2- القضاء في عهد الصديق:
يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه؛ فكان العهد الراشدي عامة، والجانب القضائي خاصة، امتداداً للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه، وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء في أمرين أساسيين:
• المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء، والتقيّد بما جاء فيه، والسير في ركابه، والاستمرار في الالتزام به.
• وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية الواسعة ومواجهة المستجدات المتنوعة.
كان أبو بكر -رضي الله عنه- يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم تُفصل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولاية خاصة مستقلة كما كان الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الناس على مقربة من النبوة، يأخذون أنفسهم بهدي الإسلام، وتقوم حياتهم على شريعته، وقلما توجد بينهم خصومة تُذكر؛ ففي المدينة عهد أبو بكر إلى عمر بالقضاء، ليستعين به في بعض الأقضية، ولكن هذا لم يعط لعمر صفة الاستقلال بالقضاء ، وأقر أبو بكر -رضي الله عنه- معظم القضاة والولاة الذين عينهم رسول الله، واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحدهما في عهده وسوف نأتي على ذكر الولاة وأعمالهم بإذن الله تعالى.
وأما مصادر القضاء في عهد الصديق -رضي الله عنه- هي:
1-القرآن الكريم.
2-السنة النبوية، ويندرج فيها قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3-الإجماع، باستشارة أهل العلم والفتوى.
4-الاجتهاد والرأي، وذلك عند عدم وجود ما يحكم به من كتاب أو سنة أو إجماع.
فكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى، فإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله، يقول عندئذ: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به، ويظهر أن الصديق يرى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل الشورى على أمر؛ إذ لا يجوز للإمام مخالفتهم، وهذا ما حكى عنه في القضاء فإنه كان إذا اجتمع رأي المستشارين على الأمر قضى به، وهذا ما أمر به عمرو بن العاص عندما أرسل إليه خالد بن الوليد مدداً؛ إذ قال له: شاورهم ولا تخالفهم، وكان رضي الله عنه يتثبت في قبول الأخبار، فعن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُورّث فقال: ما أجد لك في كتاب الله تعالى شيئاً، وما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيها السدس فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد ابن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه، وكان يرى أن القاضي لا يحكم بعلمه الشخصي، إلاّ إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم، فقد روي عن أبي بكر -رضي الله عنه -أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد، لم أعاقبه حتى تقوم البينة عليه، أو يكون معي شاهد آخر، وهذه بعض الأقضية التي صدرت في عهد أبي بكر رضي الله عنه:
1-قضية قصاص:
قال علي بن ماجدة السهمي: قاتلت رجلاً، فقطعت بعض أذنه، فقدم أبو بكر حاجاً، فرُفع شأننا إليه، فقال لعمر: انظر هل بلغ أن يقتص منه، قال: نعم، عليَّ بالحجّام، فلما ذكر الحجام قال أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إني وهبت لخالتي غُلاماً، أرجو أن يبارك لها فيه، وإني نهيتها أن تجعله حجّاماً، أو قصّاباً، أو صانعاً.
2-نفقة الوالد على الولد:
عن قيس بن حازم قال: حضرت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال له رجل: يا خليفة رسول الله، هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما لك من ماله ما يكفيك، فقال: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: ارضَ بما رضي الله به، ورواه غيره عن المنذر بن زياد، وقال فيه: إنما يعني بذلك النفقة.
3-الدفاع المشروع:
عن أبي مليكة عن جده أن رجلاً عضَّ يد رجل فأنذَرَ ثنيته (قلع سنه) فأهدرها أبو بكر.
4-الحكم بالجلد:
روى الإمام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن أبا بكر الصديق أُتِي برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها، ثم اعترف على نفسه بالزنا، ولم يكن أحصن، فأمر به أبو بكر فجلد الحدَّ، ثم نُفي إلى فدك، وفي رواية بأنه لم يجلد الجارية ولم ينفها لأنها استكرهت، ثم زوّجها إياه أبو بكر وأدخله عليها، وعندما سُئل الصديق عن رجل زنى بامرأة، ثم يريد أن يتزوجها قال: ما من توبة أفضل من أن يتزوجها، خرجا من سفاح إلى نكاح.
5-الحضانة للأم ما لم تتزوج:
طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية-أم ابنه عاصم- فلقيها تحمله بمُحَسِّر، ولقيه قد فُطم ومشى، فأخذ بيديه لينتزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال: أنا أحق بابني منك. فاختصمها إلى أبي بكر، فقضى لها به، وقال: ريحها، وحِجْرُها وفرشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه وفي رواية: هي أعطف وألطف وأرحم وأحْنا وأرأف، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج.
هذه بعض الأقضية والأحكام التي حدثت في عهد الصديق -رضي الله عنه -. هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها:
أ-كان القضاء في عهد الصديق امتداداً لصورة القضاء في العهد النبوي، بالالتزام به، والتأسي بمنهجه، وانتشار التربية الدينية، والارتباط بالإيمان والعقيدة، والاعتماد على الوازع الديني، والبساطة في سير الدعوى، واختصار الإجراءات القضائية، وقلة الدعاوى والخصومات.
ب- أصبحت الأحكام القضائية في عصر الصديق موئل الباحثين، ومحط الأنظار للفقهاء، وصارت الأحكام القضائية مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية، والآراء الفقهية في مختلف العصور.
جـ- مارس الصديق وبعض ولاته النظر في المنازعات، وتولي القضاء بجانب الولاية.
د- ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدي، وصارت مصادر الأحكام القضائية هي: القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي الاجتهادي مع المشورة.
هـ-كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف، ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم وإقامة الحق والشرع على جميع الناس، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام، إن لم ينفذها الأطراف طوعاً واختياراً، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوراً.
3-الولاية على البلدان:
كان أبو بكر يستعمل الولاة في البلدان المختلفة، ويعهد إليهم بالولاية العامة في الإدارة والحكم والإمامة، وجباية الصدقات، وسائر أنواع الولايات، وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للأمراء والولاة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحداً منهم إلاّ ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول ويرضاه كما حدث لعمرو بن العاص وكانت مسؤوليات الولاة في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالدرجة الأولى امتداداً لصلاحياتهم في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- خصوصاً الولاة الذين سبق تعيينهم أيام الرسول، ويمكن تلخيص أهم مسؤوليات الولاة في عصر أبي بكر وهي:
أ- إقامة الصلاة وإمامة الناس: وهي المهمة الرئيسة لدى الولاة؛ نظراً لما تحمله من معانٍ دينية ودنيوية، سياسية واجتماعية؛ إذ الولاة يؤمون الناس، وعلى وجه الخصوص في صلاة الجمعة، والأمراء دائماً كانت توكل إليهم الصلاة سواء كانوا أمراء على البلدان أم أمراء على الأجناد.
ب-الجهاد: كان يقوم به أمراء الأجناد في بلاد الفتح، فكانوا يتولون أموره و ما فيه من مهام مختلفة بأنفسهم، أو ينيبون غيرهم في بعض المهام كتقسيم الغنائم أو المحافظة على الأسرى، أو غير ذلك، وكذلك ما يتبع هذا الجهاد من مهام أخرى كمفاوضة الأعداء وعقود المصالحة معهم وغيرها، ويتساوى في المهمات الجهادية أمراء الأجناد في الشام والعراق، وكذلك الأمراء في البلاد التي حدثت فيها الردة كاليمن والبحرين وعمان ونجد، نظراً لوجود تشابه في العمليات الجهادية، مع اختلاف الأسباب الموجهة لهذه العمليات.
ت- إدارة شؤون البلاد المفتوحة وتعيين القضاة والعمال عليها من قبل الأمراء أنفسهم، وبإقرار من الخليفة أبي بكر، أو تعيين من أبي بكر رضي الله عنه، عن طريق هؤلاء العمال.
جـ- أخذ البيعة للخليفة: فقد قام الولاة في اليمن وفي مكة والطائف وغيرها بأخذ البيعة لأبي بكر -رضي الله عنه- من أهل البلاد التي كانوا يتولون عليها.
ح- كانت هناك أمور مالية توكل إلى الولاة أو إلى من يساعدهم ممن يعينهم الخليفة أو الوالي؛ لأخذ الزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، أو أخذ الجزية من غير المسلمين وصرفها في محلها الشرعي، وهي امتداد لما قام به ولاة الرسول في هذا الخصوص.
خ- تجديد العهود القائمة من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قام والي نجران بتجديد العهد الذي كان بين أهلها وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- بناء على طلب نصارى نجران.
د- كانت من أهم مسؤوليات الولاة إقامة الحدود وتأمين البلاد وهم يجتهدون رأيهم فيما لم يكن فيه نص شرعي، كما فعل المهاجر بن أبي أمية بالمرأتين اللتين تغنتا بذم الرسول، وفرحتا بوفاته وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في جهاد الصديق لأهل الردة.
س- كان للولاة دور رئيس في تعليم الناس أمور دينهم، وفي نشر الإسلام في البلاد التي يتولون عليها، وكان الكثير من هؤلاء الولاة يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والأحكام، وذلك عملاً بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعتبر هذه المهمة من أعظم المهام وأجلها في نظر الرسول وخليفته أبي بكر، وقد اشتهر عن ولاة أبي بكر ذلك. و يتحدث أحد المؤرخين عن عمل زياد والي أبي بكر على حضرموت فيقول: فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك.
وبهذا التعليم كان للولاة دور كبير في نشر الإسلام في ربوع البلاد التي يتولونها، وبهذا التعليم تثبت أقدام الإسلام سواء في البلاد المفتوحة الحديثة عهد بالإسلام أو في البلاد التي كانت مسلمة وارتدت، وهي حديثة عهد بالردة جاهلة بأحكام دينها، إضافة إلى أن البلاد المستقرة كمكة والطائف والمدينة، كان بها من يقرئ الناس بأمر من الولاة أو الخليفة نفسه، أو من يعينه الخليفة على التعليم في هذه البلدان.
وقد كان الوالي هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن إدارة الإقليم الذي يتولاه، وفي حالة سفر هذا الوالي فإنه يتعين عليه أن يستخلف أو ينيب عنه من يقوم بعمله حتى يعود هذا الوالي إلى عمله، ومن ذلك أن المهاجر بن أبي أمية عينه الرسول على كندة ثم أقره أبو بكر بعد وفاة الرسول، ولم يصل المهاجر إلى اليمن مباشرة وتأخر نظراً لمرضه فأرسل إلى (زياد بن لبيد) ليقوم عنه بعمله حتى شفائه وقدومه، وقد أقر أبو بكر ذلك، كذلك كان خالد أثناء ولايته للعراق ينيب عنه في الحيرة من يقوم بعمله حتى عودته.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه -يشاور الكثير من الصحابة قبل اختيار أحد من الأمراء سواء على الجند أو على البلدان، ونجد في مقدمة مستشاري أبي بكر في هذا الأمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما، كما كان أبو بكر -رضي الله عنه- يشاور الشخص الذي يريد توليته قبل أن يعينه، وعلى وجه الخصوص إذا أراد أن ينقل الشخص من ولاية إلى أخرى، كما حدث حينما أراد أن ينقل عمرو بن العاص من ولايته التي ولاه عليها الرسول إلى ولاية جند فلسطين، فلم يصدر أبو بكر قراره إلاّ بعد أن استشاره، وأخذ منه موافقة على ذلك، كذلك الحال بالنسبة للمهاجر بن أمية الذي خيّره أبو بكر بين اليمن أو حضرموت، فاختار المهاجر اليمن، فعينه أبو بكر عليها.
ومن الأمور التي سار عليها أبو بكر -رضي الله عنه- أنه كان يعمل بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تولية بعض الناس على قومهم إذا وجد فيهم صلحاء، كالطائف وبعض القبائل. وكان أبو بكر -رضي الله عنه- عندما يريد أن يعين شخصاً على ولاية يكتب للشخص المعين عهداً له على المنطقة التي ولاّه عليها، كما أنه في كثير من الأحيان قد يحدد له طريقه إلى ولايته، و ما يمر عليه من أماكن، خصوصاً إذا كان التعيين مختصاً بمنطقة لم تُفتح بعد ولم تدخل ضمن سلطات الدولة، ويتضح ذلك في حروب الردة، وفتوح الشام والعراق. وقام الصديق أحياناً بضم بعض الولايات إلى بعض، خصوصاً بعد الانتهاء من قتال المرتدين؛ فقد ضم أبو بكر كندة إلى زياد بن لبيد البياضي، وكان والياً على حضرموت، واستمر بعد ذلك والياً لحضرموت وكندة.
وكانت معاملة أبي بكر للولاة تتسم بالاحترام المتبادل الذي لم تَشِبْه شائبة، وأما عن الاتصالات بين الولاة وبين الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- فقد كانت تجري بصفة دائمة، وكانت هذه الاتصالات تختص بمصالح الولاية ومهام العمل، فقد كان الولاة كثيراً ما يكتبون لأبي بكر في مختلف شؤونهم يستشيرونه، وكان أبو بكر يكتب لهم الإجابة على استفساراتهم، أو يوجه لهم أوامره وكانت الرسل تأتي بالأخبار من الولاة سواء أخبار الجهاد، أو قبل ذلك على جبهات حروب المرتدين. كذلك كان الولاة يبعثون بأخبار ولاياتهم من تلقاء أنفسهم، وكان الولاة يتصل بعضهم ببعض عن طريق الرسل، أو عن طريق الاتصال المباشر واللقاءات، وتتمثل هذه اللقاءات والاتصالات بالدرجة الأولى بين ولاة اليمن وحضرموت بعضهم مع بعض، وكذلك الحال بالنسبة لولاة الشام، الذين كانوا كثيراً ما يجتمعون لتدارس أمورهم العسكرية بالدرجة الأولى، وكانت كثير من مراسلات أبي بكر -رضي الله عنه -تختص بحثِّ الولاة على الزهد في الدنيا وطلب الآخرة، وكانت بعض هذه النصائح تصدر على شكل كتب عامة رسمية من الخليفة نفسه إلى مختلف الولاة وأمراء الأجناد هذا وقد قسمت الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى عدة ولايات، وهذه أسماء الولايات والولاة:
أ-المدينة: عاصمة الدولة وبها الخليفة أبو بكر رضي الله عنه.
ب-مكة: وأميرها عتاب بن أسيد وهو الذي ولاّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستمر مدة حكم أبي بكر.
ت-الطائف: وأميرها عثمان بن أبي العاص، ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر عليها.
ث- صنعاء: وأميرها المهاجر بن أبي أمية، وهو الذي فتحها ووليها بعد انتهاء أمر الردة.
جـ-حضرموت: ووليها زياد بن لبيد.
حـ-زبيد ورقع: ووليها أبو موسى الأشعري.
خـ-خولان: ووليها يعلى بن أبي أمية.
ذ-الجند: وأميرها معاذ بن جبل.
س-نجران: ووليها جرير بن عبد الله.
ش-جرش: ووليها عبد الله بن نور.
ك-البحرين: ووليها العلاء بن الحضرمي.
ل-العراق والشام كان أمراء الجند هم ولاة الأمر فيها.
و-عمان: ووليها حذيفة بن محصن.
هـ-اليمامة: ووليها سليط بن قيس.
4-موقف علي والزبير -رضي الله عنهما- من خلافة الصديق:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر عليّ عن مبايعة الصديق -رضي الله عنهما- وكذا تأخر الزبير بن العوام، وجُلّ هذه الأخبار ليس بصحيح إلاّ ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن علياً والزبير، ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغسيل، وتكفين، ويبدو ذلك واضحاً فيما رواه الصحابي سالم بن عبيد -رضي الله عنه- من أن أبا بكر قال لأهل بيت النبي، وعلى رأسهم علي: عندكم صاحبكم، فأمرهم يغسلونه.
وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول، وهو يوم الثلاثاء، قال أبو سعيد الخدري: لما صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام، فدعا بالزبير فجاء، فقال له أبو بكر: يابن عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحواريّه، أتريد أن تشقَّ عصا المسلمين؟ فقال الزبير: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله، فقام الزبير، فبايع أبا بكر! ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علي بن أبي طالب فدعا بعلي، فجاء. فقال له أبو بكر: يابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟
فقال علي: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي، فبايع أبا بكر!
ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح أن الإمام (مسلم بن الحجاج) صاحب الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري- ذهب إلى شيخه الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة – صاحب صحيح ابن خزيمة – فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن الخزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوي بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بَدَنَة فقط، إنه يساوي بدرة مال، وعلق على هذا الحديث ابن كثير –رحمه الله- فقال: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق؛ فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، وفي رواية حبيب بن أبي ثابت، حيث قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج عليٌّ إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء، وهو متعجِّل، كراهة أن يبطئ عن البيعة. فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه، فجاؤوه به، فلبسه فوق قميصه وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد رضي الله عنه، فقال له: أشهِدْتَ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم.
قال له: متى بويع أبو بكر؟
قال سعيد: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة.
قال: هل خالف أحد أبا بكر؟
قال سعيد: لا. لم يخالفه إلاّ مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه.
قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟
قال سعيد: لا. لقد تتابع المهاجرون على بيعته!!
و أما علي -رضي الله عنه- فلم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين.
و يرى ابن كثير وكثير من أهل العلم أن علياً جدّد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى، أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، وجاء في هذه البيعة روايات صحيحة.
وكان علي في خلافة أبي بكر عَيْبَة نصح له، مرجِّحاً لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجه أبي بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما برز أبو بكر إلى ذي القصة، واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فو الله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً فرجع.
فلو كان علي رضي الله عنه -أعاذه الله من ذلك- لم ينشرح صدره لأبي بكر وقد بايعه على رغم من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك
-حاشاه عنه- من كراهته له وحرصه على التخلُّص منه، أغرى به أحداً يغتاله، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم.
5-(إنا معشر الأنبياء لا نُورَثُ ما تركنا صدقة):
قالت عائشة رضي الله عنها: إن فاطمة والعباس رضي الله عنهم: أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه: … لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلاّ عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة.
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مع فاطمة -رضي الله عنها- امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم لذلك قال الصديق: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلاّ عملت به، وقال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنعه فيه إلاّ صنعته.
وقد تركت فاطمة -رضي الله عنها- منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: وأما منازعة فاطمة أبا بكر -رضي الله عنهما- في ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس بمنكر، لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلما أخبرها بقوله كفت.
وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها، ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم.
وقال حماد بن إسحاق: والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -من أبي بكر -رضي الله عنهم جميعاً- إنما هو الميراث حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا نورث ما تركنا صدقة) فقبلوا بذلك، وعلموا أنه الحق، ولو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لكان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة -رضي الله عنهما- فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول، يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ذكره الرواة في كون فاطمة رضي الله عنها غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت فبعيد جداً لعدة أدلة منها:
أ-ما رواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة -رضي الله عنها- لهجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب إليّ أن أصل من قرابتي، وما فعل رضي الله عنه إلاّ امتثالاً واتّباعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب-لقد انشغلت عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول –في كل لحظة من لحظاته- بشؤون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها أول من يلحق به من أهله -ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يرو أحد، أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران.
هذا ومن الثابت تاريخياً أن أبا بكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فيء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلاّ أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر -فيما يختص بآبائهم- شيء من الجور أو الشطط، أو ما يشكونه من الحيف أو الظلم.
ولما توفيت فاطمة -رضي الله عنها- بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وُضِعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فو الله لا يصلي عليها غيرك؛ فصلّى عليها أبو بكر ودُفنت ليلاً، وجاء في رواية: صلى أبو بكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكبّر عليها أربعاً وفي رواية مسلم صلّى عليها علي بن أبي طالب.
هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمَّى علي أحد أولاده بأبي بكر، وقد احتضن عليٌ ابن أبي بكر محمداً بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية، ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله.
هذه بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق -رضي الله عنه- والتزم فيها بمتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكل دقة وحرص، رضي الله عنه وعن جميع الصحابة الكرام الطيبين الأبرار.