من المهم في البداية أن أؤكد على ضرورة وضع قانون للعزل السياسي، ذلك الذي يكون حاجزًا فاصلاً بين النظام السابق وما يسعى الليبيون لتأسيسه في دولتهم اليوم، والمقصود بالنظام هو كل سياساته وأدواته ورموزه وقوانينه التي عملت مجتمعة لتكريس ذلك الواقع الموصوف بالظلم والاستبداد والإقصاء، وهو ما دفع الليبيين للثورة عليه. وبالنسبة لي، فألتزم أثناء تقييمي للنقاش الدائر في بلادنا بشأن مسودة قانون العزل السياسي المنشورة حاليًّا بمنظومة القيم التي أؤمن بها وأراها من أصول الإسلام وشريعته التي ننادي بتطبيقها في ليبيا.
ومن هذه القيم والمبادئ التي تحكم تفكيري وما أطرحه من آراء حول العزل: أن لا يعارض أي قانون يصدر في العزل السياسي مبدأ "العدالة" التي تجب أكثر ما تجب مع الخصوم والمخالفين لك، وما قوله تعالى في سورة المائدة عنا ببعيد: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين للهِ شهداءَ بالقسطِ ولا يَجرِمنَّكم شنَآنُ قومٍ على ألا تعدلوا اعدِلوا هو أقربُ للتقوى واتقوا اللهَ إن اللهَ خبيرٌ بما تعملون﴾.
فالعدل يناقضه الظلم الذي حرمه المولى عز وجل على نفسه كما ورد في الحديث القدسي.
ومن الضروري أن لا ينتهك قانون العزل السياسي حرية الناس بمجرد الظنة والشبهة، أو لعزل أشخاص وأحزاب لمجرد الخصومة والمناكفة السياسية؛ فالحرية أساس تكليف الإنسان في هذه الحياة، وحرمانه أو الحد من حريته يتعارض مع أصل الأمر في الإسلام، وتحديدها يستوجب شروطًا وبينات وليس لمجرد الاشتباه أو الاختلاف الشخصي أو السياسي.
ويتساوى الأمر مع مبدأ وقاعدة المساواة بين الناس، وعدم التفريق بينهم في الحقوق والواجبات؛ «فلا فرق بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود إلا بالتقوى». وكما أشار إلى محلها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه القلب؛ أي: حيث لا يعلم الناس الأكثر تقى؛ فكان الالتزام بالمساواة وبناء القواعد والقوانين على الظاهر من أفعال الناس.
وأخيرًا لابد أن يرعى ويراعي قانون العزل مبدأ المواطنة الذي لا نفتأ نفتخر بأن إسلامنا قد أقره مع أول تأسيس لدولة الإسلام في المدينة؛ كما جاء في وثيقة المدينة أو الصحيفة التي وُضعت باتفاق بين كل مكونات المدينة الدينية والسياسية والعرقية، فشملت المسلمين واليهود والمشركين والعرب واليهود الوافدين إليها كذلك وغيرهم من المقيمين في المدينة.
وهنا أتذكر قوله تعالى في قصة ذي القرنين: ﴿قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرًا، وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرًا﴾. إذًا الإنسان يتغير الموقف منه بمجرد تغير موقفه وإلا صار ذلك ظلمًا، والله تعالى يقول: ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفْها ويؤتِ من لدنه أجرًا عظيمًا﴾.
من خلال هذه القيم والمبادئ نظرت للمسودة المطروحة حاليًّا لقانون العزل السياسي، فرأيته بعيدًا عن العدل، تدفعه الخصومات والمناكفات بين الأحزاب والشخصيات السياسية، وهذا يتطلب إعادة النظر إليه، وإعادة تنقيحه بما لا يوقعنا في الظلم والمظالم التي لا أخال أن شعبنا ما ثار إلا لإزاحتها.
وسياسيًّا فإن أي قانون للعزل السياسي لا يراعي مبادئ العدل والمساواة والحرية قد يجر البلاد إلى نفق مظلم، ويغرقنا في بحر من الدم؛ فأخطر ما يمكن أن يحدث للعملية السياسية في ليبيا أن تتجمد وتتعرقل بإقصاء الخصوم السياسيين، فيدفعهم ذلك لِلَّعب بعيدًا عن قواعد اللعبة السياسية القائمة على قبول الاختلاف والرضا بنتائج كل مراحل العملية السياسية.
وكما هو معلوم لدى المسلمين فإن الشريعة قائمة على دفع المفاسد وجلب المصالح، وهذا يحتم علينا أن لا نصدر قانونًا للعزل السياسي يجلب لنا المفاسد ويشق الصف، ولعل في تجربة الجارة مصر في دستورها الجديد ما يفيدنا حيث وردت فيه المادة 232 بخصوص العزل السياسي، والتي نصها:
"تمنع قيادات الحزب الوطني المنحل من ممارسة العمل السياسي والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور. ويقصد بالقيادات كل من كان، في الخامس والعشرين من يناير 2011م عضوًا بالأمانة العامة للحزب الوطني المنحل، أو بلجنة السياسات، أو بمكتبه السياسي، أو كان عضوًا بمجلس الشعب أو الشورى في الفصلين التشريعيين السابقين على قيام الثورة".
فالنص واضح، وحدد الأمر في أعضاء الحزب الوطني، وبشروط محددة. ونحن في ليبيا يمكن أن نعتبر -وهذا أمر بين- أن اللجان الثورية مثلت حزب النظام الشمولي، وقياداته معروفة، ومن تولى منها مناصب قيادية في الدولة لا يخفى على أحد.
فالتجربة المصرية بعد جدل طويل ونقاشات حادة انتهت إلى هذه المادة الواضحة، وضمنتها في الدستور، وتم الاستفتاء عليها ضمن الدستور المصري الجديد. ونحن اليوم أحوج إلى هذه الحكمة، وأن نحدد العزل السياسي داخل الدستور، ثم يستفتى عليه من قبل الشعب الليبي بدلاً من فرضية أن هناك مئاتٍ أو آلافًا تريد فرض آرائهم في العزل السياسي ولو بقوة السلاح.
أيضًا لا أدرى إن كان من قدم تلك المسودة من قانون العزل السياسي قد دار في خلده أن هذا القانون -وَفق هذه المسودة- يضعنا مع النظام السابق في نفس مستوى الإقصاء ونبذ الخصوم السياسيين ورفض الاختلاف السياسي عندما أصدر القذافي قانون حماية الثورة الذي صمم لإبعاد كل خصومه السياسيين وإنهاء الحياة السياسية وتعطيلها.
إن حماية الثورة لا تتم عبر قوانين تستلهم تجارب البلشفيين أو غيرهم، بل من خلال تأسيس للقيم والمبادئ في سلوك ونفوس وعقول المجتمع الليبي، تلك المبادئ التي أساسها العدل والمساواة ودفع الظلم، وتحويل هذه القيم إلى ثقافة شعبية تمنع الجَوْر والاستبداد والظلم.
وفي هذا المقام أتمنى من الشخصيات الليبية السياسية التي أصبحت مثار جدل ومتهمة بالتورط بالعمل مع النظام السابق ودعمه -وقد تجاوزت الستين من العمر، ولم يكن لها مواقف معادية لثورة 17 فبراير- أن تنسحب بقرارها الشخصي من العمل السياسي. ويمكن للدولة الليبية أن تؤسس مجلسًا أعلى للخبراء يضم إليه خبراء التخطيط والقانون والاقتصاد والتعليم والأمن والجيش ليقدموا الدعم الكامل لجيل الشباب المثقف المتعلم الذي انتمى لثورة فبراير ويريد الآن أن يُمنح فرصة بناء وطنه على أسس العدل والحرية والمساواة والعلم والتجربة؛ ليسهم هذا الشباب بحيويتهم وطاقتهم المتجددة ودعم الخبراء في الارتقاء والرقي بوطنهم وشعبهم في مدارج النهضة والحضارة.
وأما ما قرأته لبعض الأفاضل من أنني كيف لا أطالب بعزل من قاتل وتلطخت يداه بدماء الليبيين وكان قائدًا في كتائب القذافي الأمنية وأجهزته القمعية إبان ثورة فبراير؛ فهو خلط؛ فحديثي عمن أجرم في حق الليبيين كان هو محاكمتهم من قضاء نزيه وعادل ومستقل، وهذا الأمر كنت أؤكده حتى عند حديثي عن المصالحة وأنها لا تُعفي من انتهك حقوق الناس من المحاكمة العادلة، ولا تُسقط حق صاحب الحق في طلب محاكمته وتنفيذ أحكام القضاء في كل من يدينه القضاء، وهو ما دفعني إلى المطالبة قبل أكثر من عام بضرورة تفعيل القضاء وإصلاحه لنستطيع محاكمة كل متهم بانتهاك أي حق من حقوق الناس.
وهنا يجب أن يتأكد إخوتي الليبيون من أن المصالحة الوطنية لا تمنع العزل السياسي متى انطبقت شروطه العادلة على أحد، كما لا تمنع المصالحة الوطنية محاكمة كل من أجرم بحق المواطنين؛ فالمصالحة لا تسقط حقوق الناس إلا من عفا؛ فأتمنى فك الخلط الذي حاول بعض الكتاب والمعلقين تسويقه على أنها آراء لي وأنا منها براء.
وحاول بعض الإخوة مناقشتي في نصوص نسبوا إليَّ الاستدلالَ بها في سياق العزل السياسي، ولم يحدث أنني استدللت بها مثل:
- حادثة طلب النبي صلى الله عليه وسلم من وحشي أن يغيب وجه النبي الكريم بعد أن روى له تفاصيل قتله حمزة رضي الله عنه، ثم حاولوا اعتبار مقولة النبي الكريم لوحشي أن "غيِّب وجهك عني" عزلاً سياسيًّا، رغم أن وحشي لم يُذكر يومًا أنه كان ذا منصب أو قيادي لدى قريش، بل كان من عامة الناس، وفسح له الإسلام فرصة التوبة والمشاركة في المعارك ضد المرتدين إلى أن شرفه الله بقتل مسيلمة الكذاب. فأي عزل يتحدث عنه أولئك الإخوة في قصة وحشي؟!
- قصة عزل سعد بن أبي وقاص من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد شكوى أهل الكوفة؛ فهذا أمر متوقع أن يُولَّى على الناس من يرضونه، ولم يكن طلب العزل من خصوم سياسيين، بل وجهاء وأعيان الكوفة التي عُرف عنها كثرة النفور من الولاة، وربما يؤكد هذا حق المواطنين في اختيار وانتخاب المحافظين وعمداء البلديات؛ كما ورد في قانون الحكم المحلي الذي حاول رئيس الحكومة تعديله للتعيين، فيأخذ من الناس حقها في الاختيار.
ولا يصح هنا استخدام لفظة "عزل" على أن المقصود بها العزل السياسي لنظام مستبد كما حاول أحد الإخوة الاستدلال باستخدام الإمام مالك للفظة "العزل" عند تعليقه على عزل عمر رضي الله عنه لسعد رضي الله عنه، بل "العزل" هنا هو "التنحية عن المنصب" بناء على رغبة أهل الكوفة، وليس طعنًا في سعد الذي وصفه مالك بأنه "لن يأتي بعد عمر أعدل من سعد" رضي الله عنهما. وهذا كما قلت سابقًا يُعالج باستفتاء الليبيين على قانون العزل، أو ضمه للدستور والاستفتاء عليه، كما جاء في التجربة المصرية.
- وأما الاستدلال بتعليقي على الفوائد المترتبة على عزل الصديق لقادة المرتدين؛ فهذا أمر -كما ذكرت آنفًا- ينسجم مع رؤيتي للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فكل من شارك في قتل الليبيين وانتهك حقوقهم فمكانه القضاء العادل النزيه المستقل، ولا علاقة له بالعزل، بل بتحقيق العدالة فيهم.
طبعًا أشير إلى أن الصديق عزل أولئك القادة بعد رجوعهم عن الردة، ثم تحسنت أحوالهم في عهد عمر رضي الله عنهم للحد الذي سمح لطليحة الأسدي الذي ادعى النبوة وقتل اثنين من الصحابة رضي الله عنهم بالمشاركة في معركة القادسية، واشترط أن لا يقود أكثر من 100 جندي.
وما أراه أن ما فعله الصديق والفاروق في قادة الردة بعد رجوعهم إلى الإسلام هو عين العدل الذي لم يظلم فيه الناس بناء على الخصومة والمناكفات السياسية، كما هو واضح وجلي في مسودة قانون العزل السياسي المنشورة هذه الأيام. فلم أرَ فيها أية مراعاة للمصلحة العليا للوطن ولا تأسيسًا على العدالة والمساواة ومبادئ حقوق الإنسان.
لعلني أتذكر أن الليبيين نادوا في ثورتهم بحقهم في استرجاع حقوقهم المدنية والسياسية، وأن تصان حقوق الإنسان في ليبيا الجديدة، وهذا يعني أن نحميها بمنظومة من التشريعات العادلة البعيدة عن الظلم وعن تفصيلها لتطابق خصمًا سياسيًّا كما هو الحال في المسودة المقدَّمة حاليًّا لقانون العزل السياسي، وأقترح بدلاً من هذا الارتباك بشأنه أن تعقد حوارات موسعة ومطولة بين الليبيين تنتهي إما بجعل العزل السياسي جزءًا من الدستور القادم، أو قانون منفصل ولكن يستفتى عليه الشعب الليبي، ولا يصدر عن جهة تشريعية مؤقتة، ونبتعد بذلك عن الإصرار على الرأي الذي يذكرنا بذلك المبدأ الاستبدادي عند فرعون بقوله، كما نقل عنه القرآن الكريم: ﴿قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾. ونستبدل ذلك بمقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول أخي خطأ يحتمل الصواب".
وهذا يدفعني إلى تحية كل ليبي وليبية، وتأكيد تقديري لهم جميعًا، مع رجائي أن يرزق هذا البلد وشعبه كل خير وصلاح، وأن ينعم علينا بتأسيس دولة القانون والدستور والعدالة والمساواة والحرية، المستمدة من أصول شريعتنا ومبادئ عقيدتنا.
المصدر :الاسلام اليوم