تاسعًا: سيرة طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- واستشهاده:
هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب القرشي التيمي, يجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرة بن كعب، ومع أبى بكر الصديق في تيم بن مرة، وعدد ما بينهم من الآباء سواء, وأمه – رضي الله عنه – الصعبة بنت الحضرمي امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي, أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة, وطلحة – رضي الله عنه – أحد العشرة الذين بُشّروا بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى.
1- إسلامه وابتلاؤه وهجرته: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلُوا أهل هذا الموسم، أفيهم أحد منْ أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم، أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نَخْل، وحرّة وسباخ, فإياك أن تُسبق إليه. قال طلحة: فوقع ما قال في قلبي، فخرجت سريعًا حتى قدمتُ مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة. قال طلحة: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر، وقلت: أتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلقْ إليه، فادخل عليه، فاتّبعه، فإنه يدعو إلى الحق وإلى الخير. وأخبر طلحة أبا بكر بما قال الراهب، فخرج أبو بكر بطلحة، فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قال الراهب، فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله، أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية، فشدّهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تيم، وكان نوفل يُدعى أسد قريش، ولذلك سُمّي أبو بكر وطلحة القرينين, هذا وقد أوذي طلحة في الله، ولقي أذى كبيرًا من المشركين، ومن عشيرته الأقربين، وبقي طلحة – رضي الله عنه – صابرًا على الأذى والعذاب حتى أذن الله عز وجل بالهجرة، ولما ارتحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا إلى المدينة لقيه طلحة قادمًا من الشام في عير، فكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب الشام، ثم مضى طلحة إلى مكة حتى فرغ من تجارته، ثم خرج بعد ذلك بآل أبي بكر؛ فهو الذي قدم بهم المدينة، فطلحة من المهاجرين الأوّلين – رضي الله عنهم-, ولما قدم المدينة آخى رسول الله بينه وبين أبي أيوب الأنصاري, وقيل كعب بن مالك الأنصاري، حين آخى بين المهاجرين والأنصار.
2- في غزوة بدر: كان طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، قد كُلف بتحسس عير قريش، وذلك لما تحيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصول عير من الشام لقريش، فقد بعث صلى الله عليه وسلم طلحة وسعيد بن زيد، رضي الله عنهما، يأتيانه بالأخبار، فخرجا وبلغا الحوراء، فلم يزالا مقيمين هناك حتى مرّت العير، فتساحلت، فعادى إلى المدينة بالأخبار، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خرج بالمسلمين في غزوة بدر فأسرعا لينضما إلى الجيش، إلاّ أنهما لم يدركا المعركة، وضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمهما وأجورهما، سهمًا كالمقاتلين، وأجرًا كالمجاهدين.
3- في غزوة أحد، أوجب طلحة رضي الله عنه: عن جابر قال: لما كان يوم أحد وولّى الناس كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناحية في اثني عشر رجلاً منهم طلحة، فأدركه المشركون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن لِلقوم؟ قال طلحة: أنا. قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا، فقاتل حتى قُتل. ثم التفت صلى الله عليه وسلم، فإذا المشركون، فقال: مَن لهم؟ قال طلحة: أنا. قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا. قال: أنت، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي الله (طلحة) فقال: مَن لِلقوم؟ قال طلحة: أنا. فقاتل طلحة قتال الأحد عشر، حتى قُطعت أصابعه فقال: حسبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون». ثم رد الله المشركين, وعند أحمد: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قلت بسم الله لرأيت يُبنى لك بها بيت في الجنة وأنت حيّ في الدنيا», وعن قيس بن حازم قال: رأيت يد طلحة شلاّء وقى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد, وجُرح في تلك الغزوة تسعاً وثلاثين، أو خمساً وثلاثين وشُلّت إصبعه – أي السبابة والتي تليها -, وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة, وعن عائشة وأم إسحاق بنتي طلحة قالتا: جُرح أبونا يوم أُحد أربعًا وعشرين جراحة، وقع منها في رأسه شجةٌ مربعة، وقُطع نساه – يعني العرق – وشُلَّت إصبعه، وكان سائر الجراح في جسده وغلبه الغَشيُ – الإغماء – ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع به القهقرى؛ كلما أدركه أحد من المشركين، قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب, حتى قال عنه صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع».
4- شهيد يمشي على الأرض: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء، فتحرك. فقال رسول الله: «اسكنْ حراء فما عليك إلاّ نبي أو صديق أو شهيد»، وعليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنهم – فلما علم طلحة بأنه سيموت شهيدًا وذلك بعد أن سمع تلك البشرى من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ظل يبحث عن شهادته في مظانها، فشهد المشاهد كلها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عدا غزوة بدر, فقد كان في مهمة كلفه بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما مرّ معنا، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
5- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه: عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا لأعرابي جاء يسأل رسول الله عمن قضى نحبه من هو؟ فكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقّرونه ويهابونه، قال: فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد – يعني طلحة – وعليّ ثياب خضر، فلما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أين السائل عمّن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: «هذا ممن قضى نحبه».
6- دفاعه عن إخوانه وإحسان الظن بهم: عن مالك بن أبي عامر، قال: جاء رجل إلى طلحة فقال: أرأيتك هذا اليماني، هو أعلم لحديث رسول الله منكم- يعني أبا هريرة – نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، قال: أما أن قد سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم نسمع، فلا أشك، وسأخبرك؛ إنّا كنا أهل بيوت، وكنا إنما نأتي رسول الله غُدوة وعشية، وكان مسكينًَا لا مال له – أبو هريرة – إنما هو باب رسول الله، فلا أشك أنه قد سمع ما لم نسمع، وهل تجد أحدًا فيه خير يقول على رسول الله ما لم يَقُلْ.
7- إنفاقه في سبيل الله: عن قبيصة بن جابر قال: صحبت طلحة، فما رأيت أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه, وعن موسى عن أبيه طلحة أنه أتاه ماله من حضرموت سبعمائة ألف، فبات ليلته يتململ. فقال: ما ظنّ رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك، فإذا أصبحت فادع بجفان وقصاع فقسّمه. فقال لها: رحمك الله إنك موفقة بنت موفق، وهي أم كلثوم بنت الصديق، فلما أصبح دعا بجفان، فقسّمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى عليّ منها بجفنة، فقالت له زوجته: أبا محمد، أما كان لنا في هذا المال من نصيب؟ قال: فأين كنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقي: قالت: فكانت صرة فيها نحو ألف درهم. وعن سُعدى بنت عوف المرية، قالت: دخلت على طلحة يومًا وهو خاثر ، فقلت: ما لك؟ لعل رابك من أهلك شيء؟ قال: لا والله، نعم خليلة المسلم أنتِ، ولكن مالٌ عندي قد غمنَّي. فقلت: ما يغُمُّك؟ عليك بقومك، قال: يا غلام ادعُ لي قومي، فقسّمه فيهم، فسألت الخازن، كم أعطى؟ قال: أربعمائة ألف, وعن الحسن البصري أن طلحة بن عبُيد الله باع أرضًا له بسبعمائة ألفٍ فبات أرقًا من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرّقه, وعن عليّ بن زيد قال: جاء أعرابي إلى طلحة يسأله، فتقرب إليه برحم فقال: إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضًا قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان، ودفعت إليك الثمن فقال: الثمن، فأعطاه وكان رضي الله عنه لا يدع أحدًا من بنى تيم عائلاً إلاّ كفاه وقضى دينه، وكان يرسل لعائشة أم المؤمنين كل سنة بعشرة آلاف، إنه طلحة الخير، وطلحة الفياض، وطلحة الجود، وقد سماه رسول الله بالفياض لسعة عطائه وكثرة إنفاقه في وجوه الخير، فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزورًا وحفر بئرًا يوم ذي قرد، فأطعمهم وسقاهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا طلحة الفياض». فسُمّي طلحة الفياض.
8- من فرائد أقواله ودُرَر جواهر كلامه: فمن أقواله: إن أقلّ عيب الرجل جلوسه في بيته ، ومما حفظ عنه قوله: الكسوة تظهر النّعمة، والإحسان إلى الخادم يكبت الأعداء . ولطلحة – رضي الله عنه – آراء ثاقبة وصحيحة في الناس، فكان لا يشاور بخيلاً في صلة ولا جبانًا في حرب .
9- شهادة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: لما حضر يوم الجمل واجتمع به عليّ فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهم غرب فوقع على ركبته، وقيل في رقبته، والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كاد يلقيه، وجعل يقول: إليّ عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه، وأدخله البصرة فمات بدار فيها، ويُقال: إنه مات بالمعركة، وإن عليًا لمّا دار بين القتلى رآه فجعل يمسح عن وجهه التراب، ثم قال: عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مُجندلاً في الأودية، ثم قال: إلى الله أشكو عُجري وبُجري، وترحّم عليه وقال: ليتني مِتُّ قبل هذا بعشرين سنة ، ولا شك أن طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، من أهل الجنة، فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعليّ في الجنة، وطلحة وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، والزبير وعبد الرحمن بن عوف في الجنة».ثم قال: وقد رُوي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو هذا ، ففي هذا الحديث منقبة واضحة لطلحة، رضي الله عنه؛ إذ شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة، وأكرِمْ بها من شهادة؛ فإنها تضمّنت الإخبار بسعادته في الدنيا والآخرة.
10- حفظ الله له بعد موته: إن الله حفظ جسد طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، بعد موته، فقد فُتح قبره بعد أكثر من ثلاثين عامًا، ونقلوه إلى مكان آخر، فلم يتغير منه إلاّ شعيرات في أحد شِقّي لحيته، فعن المثنى بن سعيد قال: أتى رجلٌ عائشة بنت طلحة فقال: رأيت طلحة في المنام فقال: قل لعائشة تحولني من هذا المكان، فإن النَّزَّ – الرطوبة أو الماء – قد آذاني. فركبت في حشمها، فضربوا عليه بناء واستثاروه. قال: فلم يتغير منه إلاّ شعيرات في أحد شِقّي لحيته، أو قال: رأسه، وكان بينهما بضع وثلاثون سنة، فرضي الله عن طلحة وسائر الصحابة أجمعين.
11- سعد بن أبي وقاص يدعو على من يقع في عثمان وعليّ وطلحة والزبير رضي الله عنهم: عن سعيد بن المسيب أن رجلاً كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعليّ -رضي الله عنهم- فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطًا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله عبرة، فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس، فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط، فسحقه حتى قتله. قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا ويقولون: هنيئًا لك أبا إسحاق. أُجيبت دعوتك.
المبحث الثاني
معركة صفين (37هـ)
أولاً: تسلسل الأحداث التي قبل المعركة:
1- أم حبيبة بنت أبي سفيان ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام: لما قُتل عثمان-رضي الله عنه- أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان؛ أرسلوا إليّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضرّجًا بالدم، وبخصلة الشعر التي نُتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها، وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمّخاً بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أُصيبت حين دافعت عنه بيدها, وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية, فورد النعمان على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص يُرفع تارة ويُوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضًا على الأخذ بثأره, وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية: كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلاّ فاعتزلنا. و آلى رجال الشام ألاّ يمسّوا النساء، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم, وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل الشام بشعة بشعة؛ مقتل الخليفة، سيوفًا مصلتة من الغوغاء على رقاب الناس، بيت المال منتهكًا مسلوبًا، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون، ولا غرابة بعد هذا إطلاقًا أن نرى إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام بالإصرار على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة، وهل نتصور أن يتم مقتل أمير المؤمنين وسيد المسلمين من حاقدين محتلين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه الجريمة البشعة؟!.
2- دوافع معاوية في عدم البيعة: كان معاوية-رضي الله عنه- واليًا على الشام في عهد عمر وعثمان، رضي الله عنهما، ولما تولّى الخلافة عليّ أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر، فاعتذر ابن عمر، فأرسل عليّ بسهل بن حنيف بدلاً منه، إلاّ أنه ما كاد يصل مشارف الشام (وادي القرى) حتى عاد من حيث جاء؛ إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع. لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتص علي – رضي الله عنه – من قتلة عثمان ثم يدخلوا البيعة, وقالوا: لا نبايع من يؤوي القتلة, وتخوفوا على أنفسهم من قتلة عثمان الذين كانوا في جيش علي، فرأوا أن البيعة لعلي لا تجب عليهم، وأنهم إذا قاتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قُتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقَتَلتُه في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية – رضي الله عنه – يرى أن عليه مسؤولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو وليّ دمه، والله يقول: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا). [الإسراء:33]، لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان، وأنه قُتل مظلومًا على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات – وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام أحدهم – واسمه مرة بن كعب – فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تكلمت، وذكر الفتن فقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم .
وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان وكان منشطًا ودافعًا قويًا للتصميم على تحقيق الهدف، وهو: عن النعمان بن بشير عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال: «يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثًا، فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إليّ به، فكتبت إليه به كتابًا.
لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيس في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليس لأطماع معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق؛ إذ كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن عليًا أفضل منه، وأولى بالأمر منه, وقد انعقدت البيعة له بإجماع الصحابة بالمدينة، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب.
3- معاوية يرد على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنهما: بعث عليّ -رضي الله عنه- كتبًا كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طُومارًا مع رجل، فدخل به على عليّ فقال له على: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلاّ القَوَد, كلهم موتور تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال عليّ: اللهم إنيّ أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليّ فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلاّ بعد جهد.
4- تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام واعتراض الحسن على ذلك: بعد وصول ردّ معاوية لأمير المؤمنين عليّ، عزم الخليفة على قتال أهل الشام. وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج من أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي فقال: يا أبه، دَعْ هذا فإنّ فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل: جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلاّ أن يخرج من المدينة قاصدًا الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك , وقد تم تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة إلى معركة الجمل.
5- بعد معركة الجمل أرسل أمير المؤمنين علّي جرير بن عبد الله إلى معاوية: ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين علي إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يُسمّى البصرة أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد وعشرون يومًا، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر, ورُوي شهران أو ثلاثة وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا، إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلى بالجامع الأعظم ركعتين، ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله، وكان على همذان من زمان عثمان، وإلى الأشعت بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هُنالك ثم يُقبلان إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد عليّ أن يبعث إلى معاوية – رضي الله عنه – يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنّ بيني وبينه وُدًا، فآخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه. فبعثه وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب وطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم، فرجع جرير إلى عليّ فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرًا؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابًا إلاّ أغلقته. فقال له جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك بدم عثمان، فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يُعْيِني جواب معاوية، ولأعجلنّه عن الفكرة، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة. فقام جرير مُغْضبًا فأقام بقرقيساء، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه, وهكذا كان الأشتر سببًا في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله الذي كان واليًا على قرقيسياء وعلى غيرها ورأسًا في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي. وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تبسم في وجهي، وقال صلى الله عليه وسلم: «يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحةُ مَلَك».
6- مسير أمير المؤمنين إلى الشام: استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس, وجهز جيشًا ضخمًا اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة إلاّ رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفًا.
وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخيلة, وهو على ميلين من الكوفة آنذاك، فتوافدت عليه القبائل من شتى إقليم العراق, واستعمل أمير المؤمنين عليّ أبا مسعود الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هانئ في أربعة آلاف، ثم خرج علي -رضي الله عنه- بجيشه إلى المدائن (بغداد) فانضم إليه فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل , وسلك رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيس على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء, فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي إلى الرقة, وعبر منها الفرات غربًا ونزل على صفين .
7- خروج معاوية إلى صفين: كان معاوية جادًا في مطاردة قتلة عثمان-رضي الله عنه- فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزوا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم، ومنهم أبو عمرو بن بديل الخزاعي, ثم كانت له أيد في مصر وشيعة في أهل «خربتا» تطالب بدم عثمان، رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36هـ، كما استطاع أيضًا أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين، مثل عبد الرحمن بن عديسي، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36هـ , وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليًا نهد إليكم في أهل العراق..فقال ذو الكلاع ألحميري: عليك أمرأي وعلينا امفعال .
وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان- رضي الله عنه- والقتال, وقد قام عمرو بن العاص، رضي الله عنه، بتجهيز الجيش وعقد الألوية، وقام في الجيش خطيبًا يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تبطلوه, وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي -رضي الله عنه- فقُدّر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقُدّر بسبعين ألف مقاتل، وقُدّر بأكثر من ذلك بكثير, إلاّ أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إلاّ أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام ولد عام (72هـ) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلقًا ممن شهد صفين، كما يتبين من دراسة ترجمته, والإسناد إليه صحيح , وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم، وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة. هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرون مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر.
وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في سهل فسيح، إلى جانب شريعة في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها، وجعلها في حيزه.
8- القتال على الماء: وصل جيش عليّ -رضي الله عنه- إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعًا فسيحًا سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعًا ما؛ إذ أغلب الأرض صخور ذات كدي وأكمات, فوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي -رضي الله عنه- يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعت بن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين انتصر فيها الأشعت واستولى على الماء, إلاّ أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال في أصله مفادها أن الأشعت بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات:9] قال معاوية: فما تريد؟ قالوا: خلوا بيننا وبين الماء. فقال لأبي الأعور: خلَّ بين إخواننا وبين الماء. وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين المسلمين، إذ استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي -رضي الله عنه- يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمّر عليها أميرًا، فتقتتلان مرة واحدة في اليوم، في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان تقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي، الأشتر، وحجر بن عدي، وشبث بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي، ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط، وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفَين، تُصان به الأرواح الدماء.
9- الموادعة بينهما ومحاولات الصلح: ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة طمعًا في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم، ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة – شهر المحرم – وردت من طرق ضعيفة, مشهورة، إلاّ أن ضعفها لا ينفي وجودها، كان البادئ بالمراسلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي إلى معاوية- رضي الله عنه- يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة، فردّ معاوية عليه بردّه السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القَوَد منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف عليّ من هذه القضية, كما أن قراء الفريقين، قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنجح تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه, وقد حاول اثنان من الصحابة، وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة، رضي الله عنهما، الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما أيضًا لنفس الأسباب السابقة، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما, وكذلك حضر مسروق بن الأجدع – أحد كبار التابعين- فوعظ، وخوّف ولم يقاتل .
وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال: «...ثم ذكر أهل السير كلامًا طويلاً جرى بينهم وبين عليّ، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاري ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه، وأنهما إنما دخلا في الإسلام ولم يزالا في تردد فيه، وغير ذلك، وأنه قال في ذلك: لا أقول إن عثمان قُتل مظلومًا ولا ظالما؛...وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه», وموقف علي -رضي الله عنه- من قتل عثمان واضح قد بينته في كتابي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وفي هذا الكتاب.