الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

أ-معركة بُزَاخَة والقضاء على بني أسد: 
ثم سار خالد حتى نزل بأجا وسلمى، وعَبّى جيشه هنالك، والتقى مع طليحة الأسدي بمكان يُقال له: بُزَاخة ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه، ومن التفّ معهم وانضاف إليهم، وقد حضر معه عُيَيْنة بن حِصْن، في سبعمائة من قومه بين فزارة، واصطف الناس، وجلس طليحة ملتفاً في كساء له يتنبأ لهم، ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل، حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه وقال له: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحا كرحاه، وحديثاً لا تنساه، قال يقول عيينة: أظن أن قد علم الله سيكون لك حديثاً لا تنساه، ثم قال: يابني فزارة انصرفوا، وانهزم، وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون، ركب على فرس كان قد أعدها له، وأركب امرأته النّوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه. 
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه، وقام بنصره فكتب إليه: ليزدك ما أنعم الله به خيراً، واتق الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جدّ في أمرك ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلاّ نَكّلْت به، فأقام خالد ببزاخة شهراً يُصَعد عنها ويصوّب، ويرجع إليها في طلب الذي وصاه الصديق، فجعل يتردّد في طلب هؤلاء شهراً يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرّقه بالنار، ومنهم من رَضَخه بالحجارة، ومنهم من رَمَى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب. 

ب-وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم: 
لما قدم وفد بزاخة -أسد وغطفان- على أبي بكر يسألونه الصلح، خيّرهم أبو بكر بين حرب مُجلية أو خطة مخزية، فقالوا: يا خليفة رسول الله، أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الخطة المخزية؟ قال: تؤخذ منكم الحلقة والكُرَاع، وتتركون أقواماً تتبعون أذناب الإبل، حتى يُري الله خليفة نبيه والمؤمنين أمراً يعذرونكم به، وتؤدون ما أصبتم منا، ولا نؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة، وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: أما قولك تدون قتلانا، فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثاني: نعم ما رأيت. 

جـ-قصة أم زِمْل: 
كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الضُلاّل من أصحاب طليحة من بني غطفان إلى امرأة يقال لها: أم زِمْل -سلمى بنت مالك بن حذيفة في مكان يسمى ظَفَر-وكانت من سيدات العرب كأمها أم قِرْفة، وكان يُضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها، وعزة قبيلتها وبيتها، فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إليهم آخرون من بني سُلَيم، وطيئ، وهوازن، وأسد، فصاروا جيشاً كثيفاً، وتفحل أمر هذه المرأة، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يُقال: من نخسه فله مائة من الإبل، وذلك لعزها، فهزمهم خالد وعقر جملها، وقتلها وبعث بالفتح إلى الصديق. 

د-دروس وعبر وفوائد: 
ثقة الصديق بالله وخبرته الحربية: 

قول الصديق لعدي بن حاتم: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم. فيه مثال على قوة يقين أبي بكر رضي الله عنه، وثقته بنصر الله؛ فقد حكم على نتيجة المعركة مع طيئ قبل الدخول فيها، وفي أمر أبي بكر خالداً -رضي الله عنهما- بأن يبدأ بحرب قبيلة طيئ مع أنها أبعد من تجمع طليحة خطة حربية ناجحة، وذلك ليحول دون انضمام طيئ إلى طليحة، وليضطر من انضم إليه منهم إلى التخلي عنه، للدفاع عن قبيلتهم، ثم في إظهار أبي بكر أنه خارج جهة خيبر ليلاقي خالداً ببلاد طيئ تخطيط حربي بارع، وذلك لإرهاب تلك القبيلة والقبائل المجاورة، وتظهر براعة الصديق في اختيار الرجال، فاختار لهذه المهمة التي لها ما بعدها أبا سليمان خالد بن الوليد، الذي لم تنتكس له راية، وفي خطاب الصديق لخالد بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها: الدعاء لخالد الذي يفهم منه الثناء عليه بإحسان، كما يتضمن أمره بتقوى الله، وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزلل، واتباع الهوى، كما أمره بالجد والحزم مع الأعداء لأنهم مازالوا في فورة طغيانهم، وهذا موقف قوي يدل على حزم الصديق رضي الله عنه وبصيرته النافذة، فهناك قبائل لا تزال متحيرة ومترددة بين الحق والباطل، والهدى والضلال والخير والشر، والإيمان والكفر بحاجة إلى تأديب وردع حتى يزول طغيانهم، فالموقف من أبي بكر يقتضي أعلى درجات القوة والحزم والسرعة، فكانت منه القوة في محل القوة، كما كان منه اللين في محل اللين.
قال الشاعر: 

ووضع النَّدَى في موضع السيف للندى 
مُضرُّ كوضع السيف في موضع الندى


وفي موقف الصديق في عدم قبول استسلام هؤلاء المحاربين وعدم قبول الصلح إلاّ بحرب مجلية أو خطة مخزية إظهار عزة الإسلام وهيبة دولته، فكانت شروطه في الصلح قوية وكان من أشدها عليهم مصادرة أسلحتهم وخيولهم، وكان هذا الشرط مؤقتاً بظهور صدق توبتهم وخضوعهم لدولة الإسلام، وقد كان لابد منه لضمان عدم عودتهم إلى التمرد مرة أخرى. 

• نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها عليهم: 
قدم عدي على قومه طيئ، فدعاهم للرجوع للإسلام فقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبداً!! 
فقال: لقد أتاكم قوم ليُبيحُنّ حريمكم، ولتكنُّنه بالفحل الأكبر، فشأنكم به فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنّا حتى نستخرج من لحق بالبُزاخة منّا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم. فاستقبل عديُّ خالداً وهو بالسُّنح، فقال: يا خالد، أمسك عني ثلاثاً يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك، وذلك خير من أن تُعْجلهم إلى النار، وتتشاغل بهم ففعل، فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد، فهذا موقف استطاع فيه عدي أن يقنع قبيلته بفرعيها بني الغوث وبني جديلة بالتخلي عن معكسر طليحة والانضمام إلى جيش خالد بن الوليد، وهذا تحوُّل مهم في تقرير نتائج معركة بزاخة الحاسمة، فهذا موقف عظيم يسجل لعدي -رضي الله عنه- إلى جانب موقفه الأول حينما قدم على الصديق بصدقات قومه، وكان المسلمون بأمس الحاجة إلى المال آنذاك، ولقد كان إسلامه من أول يوم إسلام رجل العلم والفهم، فكان عن قناعة واختيار، وكان واثقاً من انتصار الإسلام والمسلمين في النهاية كما بشره بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم -يوم إسلامه، فكان لإيمانه القوي أثر في إقناع قومه في العدول عما توجهوا إليه من مناصرة أعداء الإسلام، ولم تكن قناعتهم إلى حد الحياد والانتظار حتى يروا لمن تكون الدائرة، بل انضم منهم ألف وخمسمائة إلى جيش المسلمين، مما يدل على مبلغ أثره فيهم، وجاء في رواية: أن قومه طلبوا من خالد بأن يقاتلوا قيساً لأن بني أسد حلفاؤهم، فقال لهم خالد: والله ما قيس بأوهن الشوكتين اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم، فقال عدي: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه، فأنا امتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! لا لعمر الله لا أفعل فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جميعاً جهاد لا تخالف رأي أصحابك، امض إلى أحد الفريقين، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، وفي إنكار عدي على قومه دليل على قوة إيمانه وغزارة علمه حيث والى أولياء الله، وإن كانوا بعيدين عنه في النسب، وتبرّأ من أعداء الله وإن كانوا من أقاربه، كما تظهر خبرة خالد بن الوليد الحربية حينما أمر عدياً بألاّ يخالف قومه في تمنعهم من مواجهة حلفائهم بني أسد وأن يوجههم إلى الوجه الجهادي الذي يكونون فيه أنشط على القتال. لقد كان الدور الذي قام به عدي في دعوة قبيلته إلى الانضمام إلى جيش المسلمين عظيماً، فكان دخول طيئ في جيش خالد أول وهن أُصيب به الأعداء؛ لأن قبيلة طيئ من أقوى قبائل جزيرة العرب، وممن كانت القبائل تحسب لها حساباً، وتنظر إليها باعتبارها على درجة من القوة بحيث كانت مرهوبة الجانب، عزيزة في بلادها، تتقرب إليها جاراتها بالتحالف معها، لقد التقى الجمعان بعد أن دب الوهن في نفوس الأعداء، فكتب الله النصر لجيش المسلمين، فسرعان ما طفقوا يقتلون ويأسرون حتى أبادوا جميع أعدائهم، وهرب قائدهم طليحة على فرسه، ولم يسلم منهم إلاّ من استسلم أو هرب، وبعد هذه الوقعة انتشر الضعف في نفوس المرتدين من قبائل الجزيرة، فأصبح الجيش الإسلامي لا يجد عناء في هزيمة من تجمع منهم في أماكن أخرى. 

أسباب هزيمة طليحة بن خويلد الأسدي: 
كانت هناك مجموعة من الأسباب ساهمت في هزيمة طليحة الأسدي منها: 
• إن المسلمين كانوا يقاتلون مدفوعين بعقيدة راسخة، ويقين بنصر الله، وحب في الشهادة، فكان حب الموت في سبيل الله تعالى سلاحاً معنوياً فتاكاً؛ فكان خالد يرسل للمرتدين هذه الكلمات القلائل: لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ولقد عرف العدو نفسه من خلال تعامله مع قوات المسلمين في المعارك التي خاضوها معه، صدقهم في تنفيذ هذا المبدأ، فقد سأل طليحة الأسدي قومه لما انهزموا في موقعة بزاخة مع جيش خالد بشيء كبير من الحنق والتعجب:(ويلكم ما يهزمكم؟) فقال رجل منهم: أنا أخبركم، إنه ليس رجل (منّا) إلاّ وهو يحب أن يموت قبله صاحبه، وإن نلقى أقواماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه. 

• كان لانضمام طيئ أثره في تقوية المسلمين وإضعاف أعدائهم، كما كان مقتل الصحابيين، عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم قد زاد من غيظ المسلمين ودفعهم إلى قتال أعدائهم، كما كان لتورية أبي بكر الصديق تأثير على طيئ، في عدم التعاون مع حلفائها وبقائها في مواضعها الأصلية، وأما التورية المشار إليها فإن الصديق أوهم الناس أنه متوجه إلى خيبر بدلاً من الجهة الأصلية التي حُدِّدت للجيش، كما كان لإفساح المجال لطيئ كي تقاتل قيساً كما أرادت شجعها على الاستقلال في الحرب؛ إذ لو أمرهم خالد أن يقاتلوا حلفاءهم من بني أسد كما أراد عدي بن حاتم لقصرت طيئ في حربها أيما تقصير، وغير ذلك من الأسباب. 

• من نتائج معركة بزاخة: 
القضاء على قوة أحد الأدعياء الأقوياء، وعودة فريق كبير من العرب إلى حظيرة الإسلام. فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام، ولم يقبل أحد من أسد ولا غطفان ولا هوازن ولا سليم ولا طيئ إلاّ أن يأتوه بالذين حرقوا ومثّلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردتهم. فأتوه بهم ... فمثل خالد بن الوليد -بالذين عدوا على الإسلام، فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم في الجبال، ونكسهم في الآبار، وخزق بالنبال وبعث بقرة بن هبيرة والأسارى، وكتب إلى أبي بكر: إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت في الإسلام بعد تربص، وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئاً حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين فقتلتهم كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه، وكان عيينة بن حصن من بين الأسرى فأمر خالد بشد وثاقه تنكيلاً به، وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه، إزراء عليه وإرهاباً لسواه، فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة مستهزئين، وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين: (أي عدو الله! ارتددت عن الإسلام!!) فيقول: والله ما كنت آمنت قط، وجيء به إلى خليفة رسول الله، ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها وأمر بفك يديه، ثم استتابه، فأعلن عيينة توبة نصوحاً، واعتذر عما كان منه وأسلم وحسن إسلامه. 
ومضى طليحة، حتى نزل كلب على النَّقع، فأسلم ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر، وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسداً، وغطفان، وعامراً قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر، ومرّ بجنب المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به! خلوا عنه، فقد هداه الله للإسلام وقد جاء عند ابن كثير: وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضاً وذهب إلى مكة معتمراً أيام الصديق واستحيَا أن يواجهه مدة حياته، وقد منع الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام، ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاحتياط لأمر الأمة؛ لأن من كان له سوابق في الضلال والكيد للمسلمين لا يُُؤمن أن يكون رجوعه من باب الاستسلام لقوة المسلمين فأبو بكر -رضي الله عنه- من الأئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم، ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم؛ فهو لذلك يأخذ بمبدأ الاحتياط لما فيه صالح الأمة، وإن كان في ذلك وضع من شأن بعض الأفراد، وهذا درس عظيم تتعلمه الأمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في الإلحاد، ثم ظهر منهم العودة إلى الالتزام بالدين. 
إن وضع الثقة الكاملة بهؤلاء وإسناد الأعمال القيادية لهم قد جرَّ على الأمة أحياناً ويلات كثيرة وأوصلها إلى مآزق خطيرة، على أن أخذ الحذر من مثل هؤلاء لا يعني اتهامهم في دينهم ولا نزع الثقة منهم بالكلية، وهذا معلم من سياسة الصديق في التعامل مع أمثال هؤلاء. 
هذا وقد حسن إسلام طليحة وأتى عمر إلى البيعة حين استخلف. وقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت، والله لا أحبُّك أبداً. فقال: يا أمير المؤمنين، ما تهتم من رجلين أكرمهما الله بيدي، ولم يُهنِّي بأيديهما! فبايعه عمر ثم قال له: يا خُدَع، ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى دار قومه، فأقام بها حتى خرج إلى العراق، وقد كان إسلامه صحيحاً ولم يُغْمض عليه فيه، وقال يعتذر ويذكر ما كان منه: 

ندمتُ على ما كان من قتلِ ثابتٍ 
وعُكَّاشةَ الغنميّ ثم ابن معبدِ 

وأعظمُ من هاتين عندي مصيبةً 
رجوعي عن الإسلام، فعلَ التعمُّد 

وتركي بلادي والحوادثُ جَمَّةٌ 
طريداً، وقد ما كنتُ غيرَ مطرَّد 

فهل يقبلُ الصديقُ أني مراجعٌ 
ومُعطٍ بما أحدثتُ من حدثٍ يدي 

وأني من بعدِ الضلالةِ شاهدٌ 
شهادةَ حقٍّ ليس فيها بملحدِ 

بأنّ إلهَ الناسِ ربي وأنني 
ذليلٌ وأنّ الدينَ دينُ محمدِ 


هـ-قصة الفجاءة: 
واسمه إياس بن عبد لله بن عبد يا ليل بن عمير بن خُفَاف من بني سُليم، قاله ابن إسحاق. وقد كان الصديق حرّق الفجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم، وسأل منه أن يجهز معه جيشاً يقاتل به أهل الردة، فجهز معه جيشاً، فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلاّ قتله وأخذ ماله، فلما سمع الصديق بعث وراءه جيشاً فردّه، فلما أمكنه الله منه، بعث به إلى البقيع، فجُمعت يداه إلى قفاه، وأُلقي في النار، فحرقه وهو مقموط، وكان الذي ألقى القبض عليه طريفة بن حاجز، وهذا يظهر لنا دور مسلمي سليم في محاربة المفسدين في الأرض والمرتدين. 
وهذه العقوبة بسبب غدر الفجاءة؛ أو لأنه قد يكون ارتكب مع ضحاياه من المسلمين جريمة الإحراق مرة أو مرات. 
و- ما قاله حسان فيمن قال لا نطيع أبا الفصيل، يعنون أبا بكر: 

ما البكرُ إلاّ كالفصيلِ وقد ترى 
أنّ الفصيلَ عليه ليس بعارِ 

إنا وما حجَّ الحجيجُ لبيتِه 
ركبان مكةَ معشر الأنصارِ 

نفري جماحمَكم بكلِّ مهندٍ 
ضربَ القُدارِ مبادي الأيسارِ 

حتى تكَنُّوه بفحْل هنيدةٍ 
يحمي الطروقة بازل هدّار 


3-سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي: 
أ-كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة، فمنهم من ارتد ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر في أمره فبينما هم كذلك؛ إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عُقْفان التغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب، وقد ادّعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصديق، فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها، فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها، مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، وتخلّف آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حرب بينهم، إلاّ أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عزمها، وحرّضها على بني يربوع، ثم اتفق الجميع على قتال الناس، وقالوا: بمن نبدأ فقالت لهم فيما تسجعه: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب فليس دونها حجاب. ثم استطاع بنو تميم إقناعها بقصد اليمامة، لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب، فهابه قومها وقالوا: إنه قد استفحل أمره وعظم، فقالت لهم فيما تقوله: عليكم باليمامة دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرّامة لا تلحقكم بعدها ملامة. فعمدوا لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة بن أبي جهل بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد، فبعث إليها يستأمنها، ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش لو عدلت، فقد ردّه الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه، فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمة، فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض، وقبلت ذلك، قال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطعمه بالخير، إذا طمع، ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع ثم قال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم. وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى قومها فقالوا: أصدقك؟ فقالت: لم يصدقني شيئاً، فقالوا: إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير صداق، فبعثت إليه تسأله صداقاً، فقال: ارسلي إليّ مؤذنك، فبعثته إليه، وهو شبث بن ربعي الرياحي-فقال: ناد في قومك: أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد -يعني صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة- فكان هذا صداقها عليه- ثم انثنت سجاح راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة فكرّت راجعة إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها بني تغلب، إلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عام الجماعة. 
كان مالك قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة، فلما اتصلت بمسيلمة ثم ترحلت إلى بلادها، ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوم في شأنه، وهو نازل بمكان يقال له: البُطاح، فقصده خالد بجنوده وتأخرت عنه الأنصار، وقالوا: إنا قد قضينا ما أمرنا به الصديق، فقال لهم خالد: إن هذا أمر لابد من فعله، وفرصة لابد من انتهازها، وإنه لم يأتني فيها كتاب، وأنا الأمير وإليّ ترد الأخبار، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البُطاح، فسار يومين ثم لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار، فلحقوا به، فلما وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة، بَثّ خالد السرايا في البُطاح يدعون الناس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلاّ ما كان من مالك بن نويرة فإنه متحير في أمره، متنح عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية فيهم، فشهد أبو قتادة- الحارث بن ربعي الأنصاري- أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا، فيُقال إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم. فظن القوم أنه أراد القتل، فقتلوهم، وقتل ضرار بن الأزور، مالك بن نويرة، فلما سمع خالد الواعية خرج وقد فرغوا منهم. فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه. ويُقال: بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه، فضُربت عنقه، وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق، وتكلم عمر مع أبي قتادة في خالد، وقال للصديق: اعزله فإن في سيفه رَهقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم سيفاً سلَّه الله على الكفار، وجاء متمم بن نويرة، فجعل يشكو إلى الصديق خالداً، وعمر يساعده، وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصديق من عنده.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022