الجمعة

1446-09-14

|

2025-3-14

اختلف المؤرخون وأهل العلم حول بداية نشأة المدارس الإسلامية؛ فمنهم من قال إنها ظهرت في عهد نظام الملك الذي أنشأ المدرسة النظامية سنة 459هـ، ومنهم من قال إنها كانت قد ظهرت قبل ذلك بكثير، ولكن بالرجوع إلى المصادر والكتب المتخصصة نجد أن أول ظهور للمدرسة كان في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجريين, وهذه المدرسة هي مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري «150هـ - 217هـ»، ويبدو من نسبتها إلى مؤسسها أنها قد أُسّست أثناء حياته، وأبو حفص البخاري من الفقهاء الذين تزعموا الحركة الفكرية في مدينة بخارى، ثم نشطت حركة إنشاء المدارس في بلاد المشرق بعد هذا التاريخ؛ فقد تم إنشاء مدرسة بنيسابور منذ بداية القرن الرابع الهجري، أنشأها الإمام أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الشافعي (270 – 354هـ). 

وقد كانت المدارس التي أُسّست في ذلك الوقت مدارس أحادية المذهب تفردت بتدريس مذهب واحد، ذلك لأن التنافس المذهبي الذي كانت تعيشه بغداد حاضرة الخلافة قد امتد إلى بلاد ما وراء النهر، ومن الجدير بالذكر أن المدارس كانت قد ظهرت في دمشق قبل ظهورها في بغداد؛ فقد تم إنشاء أول مدرسة فيها عام 391هـ، وهذه المدرسة هي المدرسة الصادرية المنسوبة إلى منشئها، صادر بن عبد الله، وتبعه بعد ذلك مقرئ دمشق «رشأ بن نضيف»؛ إذ قام بتأسيس المدرسة الرشائية في حدود الأربعمائة للهجرة، وإلى هذه المدارس خرج الطلبة من الحلق التي كانت تُعقد في المسجد إلى مكان يختص بتلقي علم معين، فيوقف عليهم وعلى شيوخهم المال وتُوفّر لهم أسباب التعليم، وفيما يلي ذكر لبعض المدارس التي أنشئت قبل المدرسة النظامية، وهي حسب التسلسل الزمني لظهورها وعلى سبيل المثال لا الحصر: 

1- مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري (150هـ - 217هـ). 

2- مدرسة ابن حيان، في بداية القرن الرابع الهجري، وفي حوالي سنة 305هـ شيّد أبو حاتم بن حيان البستي داراً في بلده "بست"، وجعل فيها خزانة كتب وبيوتاً للطلبة. 

3- مدرسة أبي الوليد، قبل سنة (349هـ) أُنشئت مدرسة أبي الوليد حسان بن أحمد النيسابوري الشافعي (ت 349هـ)، ويذكر أنه كان كثير الملازمة لها. 

4- مدرسة محمد بن عبد الله بن حماد (ت 388هـ) الذي وصفه السبكي بأنه كان إلى أن خرج من دار الدنيا وهو ملازم لمسجده ومدرسته. 

5- المدرسة الصادرية التي أنشأها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 391هـ في مدينة دمشق. 

6- المدرسة البيهقية بنيسابور، والتي أنشئت قبل أن يولد نظام الملك -وقد ولد سنة 408هـ- فتكون هذه المدرسة قد أُنشئت قبل هذا التاريخ. 

7- مدرسة أبي بكر البستي (ت429هـ) والتي بناها لأهل العلم بنيسابور على باب داره، ووقف جملة من ماله عليها، وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والناظرين بنيسابور. 

8- مدرسة الإمام أبي حنيفة التي أُنشئت بجوار مشهد أبي حنيفة، وأسسها أبو سعد بن المستوفي؛ إذ تم افتتاحها قبل افتتاح المدرسة النظامية بخمسة شهور. وقد ذكر بعض المؤرخين أن الغزنويين اهتموا بالمدارس من خلال بعض أمرائهم، كالنصر بن سبكتكين حينما كان والياً على نيسابور وسماها السعدية, وجاء نظام الملك فوجد أمامه هذه النماذج العديدة من المدارس، ورأى الفاطميين قد سبقوه إلى تشييد الأزهر، والاعتماد عليه في دعوتهم ودراسة مذهبهم، فكانت هذه مصادر إيحاء وتحفيز للقيام بإنشاء مجموعة من المدارس، وليس مدرسة واحدة لتشارك المجاهدين في حربهم ضد المبتدعين بنفس السلاح. لقد تسربت الباطنية إلى سوريا وفارس والعراق، وأخذت بالانتشار بسبب إغراء الدعاة وإثارتهم، فطاف ناصر خسرو ومن بعده حسن الصباح يدعوان للمذهب الباطني الإسماعيلي الشيعي الرافضي، وقام إبراهيم ينال ثم البساسيري في الموصل وبغداد بثورتين عنيفتين كادتا تقضيان على الخلفاء السلاجقة جميعاً، وكان لدار الحكمة والأزهر اللذين أسسهما الفاطميون في القرن العاشر الهجري بالقاهرة الأثر الأكبر في بث مبادئ التشيع الإسماعيلي ونشر الحكم الفاطمي، ولم يكن إيقاف حركة الباطنية هذه -فضلاً عن القضاء عليها- بالأمر الهيّن؛ فجذورها قد تغلغلت في جسم البلد الإسلامي الكبير، بحيث لم يبق عضو منه سليماً، وبخاصة إقليم خراسان فإنه كان موطن المغذّين لها بالآراء الفلسفية والبراهين المنطقية إن لم يكن من المؤسسين لها، وقد اتخذ هؤلاء وسيلتهم في الإقناع والحجة عن طريق الحوار والمناقشة. لقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الباطني عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ، فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح إلاّ إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة -إمامية كانوا أم إسماعيلية- نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلاّ نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، خاصة أن السلاجقة ورّثوا في فارس والعراق نفوذ بني بويه الشيعيين، وهؤلاء لم يألوا جهداً في تشجيع الإمامية على نشر فكرهم، كما غضّوا الطرف عن نشاط دعاة الإسماعيلية في فارس والعراق، وترتب على ذلك كله تزايد نفوذ الشيعة فيهما، خاصة بعد أن لجأ الشيعة إلى إنشاء مؤسسات تعليمية تتولى الترويج لعقائدهم، وتعمل على نشرها، فقد أنشأ أبو علي بن سِوار الكاتب أحد رجال عضد الدولة (ت 372هـ) دار كتب في مدينة البصرة وأخرى في مدينة رام هرمز، وجعل فيها إجراء على من قصدهما، ولزم القراءة والنسخ، وكان في الأولى منهما شيخ يدرس عليه علم الكلام على مذهب المعتزلة، كما أسس أبو نصر سابور بن أرد شير وزير بهاء الدولة (ت 416هـ) داراً للعمل في الكرخ في عام 383هـ، ووقف فيها كتبًا كثيرة. ذكر ابن الأثير أنها بلغت عشرة آلاف وأربعمائة مجلد في أصناف العلوم، وأُسند النظر في أمرها ورعايتها إلى رجلين من العلويين يعاونهما أحد القضاة، وبعد وفاة سابور آلت مراعاة هذه الدار إلى الشريف الرضي نقيب الطالبيين، كذلك اتخذ الشريف الرضي (ت 406هـ) الشاعر الإمامي المشهور دارًا أسماها دار العلم، وفتحها لطلاب العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه. 
ويدل مجرد اسم هذه المؤسسات على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة، فكانت دار الكتب تُسمّى قديماً "خزانة الحكمة"، وهي خزانة كتب ليس غير، أما المؤسسات الجديدة فتسمى "دور العلم"، وخزانة الكتب جزء منها. وهذا يشير إلى أن هذه الدور الجديدة كانت لها وظيفة تعليمية أيضاً، وإلى جانب دور العلم هذه كان كثير من أئمة الشيعة الإمامية يقومون بالدعوة إلى مذهبهم ونشر عقائدهم في بيوتهم الخاصة، أو في مشاهدهم، وأعني بها المساجد التي دُفن فيها أئمتهم – على حد قولهم-؛ لأن بعضها لا يثبت- والتي عُرفت عندهم بالعتبات المقدسة: فقد كان الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان، شيخ الإمامية المتوفى في عام 413هـ يعقد مجلس نظر بدار يحضره جميع العلماء، وكانت له منزلة عند أمراء الأطراف يميلهم إلى مذهبه، وأما أبو جعفر الطوسي محمد بن الحسن فقيه الإمامية (ت 460هـ)، فقد فر إلى النجف بعد أن هوجمت داره في بغداد، ونُهبت محتوياتها في عام 448هـ في حملة الضغط التي تعرض لها الشيعة في بغداد عقب دخول السلاجقة إليها، وتمكن الطوسي في مقره الجديد من مواصلة نشاطه العلمي والتعليمي، فألف مجموعة من الكتب في الفقه والحديث على مذهب الإمامية احتلت مكاناً بارزاً في الدراسات الشيعية الإمامية، كالتهذيب والاستبصار، وهما من الكتب الأربعة المعوَّل عليها عندهم، والتي تحفل بالروايات الضعيفة والموضوعة والتي لا وزن لها في الميزان العلمي الصحيح، كما أملى الطوسي – في مشهد النجف – على طلبته كثيراً من الدروس جمعها في كتاب سماه الأمالي. هذه بعض الجهود التي قام بها الإمامية للترويج لمذهبهم والدعاية له، أما الإسماعيلية، فكانوا أساتذة هذا الميدان ولهم القدم الراسخة فيه؛ إذ حازوا قصب السبق في إنشاء المؤسسات التعليمية، وتوجيهها وجهة مذهبية. بدأ الفاطميون نشاطهم في هذا المجال منذ قيام دولتهم في الشمال الإفريقي, وكان عهدهم الذهبي بإنشاء الجامع الأزهر عام 359هـ، وجعلوا منه مؤسسة تعليمية تُعنى بنشر مذهبهم في عام 378هـ عندما سأل الوزير يعقوب بن كلس الخليفة العزيز في صلة رزق جماعة من الفقهاء فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبُنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تُصلّى العصر، وكان لهم من مال الوزير صلة في كل سنة. ثم أنشأ الحاكم بأمر الله دار العلم «دار الحكمة» للغرض ذاته في عام 395هـ، وحُملت الكتب إليها من خزائن القصور، ومن خزائن مقر الدولة الفاطمية, وأجرى الأرزاق على من رسم له بالجلوس فيها، والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر، هذا بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي كانت تُعدّ بعناية خاصة في عاصمة الخلافة الفاطمية لإعداد الدعاة، وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي، وكان لذلك أثره في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجة لهذه الجهود المنظمة المستمرة في نشر هذه الدعوة، لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به، ومعنى ذلك أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً، وتربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله، وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي. ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نُسبت إليه؛ لأنه هو الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة، فكان من الطبيعي أن تُنسب إليه من دون السلاجقة. لقد كان نظام الملك شافعياً سنياً حريصاً على الإسلام الصحيح، وقد عاصرته آراء وأفكار متباينة مختلفة كانت منتشرة في العالم الإسلامي كالمعتزلة والباطنية وبقايا القرامطة وغيرهم من أصحاب الملل والنحل. وكان نظام الملك يرمي بدرجة كبيرة إلى توجيه الرعية وجهة تخدم مصلحة الدولة، وتبعث على الاستقرار والسكينة والأمن، لذا كان هَمُّ نظام الملك التأكيد في مواضع الدراسة على إفهام الناس عامة ومنتسبي النظامية خاصة أصول الدين الصحيحة، ولما كان نظام الملك شافعياً، كان يرى أن يُدرَّس الفقه والأصول المستمدة من أفكار وآراء الشافعية, وكان من شروط النظامية أن يكون المدرس من الشافعية أصلاً وفرعاً. 

إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المد الباطني في أنحاء المعمورة, وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظماءها، والكثير من رموز الأمة الإسلامية في عالم السياسة والفكر والعلم والتاريخ والثقافة في حالة استرخاء وفتور، والبراكين المدمرة تجري من تحتهم، فهلا نستلهم الدرس، ونستخرج العبرة، ونعمل بالسنن والقوانين الإلهية في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من حكامنا، مثل ألب أرسلان في غيرته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته، ومن علمائنا كالجويني والغزالي، وابن عقيل والبغوي وغيرهم في دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة، وقضايا الفكر، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة وتاريخه الموثق وفكره البديع من خلال الفضائيات والإنترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارس والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها، نريد بذلك وجه الله وأجره ومثوبته ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. 

ثانياً: الأهداف التعليمية للمدارس الإسلامية وخصوصاً النظامية: 
إن من أبرز الأهداف التي عملت المدارس على تحقيقها في بداية ظهورها: 

1- تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وذلك بأن يكون العبد يعبد ربًا واحدًا. وأن تستقيم وتنتظم حياة البشر ضمن هذه الغاية، ولا يُتوصَّل إلى المعرفة الحقة والعبودية الخالصة لله إلاّ بوجود دوائر تعمل على تحقيق هذه الغاية، ولذلك كانت المدرسة التي عملت وسعت لتحقق وتوضح هذا الهدف في نفوس طلابها, قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]. 

2- الأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة، وذلك لأن معالم الشريعة لا تكون واضحة ولا تُعرف أحكام الدين إلاّ عن طريق التعليم الإسلامي القويم، والتعليم الصحيح هو الطريق الأمثل للوصول إلى مُراد الشارع سبحانه وتعالى؛ إذ يقول في كتابه الكريم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]؛ إذ إن العبادات كافة التي شُرعت ما كانت إلاّ لعبادة الله سبحانه وتعالى, التي يترتب عليها الهداية والرحمة. 

3- ويترتب على الهدف السابق هدف آخر هو إعداد الإنسان الصالح بنفسه المصلح لغيره، ولذلك اعتبر هذا الهدف مهماً من وجهة نظر التعليم الإسلامي؛ فالتعليم الإسلامي يُعِدُّ الفرد لكي يكون آمراً بالمعروف معيناً عليه وعلى فعله، وناهياً عن المنكر داعياً إلى تركه بعد أن يكون هو نفسه قد امتثل هذا الأمر أو النهي. 

4- توفير جو علمي، تهدف المدرسة الإسلامية إلى توفير جو علمي يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا ويؤلفوا ويبتكروا؛ فيضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة. 

5- العمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، فالمدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات، بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة, وهذا ما يُسمّى عند علماء التربية الإسلامية «نقل التراث»، وهذا يكون من خلال إطلاع الطلبة على التراث الحضاري والفكري لدى الأمة، مما يؤدي إلى توسيع الأفق لديهم نتيجة لاطلاعهم على تلك الخبرات. 

6- إعداد الكوادر الفنية، تهدف المدرسة من وراء تعليمها للطلبة إلى إعداد الكوادر الفنية المؤهلة لممارسة الأعمال المختلفة سواء في الجهاز الحكومي أو في غيره، خصوصاً أن الوظائف قد تشعبت وكثرت وتضخمت، ولذلك قامت المدرسة بتخريج الأفراد الذين عملوا على تحمل مسؤولياتهم في تلك الوظائف، فهذه الأهداف للمدارس الإسلامية تشترك فيها المدارس النظامية بالإضافة إلى: 

- نشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل على تقليص نفوذه. 
- إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة. 
- إيجاد طائفة من الموظفين السنيين ليشاركوا في تسيير مؤسسات الدولة وإدارة دواوينها، وبخاصة في مجال القضاء والإدارة. 


ثالثاً: وسائل نظام الملك في تحقيق الأهداف وحله للمشاكل: 
أبدى نظام الملك اهتماماً كبيراً بوسائل تحقيق أهداف المدارس النظامية؛ فاختار الموقع الجغرافي الذي يمكن أن تثمر فيه والمدرسين الممتازين، وأظهر ذكاء ملحوظاً في تحديد المنهج العلمي الذي ستسير عليه، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على العطاء الفكري السخي. 

1- الأماكن: فمن ناحية الأماكن التي أنشئت النظاميات فيها يقول السبكي عن نظام الملك: إنه بنى مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل. هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أُنشئت في المشرق الإسلامي, ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أُنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضاً. والثانية كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه (عصر نظام الملك), وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية. إن هذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع المدارس النظامية في الأماكن السابقة لم يأت اعتباطاً، وإنما كان أمراً مقصوداً ومدروساً حتى تقوم بدورها في محاربة الفكر الشيعي في هذه المناطق، وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني. 

2- اختيار الأساتذة والعلماء: وإلى جانب الاختيار المدروس لأماكن المدارس النظامية فإنه تم اختيار أساتذتها بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه: وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرّس فيه صلاحية الولاية ولاّه.. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتّب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خالٍ من العلم ليحلِّي به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله. وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعيّن الواحد منهم إلاّ بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته, وحدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات أستاذه في عام 478هـ قصد مجلس نظام الملك، وكان مجمع أهل العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاّه الصاحب «نظام الملك» بالتعظيم والتبجيل و ولاّه التدريس بمدرسته ببغداد. وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي (ت 496هـ) الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأُعجب به، وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصفهان، وعيّنه مدرساً بمدرستها فنال جاها عريضاً. كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي (ت 483هـ)، ليدرس بنظامية بغداد؛ لأنه كان بارعاً في الفقه والجدل. وفي بعض الأحيان كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً فيبني له مدرسة باسمه, حدث هذا مع الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (ت 476هـ) الذي بنى له نظامية بغداد، ومع إمام الحرمين الذي بنى له نظامية نيسابور, وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في عام 475هـ، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك، فأكرماه وأُجيب إلى جميع ما التمسه، وجرت بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة. 

3- تحديد منهج الدراسة: كما اعتنى نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حدد منهج الدراسة الذي ستسير عليه هذه المدارس، ويتضح هذا المنهج مما ورد في وثيقة وقفية نظامية ببغداد من أنها: وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً, وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب. وينقل الأستاذ سعيد نفيسي عن المفروخي، مؤلف كتاب محاسن أصفهان قوله: إن نظام الملك أمر بابتناء مدرسة تجاور جامع أصفهان للفقهاء الشافعية: فابتُنيت كأحسن ما رُئي هيئة وهيكلاً وصنعة وعملاً ومحلاً ومنزلاً، ومما لا شك فيه أن تراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية كان لها أثر على تلك المدارس، وليس في الفقه فقط المتعلق بالأحكام الشرعية العملية، وقد اعتاد بعض الباحثين القول بأن معظم الشافعية -في هذه الفترة – يتبعون أصول مذهب الإمام الأشعري، كما أن أبا الحسن الأشعري في مجال الاعتقاد مر بأطوار واستقر في آخر حياته على مذهب السلف، والأشاعرة من أهل السنة والجماعة، ولذلك سنبين -بإذن الله تعالى- شيئًا من سيرة الإمامين الشافعي وأبي الحسن الأشعري اللذين على تراثهما العلمي قامت المدارس النظامية التي كانت تخرج العلماء الذين يتبنون عقيدة الدولة السلجوقية، وكان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما: الفقه على المذهب الشافعي، وأصول العقيدة على مذهب الأشعري, وإلى جانب ذلك كانت تُدرّس بعض المواد كالحديث، والنحو, وعلمي اللغة والأدب، ويشير ابن الجوزي إلى أن وقفية نظام الملك الخاصة بمدرسة بغداد نصّت على أن يكون في المدرسة نحوي يدرس العربية، وقام بتدريس الأدب في نظامية بغداد أبو زكريا التبريزي، شارح ديوان الحماسة (ت 502هـ)، ثم خلفه في التدريس العالم اللغوي المشهور أبو منصور الجواليقي (ت 540هـ). كانت المدرسة الأشعرية السنية مؤهلة لمواجهة الشيعة فكرياً، وهم الذين تسلحوا بدراسة الفلسفات المختلفة واستخدموا الجدل في الدفاع عن عقائدهم، وأخذوا عن المعتزلة معظم أصولهم، فأصبحت تشكل لبنات مهمة في منهجهم الكلامي، لقد كانت من الفئات القادرة على الجهاد الدعوي في هذا الميدان الفكري، وهم الذين استوعبوا تراث أبي الحسن الأشعري، ولذلك نقول: إن نظام الملك وُفّق تماماً في اختيار المنهج الملائم لتحقيق الهدف الذي سعى إليه. ويأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله. 

4- توفير الإمكانات المادية: لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعاً وأملاكاً، وسوقاً بُنيت على بابها، وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسطًا من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يومياً لكل واحد منهم، أما مدرسة أصفهان فقُدّرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان للمدرسة النظامية في نيسابور أوقاف عظيمة، وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس، ويُفهم من بعض الروايات التاريخية أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به؛ إذ روي أن واحداً من طلابها، ويُدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547هـ وكانت له غرفة في النظامية، فحضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة، كما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، فإنه حرص أيضاً على تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث فاهتم اهتماماً كبيراً بتوفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مدرسة مكتبة عامرة يتولى أمرها قوّام على شؤونها, وأشار ابن الجوزي إلى أن وقفية نظامية بغداد نصت على أن يكون متولي الكتب بها أيضاً شافعياً، كما أشارت إلى أن نظام الملك وقف على هذه المدرسة كثيراً من الكتب، وكان نظام الملك يتفقد هذه المدارس خاصة نظامية بغداد- ففي المحرم من عام 480هـ زار هذه المدرسة وجلس في خزانة كتبها، وقرأ بها كتباً، ثم شارك في التدريس، فقرأ الفقهاء عليه شيئاً من الحديث الشريف، وأملى عليهم بعضاً منه، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الجهود التي بذلها نظام الملك في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها, إلى رواج سوق العلم بها، فأقبل عليها طلاب العلم والجاه حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد سنة 488هـ ثلاثمائة طالب كانوا يتفقهون على الإمام الغزالي، أما نظامية نيسابور فكان يقعد بين يدي إمام الحرمين كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة. 

5- تطلع الأساتذة إلى التدريس بالنظامية: ولم يكن الإقبال على هذه المدارس مقصوراً على الطلاب فقط، بل شمل أيضاً الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس بها حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه في عصر كان التعصب المذهبي سمة من سماته البارزة، ومن هؤلاء: أبو الفتح أحمد بن علي بن تركان المعروف بابن الحمامي (ت 518هـ), كان حنبلياً، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتفقّه على أبي بكر الشاشي والغزالي، فجعله أصحاب الشافعي مدرساً بالنظامية، ويبدو أن انتقال الحنابلة إلى مذهب الشافعي في هذه الفترة كان أمراً كثير الحدوث بدرجة أزعجت أحد أئمتهم وهو أبو الوفاء بن عقيل (ت 513هـ)؛ إذ يُنقل عنه أبو الفرج بن الجوزي قوله: إن أكثر أعمال الناس لا يقع إلاّ للناس إلاّ من عصم الله. أي أن معظم الناس لا يبتغون بأعمالهم وجه الله, وإنما يحاولون التقرب بها إلى ذوي النفوذ والجاه طمعاً في متاع الدنيا، وقد ضرب أبو الوفاء المثل على ذلك بما حدث عندما جاءت دولة نظام الملك، وعظم شأن الأشعرية والشافعية، فوجد كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا عن مذاهبهم، وتوثقوا بمذهب الأشعري والشافعي طمعاً في العز والجرايات. 

6- حله للمشاكل: كان نظام الملك حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها؛ فعندما أرسل إليه أبو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة قام نظام الملك وقضى على الفتنة, ومما قاله أبو الحسن الواسطي من الشعر: 
يا نظامَ الملكِ قد حلّ ببغدادَ النظامْ 
وابنُك القاطنُ فيها مستهانٌ مستضامْ 
وبها أودى لقتلى غلامٌ، وغلامْ 
والذي منهم تبقّى سالماً فيه سهامْ 
يا قوامَ الدينِ لم يبقَ ببغدادَ مقامْ 
عظُمَ الخطبُ وللحربِ اتصالٌ ودوامْ 
فمتى لم تحسمِ الداءَ أياديك الحسامْ 
ويكفّ القومُ في بغدادَ قتلاً وانتقامْ 
فعلى مدرسةٍ فيها ومَنْ فيها السلامْ 
واعتصامٌ بحَريمٍ لك من بعدُ حرامْ 

وكانت سياسة نظام الملك تجنب الانحياز إلى جانب دون الآخر من عقائد أهل السنة, وكان يعمل على شد أزر العلماء لا العمل على إدخال الخلاف والشقاق في صفوفهم, وأعلن استحالة تغيير أي شيء من عقائد أصحاب مذهب سني، وقال: إنه لا يمكن تغيير المذاهب، ولا نقل أهلها عنها وصرّح بأن الغالب على تلك الناحية مذهب أحمد، وبأن محله معروف عند الأئمة وقدره معلوم عند السنة، وسُرَّ الحنابلة بهذا التوجه الحكيم. وأول صراع وخلاف حاد بين الحنابلة والأشاعرة كان في عهد نظام الملك, وتُعرف هذه المحنة بفتنة ابن القشيري. 

رابعاً: تنظيم الهيئة التدريسية: 

تُعدّ الهيئة التدريسية على درجة كبيرة من الأهمية في أي مدرسة كانت، وذلك لأن نجاح أي مدرسة مقرون بنجاح المدرسين فيها وأدائهم لمهماتهم على أفضل وجه , وإليك بعض الأمور المتعلقة بتنظيم الهيئة التدريسية وهي: 

1- تعيين الأساتذة وفصلهم: كان اختيار الأساتذة للتعليم في النظاميات يجري وفق تقاليد تشبه أرقى الجامعات الحديثة، فقد كان «النظام» يختبر معلوماتهم خلال المناظرات التي كان يعقدها في المناسبات المختلفة، ويلقي عليهم أسئلة كان قد فكّر وأعدّها، فإذا لمس في أحدهم علماً وذكاء وجّهه إلى المسلك الذي يريده، فالذين يكونون أهلاً للتعليم عيّنهم أساتذة في الحال وأسّس لهم مدرسة ومكتبة أو يوفدهم إلى ولاية سكانها جهلاء، وإذا صدر الأمر بالتعيين سار المدرس إلى الجهة التي اختير لها، فإذا كان إلى بغداد مثلاً توجّه إلى دار الخلافة عند وصوله حيث يُوافق على التعيين، ثم يُخلع عليه طرحة زرقاء وأهبة سوداء، ويُحتفل به في المدرسة حين يقدم لأول مرة، ويحضر درسه كبار رجال الدولة والأساتذة والشعراء, وحين ينتهي من درسه تُلقى الخطب والقصائد في الترحيب به والثناء عليه. وإذا ما أُريد فصل مدرس لسبب ما استُدعي من قبل ممثل «نظام الملك»، وغالباً ما كان أحد أولاده، وينزع منه كسوته. 

2- مراتب التدريس: وقد جرى العرف أنه إذا تم تعيين من تتوافر فيه شرائط القدم والشهرة أن يبقى في منصبه طوال حياته, فإذا دنت منه الوفاة فغالباً ما يوصي بمن يخلفه من كبار أبنائه أو المتفوقين من طلابه، إلاّ في مدارس «النظام» فقد خرجت على هذا المتعارف لأسباب سياسية بعد أن خضعت هذه المدارس لحكم وإرادة مؤسسها، وقد يتناوب مدرسان على كرسي واحد خلافاً للمألوف. 

أ- المدرس: كان هذا اللفظ لا يُطلق إلاّ على المختص بتدريس الفقه, وإلقاء الدروس التي لا يُقصد بها في العادة سوى مواضيع الفقه، فإذا بلغ المدرس مرحلة عالية من الشهرة في الاطلاع والتأليف صار أستاذاً، وأصبح له كرسي المادة دون منازع فيه. 

ب- النائب: وهو المكلف بالقيام بتدريس الموضوع نيابة عن المدرس إذا كان مشغولاً بعمل إداري أو قضائي أو لمرض أو سدّ الشاغر في فترة لا يوجد فيها مدرس. 

جـ- المعيد: يختار المدرس من بين طلبته معيدين لدروسه، وقد يكتفي بواحد حسب حاجته، ومهمته أن يلقي الدرس على الطلبة وأن يساعدهم في فهمه, لذلك فهو يحتاج إلى لباقة واطلاع, لذا كان من هؤلاء المعيدين مدرسون في مكان آخر. 

3- مرتبة الصدر: وصاحب هذه المرتبة له الصدارة المطلقة في المدرسة، ويشغلها من كان يُطلق عليه لفظ الصدر، والظاهر أن الصدر هو إمام العصر في الفقه أو الحديث أو التفسير، أو في أي علم من العلوم، أو هو من أكبر الأئمة في عصره، وأكثرهم تمكناً من مادته العلمية، وعلى يديه يتخرج الكثير من نوابغ المدرسين، وإليه يذهب الملوك والأمراء والوزراء والفضلاء لسماعه والإفادة منه، وليس من الضروري أن يكون في كل مدرسة صدر؛ فأولئك قلة، ومن حسن حظ المدرسة وكمال شهرتها أن يتصدر للتدريس بها أحدهم. 

4- مراتب المتعلمين: لعل أولى درجات الدارس أن يُطلق عليه اسم تلميذ أو طالب ثمّ بعد أن يصل إلى المرحلة العالية في المعرفة يُقال له: مثقف ثم فقيه؛ فإذا أكمل دراسة منهجه وبقي ملازماً لأستاذه ليستكمل علومه يُسمّى بالصاحب، وقد يعتمد عليه أستاذه فيعينه معيداً لدروسه، وناسخاً لمؤلفاته تحت إشرافه. 

5- الكتاب المدرسي: كان التأليف من الاعتبارات التي تُراعى عند اختيار أساتذة النظامية، وكانت الدرجات العلمية التي تُمنح لهم أو يُعيّنون بها أو ينتقلون بموجبها إنما تعتمد على هذا الأساس في الغالب، وكان الكتاب المدرسي الذي يضم مجموعة محاضرات الأستاذ سرعان ما ينتشر، فما إن يمله على طلبته ويسمعوا عنه حتى يستنسخوه ويتبادلوا النسخ المصحّحة أو المجازة من قبل مؤلفها، ولا تمر فترة قصيرة حتى يتدارسه المعنيون بموضوعه، وقد يُطلق على مجموعة تقريرات الأستاذ في الفقه اسم التعليقة، فيحفظها الطلبة ويتناقلونها، ومن هذه التعليقات ما يبلغ بضعة مجلدات، وكلما كانت التعليقة أكثر أصالة كانت أكثر انتشاراً وتدارساً من قبل المعنيين، وكان من عادات الأساتذة إذا ختموا كتاباً احتفلوا لذلك، ومما يُروى بهذا الشأن أن الإمام الجويني عندما أتمّ تصنيف كتابه – نهاية المطلب في دراسة المذهب – وكان قد درّسه للخواص من تلاميذه, عقد مجلساً حضره الأئمة الكبار، وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء، ودعا له الجماعة. 

6- القبول والتخرج: ليس هناك سن محددة للقبول في هذه المدارس؛ فقد يدخلها الطالب وهو ابن الثلاثين أو أكثر، إلاّ أنه لا يقل عن العشرين في العادة؛ إذ يكون قد قضاها في التعليم بين المسجد والكتاتيب، فإذا انتمى لإحدى النظاميات وانتظم في سلك طلبتها وتلقى دروسها، فليس هناك سنّ معينة تمنع من سماعها؛ فقد يحضرها وهو في سنّ الثمانين، وليس هناك وقت محدد للمادة التي يستغرقها الدرس أو عدد الدروس اليومية؛ فقد يستمر ساعة أو ساعتين وهناك نصّ يمكننا الاستفادة منه في تحديد أقل مدة يصل فيها الطالب مرحلة الاعتماد على نفسه، والاستغناء عن الجلوس بين يدي أستاذه؛ إذ ذكر ابن الجوزي في ثنايا ترجمته لأبي علي الفارقي أحد تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي أنها أربع سنوات. 

7- الإجازة: (شهادة التخرج): هي الوثيقة المدرسية, وكان الاستماع للمحاضرات من شرائطها؛ لأنها لا تفي بالقصد من الدراسة والغرض من التعلم إذا لم يصحبها حضور، وهذا ما علّل به الماوردي عدم صحة حمل الإجازة والرواية بها فقال: ولو جازت لبطلت الرحلة. وقد يُمنح الطالب عدة شهادات من شيوخ متعددين, والحصول عليها في العادة يكون بناء على طلب يتقدم به لمدرسه بعد أن ينهي دراسته، وقد أصبحت هذه ضرورة بعد تأسيس النظاميات وانتشار المدارس، فإذا نال إجازته فقد أصبح مهيأ لأن يشغل أحد مناصب القضاء، أو الإفتاء، أو التدريس، أو المناظرة، وقد يحظى بأكثر من واحدة منها فيكون قاضياً ومفتياً ومدرساً في آن واحد، أو أن يكون حرًّا، فيعمل ليكون محدثاً أو متكلماً أو واعظاً أو خطيباً في أحد المساجد. 

خامساً: أثر المدارس النظامية في العالم الإسلامي: 

وفق الله تعالى النظام توفيقاً قلّ نظيره في التاريخ السياسي والعلمي والديني، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً، وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون؛ إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز آبادي المتوفي 817هـ فقد زالت في نهاية القرن التاسع الهجري، وأدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي وزودت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحاً من الزمن وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء, وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر، وبلغوا الشمال الإفريقي، ودعموا الوجود السني بها, لقد تخرج في هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيراً من الذين تخرّجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية المهمة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي – أول مدرس بنظامية بغداد قوله: خرجتُ إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلاّ وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي، وقد أسهمتْ هذا المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضاً تقلُّص نفوذ الفكر الشيعي خاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس, وكان الإمام الغزالي على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة، وخاصة الباطنية الإسماعيلية؛ فقد ألف كتباً عدة، أشهرها فضائح الباطنية الذي كُلّف بتأليفه عام 487هـ من قبل الخليفة المستظهر، وسيأتي الحديث عن مؤلفاته عند الحديث عن ترجمته بإذن الله. هذا وقد نجحت المدارس النظامية في نشر مذهب الإمام الشافعي وتقوية عُوده، ودخل مناطق جديدة، وبدأ يشق له طريقاً في العراق وفي المشرق الإسلامي بعد أن كانت السيادة في هذه الأقاليم – عدا بغداد – من أتباعه، وقد صارت النظاميات مدعاة لبناء المدارس ومثاراً للتنافس بقدر ما أصبحت نموذجاً يحتذيه مؤسسو المعاهد منذ بداية تشييدها إلى ما بعد ذلك بعصور طويلة، وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل ويسّرته أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أُنشئت النظاميات، وتتمثل في العمل على سيادة الإسلام الصحيح، خاصة في المناطق التي كانت موطناً لنفوذ الشيعة، في تلك المرحلة كالشام ومصر وغيرها. 

لقد كانت المدارس من خير ما اهتدى إليه العقل البشري للتفرغ للعلم وفق معطيات ذلك العصر، وكانت «النظاميات» من أفضل الوسائل لنشره وتعميمه وتحقيق الأهداف التي رسمها نظام الملك من سيادة الكتاب والسنة وعقيدة أهل السنة والجماعة على الدولة والأمة الإسلامية ودحر المد الشيعي الباطني الرافضي الذي كانت الدولة الفاطمية بمصر تدعمه. 

المصدر : الاسلام اليوم                 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022