الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

العدالة الانتقالية في فتح مكة - المقدمة قادنا الحديث عن المصالحة لزوما إلى تناول مسألة تجيء بعد انعقاد المصالحة، وقبل الشروع في إجراءات الإصلاح، فبعد أن يتصافح الخصوم، وتهدأ عواطفهم الجياشة يصبح التفكير في الماضي القريب طبيعيا، وبالتأكيد فإن الماضي سيكون مليئا بالإشكالات والمظالم التي تصل في بعض مستوياتها إلى الدماء، وهنا يجب الاستفادة من رقة النفوس، وتدفق العواطف بأن يغلق الماضي بشكل قانوني يتوافق فيه الجميع على تجاوزه بشكل يكون فيه القانون هو سيد الموقف، وهذا ما يسمى في عالمنا اليوم بالعدالة الانتقالية وهي مرحلة تؤسس لسيادة القانون الدائمة، ولأننا ننطلق من قيمنا وتجربتنا التاريخية والمعاصرة فإننا سنأخذ ما حصل من عفو عام شامل في فتح مكة منطلقنا للحديث عن العدالة الانتقالية في مقالات ثلاثة ابتداء من هذا المقال الرابع العشر. سنمهد في الأول منها إلى الخلفية التي تأسس عليها العفو العام في فتح مكة، وتتمثل هذه الخلفية في ممارسة طويلة جاوزت العقدين من العداء المستحكم توجهه قريش إلى الإسلام كرسالة، وإلى النبي الكريم كإنسان مرسل، وإلى المسلمين كجماعة مؤمنة. ورأينا ضرورة هذا التمهيد لنلحظ

العدالة الانتقالية في فتح مكة - المقدمة قادنا الحديث عن المصالحة لزوما إلى تناول مسألة تجيء بعد انعقاد المصالحة، وقبل الشروع في إجراءات الإصلاح، فبعد أن يتصافح الخصوم، وتهدأ عواطفهم الجياشة يصبح التفكير في الماضي القريب طبيعيا، وبالتأكيد فإن الماضي سيكون مليئا بالإشكالات والمظالم التي تصل في بعض مستوياتها إلى الدماء، وهنا يجب الاستفادة من رقة النفوس، وتدفق العواطف بأن يغلق الماضي بشكل قانوني يتوافق فيه الجميع على تجاوزه بشكل يكون فيه القانون هو سيد الموقف، وهذا ما يسمى في عالمنا اليوم بالعدالة الانتقالية وهي مرحلة تؤسس لسيادة القانون الدائمة، ولأننا ننطلق من قيمنا وتجربتنا التاريخية والمعاصرة فإننا سنأخذ ما حصل من عفو عام شامل في فتح مكة منطلقنا للحديث عن العدالة الانتقالية في مقالات ثلاثة ابتداء من هذا المقال الرابع العشر. سنمهد في الأول منها إلى الخلفية التي تأسس عليها العفو العام في فتح مكة، وتتمثل هذه الخلفية في ممارسة طويلة جاوزت العقدين من العداء المستحكم توجهه قريش إلى الإسلام كرسالة، وإلى النبي الكريم كإنسان مرسل، وإلى المسلمين كجماعة مؤمنة. ورأينا ضرورة هذا التمهيد لنلحظ أن الطبيعي زمانا وحاضرا أن تميل القوى المنتصرة إلى الانتقام من كان سببا في آذاها وابتلاءاتها المتكررة، ولن نذهب بعيد فإننا لا نزال نعيش ما يفعلون حكام العراق الجدد لرموز الحكم السابق في العراق، ولكن كان العفو العام في فتح مكة شاهدا أثيرا لقيم تخطي المشاعر البشرية، والانطلاق نحو فضاء أرحب من التسامح والعفو مع القدر الكاملة على العدل إن لم نقل الانتقام. ثم نتعرض في المقال الثاني إلى حيثيات هذا العفو، والتوجيهات النبوية الكريمة التي صدرت فيه، وما روته لنا كتب السير والتاريخ والحديث، محاولين أن نستلهم العبر. وأما في المقال الثالث من العدالة الانتقالية، فإننا نعرض لأهم النتائج التي ترتبت على ذلك العفو على حركة التاريخ العام للمسلمين، وبالتأكيد سنقف عند بعضها لنخرج منها ما يفيدنا اليوم، ونحن نواجه مشاكل متعددة تكاد تذهب بأوطاننا.

تاريخ من العداء القرشي للنبي الكريم ودعوته والمسلمين

تنوعت مظاهر العداء ومست كل ما يتعلق بالإسلام، فكان العداء منصبا على مبادئ الإسلام، والرسول الكريم، وأصحابه من المسلمين. ونعرض هنا أمثلة ترسم صورة لهذا العداء؟ أولاً: العداء لمبادئ الإسلام: كان عداء قريش للدعوة الجديدة التي أرسل بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، واضحا ومستعرا، ومن وجوه ذلك: 1- اعتراضهم على مبدأ الوحدانية: لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [لقمان: 25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، قال تعالى: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ )( ) [الزمر: 3]. واستمر هذا الاعتراض لأكثر من عشرين عاما من العداء المتواصل. 2- رفضهم كون القرآن الكريم وحيا: كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله واعتبروه في بعض ردودهم له ضربًا من الشعر، قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ` لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس: 69، 70] 3- محاولة تشويه الدعوة: نظمت قريش حربًا دعائية دعوة الإسلام لتشويهها, وقاد هذه الحرب الوليد بن المغيرة، حيث حرض قريش على إعداد ردود يسمعونها للقادمين إلى مكة في موسم، وخلص إلى أن يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وأخيه وبين المرء وأبيه، وبين المرء وعشيرته. ثانيا: العداء لشخص النبي صلى الله عليه وسلم كما سعى أهل مكة رفض الرسالة نفسها فقد ناصبوا النبي صلى الله عليه وسلم العداء، وقاد رؤساؤهم قريش لمعادة شخصية للنبي الكريم، وأخذ هذا العداء أشكالا متنوعة استمرت حتى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ومع ما له صلى الله عليه وسلم من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحِمْل الثقيل، والعناء الطويل, منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيرًا، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزءوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة( ) يُكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخرًا: أما كُلمت اليوم من السماء؟ . ومن أمثلة هذا العداء: 1- اعتراضهم على اختيار الله للنبي لحمل الرسالة: اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن من أغنياء قريش، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) [الزخرف: 31]. يقصدون بذلك الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف. ونسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجنون، فرد عليهم الله تعالى بقوله: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [القلم: 2]، واتهموه بالكهانة قال تعالى: ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ) [الطور: 29]. واعتبروه كاذبا في رسالته، ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) [ص: 4]. وقد بلغ من أمر أبي لهب عم النبي الكريم أنه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه. 2- إيذاؤهم الجسدي للرسول الكريم: أ - قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه. بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته, أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. ولكن الله حمى رسوله من فعلة أبي جهل. ب- وعن ابن مسعود رضى الله عنه: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جَزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه. ج- ضربهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط, سفه أحلامنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد, وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا – لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول: «نعم، أنا الذي أقول ذلك», ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله. 4- كان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس عداوة له، وكذلك كانت امرأته أم جميل من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم, وكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنميمة, وتضع الشوك في طريقه، حتى أنزل الله فيهما قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد] 5- السعي لرفع حماية أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاع أمر حماية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم, وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا, فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد, أنهد فتى في قريش, وأجملهم، فلك عقله. ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فنقتله فإنما هو رجل برجل» قال: «والله لبئس ما تساومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا». 6- التخطيط لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم: أدركت قريش بأن موقفها يتأزم لو خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وحصوله على الحماية من أهلها، فخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وخططوا على اغتياله ليلا على أن يشارك في عملية الاغتيال ممثلا لكل بطن من بطون قريش، ولكن الله تعالى حفظ نبيه بأن لم يتواجد في بيته موعد اغتياله. 7- السعي لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة بعد فشل قريش في اغتيال النبي سعت بأن ترجعه قبل أن يصل المدينة فحددت جائزة مائة ناقة لمن يأتي به صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا. وقد اشتهر سراقة بن مالك بن جعشم من بين من حاول البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استطاع اللحوق بالنبي الكريم ولكن الله منعه من النيل من النبي، وعاد سراقة مؤمنا إثر ذلك. ثالثا: إيذاء ومحاربة مستمرة للمسلمين لم يقتصر عداء قريش على أصل الرسالة ونبيها الكريم، بل تعداه إلى المسلمين، حيث تعرضوا للتعذيب والتهديد، وهنا طرفا من ذلك الإيذاء بقصد إكمال الصورة التي بدأنها عن عداء قريش للإسلام. 1- صور من إيذاء قريش للمسلمين: أ- ما لاقاه أبو بكر الصديق لقد أوذي أبو بكر t، وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه, وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت، كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ب- بلال رضي الله عنه: ضاعفت قريش من أذاها للمستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، قال عبد الله بن مسعود t: «أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان, وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد» . ج- عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم: غضب موالي عمار ووالديه من بن مخزوم غضبًا شديدًا صبوا عليهم العذاب صبًّا، كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة.ويقلبونهم ظهرًا لبطن,( ) فيمر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فيقول: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» وجاء أبو جهل إلى سمية فقال لها: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول, فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها، وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ما تقدمه امرأة في سبيل الله، لتبقى كل امرأة مسلمة, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنو إليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله، بعد أن جادت سمية بنت خياط بدمها في سبيل الله. 2- الحصار الاقتصادي والاجتماعي في شعب بني هاشم قال الزهري: «ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا, حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها, أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب, وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم, ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل. وفي رواية: ... على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم. فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم من مكة ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- سعي قريش للإرجاع من هاجر إلى الحبشة بعد رفع الحصار على المسلمين بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه للهجرة إلى الحبشة، ولما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفدا للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة, إلا أن النجاشي رفض طلب قريش بإرجاع المسلمين المهاجرين إلى مكة . 4- محاولات منع المسلمين من الهجرة إلى المدينة عملت قيادة قريش ما في وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، واتبعت في ذلك عدة أساليب مثل أٍسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده كما فعلوا مع أبي سلمة وزوجته وابنه، بل تعدى بهم الأمر إلى السعي إلى اختطاف بعض من هاجر كما فعلوا مع عياش بن أبي ربيعة ( )، وهشام بن العاص السهمي . كما لجأت قريش للحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة شديدة الحرارة مثل مكة. مما لا شك فيه أن قريش حاولت جهدها وسعت بكل سطوتها إن توقف الدين الجديد بكل الأساليب والوسائل، واستمر عدائهم للإسلام ونبيه الكريم والمسلمين حتى بعد الهجرة وتأسيس النبي دولة الإسلام فيها، وكان أهم مثال لذلك العداء ما كان من سعي قريش وحلفائها لتجهيز جبهة سياسية وعسكرية سعت من خلاله للقضاء على الجماعة المسلمة وذلك في غزوة الأحزاب. وسنعرض في القادم الموقف الذي اتخدذ النبي الكريم بعد أن فتح مكة وصار الأقوى أمام خصوم الإسلام، وسنرى كيف أغلق ملفات الماضي متجاوزا عن كل إساءة، ورافضا لكل معاني الانتقام حتى لو كان الحق والقوة بصفه. إن هذا المعنى هو الذي نسعى جاهدين أن نوصله إلى أخواننا في الوطن سواء الحاكم منهم، أو الشعب بكل فئاته وتوجهاته، لأن دعوات الانتقام أو الإقصاء كلها لن تنفع الوطن، ولا تفيد أفراده.

 

الكاتب: د. علي الصلابي 

       أ. إسماعيل كريتلي 

المصدر: حركة التوحيد والإصلاح 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022