، مشيرًا إلى الفساد العريض والتظالم وسفك الدم تحت ذرائع شتَّى؛ الذي حفل به تاريخ الحضارة!، فكيف بتاريخ التخلف والبدائية والجهل؟

والجواب الإلهي داعٍ للتأمل فيما هو أبعد، من المعاني الإيجابية، وقراءة الوجه الآخر في وجود الإنسان.. الوجه الذي ترجَّح مصلحته بيقين قاطع وإن كان ثَمَّ مفسدة.

﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فإن كنتم أعملتم القياس، وظننتم آدم في ميزان الأقوام المتخلِّفين المتوحِّشين ناقصي العقول، فالله يعلم من فضله وذريته ومزيَّته وتكريمه ورحمته ما لا تعلمون.

إنه عبد موصولٌ بالله؛ معرفةً وحبًّا وخوفًا ورجاءً، وموصول بالأرض؛ إعمارًا واكتشافًا وإبداعًا.. خُلِقَ ليُضيف للأرض قيمةً، وللشمس وللقمر وللنجوم وللسماوات، فوجوده فيها كشف إعجازها، وأظهر تسخيرها، وجلَّى مقاصدها وحِكَمَها ومراميها، وفتق أسرارها.

عبر قرون متطاولة كان الأنبياء عليهم السلام والأولياء والصِّدِّيقون والشهداء، وكانت الصلوات والدعوات والخلوات والخشوع والدموع، وكان الابتلاء والصبر، والكرب والفرج، والضيق والأمل، والحزن والسرور، والمحاولة والخطأ والصواب، والذنب والمتاب، والوصل والصدّ والعتاب.. وكان وكان وكان!

عبر قرون متطاولة كان الكشف والتعلُّم، والمغامرة والإبداع، والنجاح والفشل، والمشكلة والحل، والبحث والتعثُّر، والوصول والخدمات، والتسهيل والتطور، والنظريات المعرفية..

لكل منَّا أن يقرأ في حراك البشر وجهًا جميلًا طيبًا.. بعدما غلبت لغة التشاؤم، والتشاتم، والمؤامرة، والصراع، والقطيعة.. حتى نسينا نحن المسلمين- أو كدنا- حكمة الباري في خلق الحياة والبشر برهم وفاجرهم، خاطئهم ومصيبهم، مؤمنهم وكافرهم.

لكل منَّا أن يستشعر شيئًا من أسرار خلقه تحت ظل هذا الجواب الرباني: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، بدلًا من اليأس والقنوط، وطول المثول أمام مصاعب الحياة ومتاعبها، وإخفاقاتها وابتلاءاتها.. أو الرغبة في اختصار المسير، وانتظار المصير، واستعجال الرحيل.

لنؤمن بحكمة الحياة وجمالها؛ لأنها صادرة من الله الحكيم الجميل الطيب الصبور، وليكن هذ الإيمان دافعًا للاستمتاع بها وتذوق جمالياتها، دافعًا للإضافة الإبداعية علميةً أو أدبيةً، ولو كانت يسيرة، فالجود من الموجود، وليكن فعلنا للخير، وإحساننا لشركائنا فيها، وصبرنا عليهم تأويلًا حسنًا للجواب الإلهي العظيم.

ولنردِّد مع الملائكة، فيما أعيانا فهمه وإدراكه، جواب العجز عن معرفة الأسماء: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

ولنقتبس من آدم سر الإلهام والتفوق، والجرأة في عقله، والتواضع في خَلْقه وأصله، فلا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 143-147

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://alsallabi.com/books/view/777


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022